عفراء حريري في وداع رقية أنوري: عدن... نساء الزمن الجميل



عفراء الحريري
2008 / 1 / 7

- إلى ماما "رقية أنوري" وداعاً والى جنة الفردوس يا أمي العزيزة..
إليك خط قلمي قبل رحيلك ولكنها الأقدار والحمد لله شاءت أن ترحلي قبل أن ترى، هذه السطور النور لتحكي عن قيادية نقابية، بل ومن مؤسسات لاتحاد نساء اليمن 1968م، وقيادية لجان الدفاع الشعبي عام 1983م ومسؤولة العمل الاجتماعي حتى 2003م لروح امرأة كانت أم لنا جميعاً لواحدة لمعت حتى آخر لحظات الحياة لماما رقية السيد محمد، المعروفه بـ"رقية أنوري".
مدينتي ولاَّدة... عدن كما يملأها الفرح وملأها بالأمس عندما زف إلينا ترشيح أستاذتي الفاضلة راقية حميدان لجائزة نوبل للسلام وحملت صحيفة الأيام ألف مبروك " عدن " واستمرت تحتضن في صفحاتها الشريفة الكلمات و الرأي الحر- أي كان نوعه ومصدره - فلم تستطع اغتيالها الضغائن وتتقبل نزف أقلام وسير نساء ولدن، ورحلن، ومازلن على قيد الحياة - عذراً بوجوه عابسة، بائسة، حزينة، مهدرة الطموح، مفقودة الأمل إلا من رحمة ربي.
وحتى وهن في مستوى عال من العلم والثقافة ومنصب مرموق في العمل وحضورإجتماعي وموقع حزبي ومستوى معيشي تحت خط الفقر فوق خط الفقر أوممن سلبت حقوقهن وأهدرت كرامتهن وآدميتهن... وجوه تتأمل في أفق لاتراه حيث سدت منافذ البحر بعمارات تمدن أسمنتي زائف حجب البحر والحلم الجميل وطمس على عجل تاريخ المدينة فمحا ماتم الوصول إليه إثماً وسيمحو ما تبقى ولن يبقى سوى ذكريات الزمن الجميل للعمر المسروق منا على عجالة حتى في زمن الحقوق التي قدمت على طبق من ذهب، كما يحلو للبعض تسميتها ولم تناضل فيه النساء "زمن الشمولية".
