ثورة النساء



محمد علي محيي الدين
2008 / 1 / 4

قد يبدو العنوان مبالغة لغير المطلع على طبيعة المرأة في العراق وثورتها على العادات والتقاليد الاجتماعية،والمتابع للموروث الشعبي العراقي،يجد الكثير من الدعوات التحررية للانفتاح ونبذ التقاليد والثورة عليها،والدعوات التي ظهرت في المدن الكبرى لا تعد شيئا إزاء ثورة المرأة الريفية التي كانت لها وسائلها الإعلامية واسعة الانتشار من خلال الدارمي، الذي أنتشر في الريف العراقي بشكل واسع،لذلك فالريفية قد سبقت المرأة المتعلمة في الإعلان عن تمردها على التقاليد البالية والعادات الموروثة،ليس عن وعي أو اطلاع على الفكر العالمي بل من خلال حاجاتها الخاصة وظروفها العملية، وبرزت بين النساء الريفيات ملكات أدبية فطرية لم يكن للمرأة المتحضرة أثر فيها،وموضوعي هذا ينصب على المرأة العراقية لتكون أطار البحث لما تميزت به أوضاع العراق عن غيره من البلدان العربية.
والملاحظ أن نساء المدينة في العصر العثماني وما تلاه من ألاحتلال البريطاني للعراق،كن حبيسات البيوت،فرض عليهن الحجاب المتزمت الذي جعلهن مجرد كتل أدمية مغطاة بالسواد،لا ترى منها سوى ليل بهيم يتحرك،أو كتلة من اللحم ليس لها حق الخروج من المنزل،في الوقت الذي كانت فيه المرأة الريفية تتمتع بحرية من نوع خاص فرضتها طبيعة العمل الذي تقوم به في محيطها الاجتماعي،فالمرأة الريفية فلاحة من الطراز الأول،وتقوم بمعظم الأعمال الزراعية،في الوقت الذي لا يقوم الرجل بأي عمل يذكر،وهذا الأمر أعطاها بعض الحرية في الاختلاط بالرجال،والتحلل من قيود الحجاب المفروضة على نساء المدينة،ويندر وجود امرأة ريفية تلتزم بحجاب متزمت كما هو الحال في المدينة،بل أن الانفتاح الطبيعي في الريف جعل من السهولة الاختلاط بين الجنسين،وتبادل أحاديث الحب والغرام وإقامة العلاقات البريئة،وما يرافقها من ممارسات محتشمة لا تتعدى الحدود الممنوعة للعلاقات بين الرجل والمرأة،مما جعل الشذوذ الجنسي يتفشى في المجتمعات ذات التقاليد الصارمة وينعدم في الريف العراقي،وقصص الحب الخالدة في الريف دليل على الانفتاح ألعلاقاتي بين الرجل والمرأة،وانعدام الموانع لممارسة الحب.
وهذا الانفتاح والحرية النسبية في التعامل بين الجنسين،لا يعني أن المرأة تعيش في يسر وسهولة،ولا يوجد ما يكبل حريتها في التحرر والانطلاق،فالعادات والتقاليد الريفية فيها من القسوة والظلم ما يزيد على الظلم الموجود في المجتمعات الحضرية،فالمرأة ليس لها حق الميراث استنادا لآراء بعض الفقهاء في حرمان المرأة من الإرث في الأراضي الزراعية،رغم الشرائع السماوية التي جعلت للمرأة نصف ما يرث الرجل،وليس لها الحق باختيار شريك حياتها،أو يكون لها الرأي في زواجها،والأب والأخ قد يهب أبنته أو شقيقته إلى صديق،أو يبادلها مع رجل آخر بزوجة لها،أو ما لأبن العم أو الخال من حق في منع زواجها وهو ما يسمى ب(النهوة) ،لذلك نلاحظ أن الشعر النسوي حافل بالكثير من صور الظلم والتعسف الذي أحاق بالمرأة،وجعلها تعبر عن ضيقها وبرمها وثورتها على هذه العادات والتقاليد،والدارمي أو ما يسمى بشعر البنات يحفل بالكثير من علامات الثورة والرفض التي لم نجد لها صدى في الأدب النسوي العراقي في أزهى عصوره،وسنحاول هنا بيان بعض أوجه الثورة النسوية وانتفاضتها للخلاص من القيود التي وجدت لتكبيلها وتقييد أرادتها بما كانت تفرضه التقاليد الاجتماعية حيال المرأة.
1- الإكراه على الزواج:في المجتمعات المتخلفة لا رأي للمرأة في اختيار زوجها،وعليها الموافقة على ما يختار أهلها ،مما دفع بعض النسوة للتمرد على هذا الواقع ورفضه،والتعبير عن ذلك بما تردده من أغاني في خلواتها،أو بين صويحباتها فيأخذ صداه في تلك المجتمعات وبتداوله الناس دون الإشارة لقائليه،وبعضهن تضطر أمام هذا العنت إلى سلوك الطريق الآخر،لتهرب مع حبيبها إلى مكان بعيد عن موطنها الأصلي لا يمكن لذويها الوصول إليه،وقد يبحث الأهل عنها وإذا عثروا عليها كان مصيرها الموت المحتم،أو تضطر للدخول على أحد السادة أو شيوخ العشائر،الذي يدخل طرفا في الموضوع ليمنحهم الأمان،ويتكفل بإقناع أهلها ودفع تكاليف الزواج،أما اللواتي يجبرن على الزواج من آخر،فقد عبرن عن برمهن بهذا الزواج في الكثير من النماذج التي سنشير إليها،ولا تجد المرأة من تصب عليه جام غضبها غير أرادة السماء،وترى في التقسيم الإلهي للحظوظ والأرزاق تقسيم جائر لا تستسيغه العدالة التي هي من صفاته،ولا تستند لقواعد معروفة أو أسس ثابتة أو معايير معلومة،قسمة ضيزى ترتبط بالأهواء،لذلك تحمل مقدر الحظوظ ومقسم الأقدار مسئولية الجنايات الفظيعة التي أحاقت بها:
ينطي الناس وناس جسم الله بالكيف للنايم أرغيفين واليحرس أرغيف
وتتمرد على الواقع المر المستند لرغبات السماء:
يجسم الناس وناس جسم الله باطل طرحي بصخر ذبوه وخلوني أماطل
فيما تعلن الأخرى تمردها على الأعراف العشائرية التي جعلتها في المحل الأدنى من التقسيم الإنساني،وألزمتها بأمور لا تتلاءم وطبيعتها الإنسانية،وعليها الخضوع للقوانين غير المستندة لأدنى المعايير في المساواة،بل جاءت نتيجة توافقات عشائرية _ دينية – حكومية،جعلت منها سلعة بين هذه الجهات يتصرفون بها دون رغبتها ،ويعملون بالضد من توجهاتها ومصالحها،ويحاولون بشتى السبل تمرير إرادتهم مستندين في ذلك لقوانينهم الجائرة التي بنيت على أساس النظرة الذكورية والقوانين التي سنها الرجل،وتتعارض أصلا مع طموحاتها في التحرر والانعتاق:
ما نمت ربع الليل بالهم أسيرة أنطلب للحكام لو للعشيرة
وأخرى أجبرنها العادات البدوية المتأصلة في المجتمع العراقي على الزواج ممن يكبرها سنا ولا ترتبط معه بأي وشيجة،ولم تبادله الحب أو المودة التي هي شرط أساس للعقد المبرم بين الجانبين، وفيها أ‘لان لتمردها على القوانين الاجتماعية في تزويج المرأة على أسس بالية تستند لتوافقات لا علاقة لها بكونها إنسانة لها طموحاتها وآمالها وتوجهاتها في الحياة،فهي تخاطب زوجها الذي تمقته وتكن له الكره الشديد:
لو تأكل خريطاك لو بيدي أسمك لا ني فصل موتاك لا بنت عمك
وللمرأة تمردها على هذا الزواج الذي ليس لها رأي أو قول فيه،وهي ثورة ضد الزواج الأكراهي السائد في المجتمعات المتخلفة،وهذا الزواج أنواع كثيرة تناولناها بالتفصيل في كتابنا (الدارمي أو غزل البنات) منها زواج (السفطة) أي الهبة حيث يهب الأب أو الأخ أبنته أو شقيقته لأحد أصدقائه أو أبنائهم،وزواج (الكصة بكصة) وهي أن تتزوج المرأة مقابل أخرى لأخيها أو والدها،وزواج (الفصل) الذي يفرض على أهل القاتل،وإعطائهم امرأة أو أكثر لهم حق تزويجها بأي شخص حتى أن كان غير مناسب أو من المنبوذين في العشيرة،وهناك زواج(الفضيحة) عندما تحب أحداهن رجلا فأشتهر أمرهما بين الناس،فيعاقبها أهلها بالزواج من شخص تافه قبيح أو أهبل أو من نكرات المجتمع،وحتى في الزواج الاعتيادي ليس للمرأة رأي في اختيار شريك حياتها،لذلك عبرت عن رفضها لهذا الزواج بإضفاء النعوت والأوصاف الشنيعة على هذا الزوج،فأسمته بالثور والفود والعود وعفين وكعيم وغيرها وهي أسماء تدل على الضآلة والاحتقار:
يكلن لي دورين جن ينشدني حظ رجلي طاح وراح ويريده مني
أو قول الأخرى:
يلتكرب أعله كعيم طول فدانه والرايد كلاشات كص من أذانه
أما التي حرمت من حبيبها وفارس أحلامها،فهي تعبر عن ألمها وثورتها العارمة،وتتذمر حتى من تربية أولاده الذين جاؤوا عن طريق الأكراه:
يا بزر الهدانات يبجي ومهزه ولو كونه بزر أهواي جان أشمعزه
وأخرى تصف معاناتها جراء زواجها القسري،وتعلن أنها ما زالت على ما عاهدت عليه حبيبها،رغم أنها ولدت منه اثنا عشر ولدا،ولكنها لا زالت تعيش على أمل الزواج من حبيبها الأول:
ما أظن ابد بالناس بلوه على بلواي جبت أثنعش مكموع وآنه برجه أهواي
وأخرى تصف زوجها الذي لم تبادله الحب في يوم ما بالوذر وهو نعت يدل على الأحتقار والأزدراء وتتمنى له مرض ليس له شفاء:
جاني الوذر بردان حسباله أدفيه ريته بمرض مكروه لو عله تخفيه
وهناك الكثير من النماذج المعبرة عن ثورة المرأة ضد العادات والتقاليد سنتطرق اليها في مقال قادم.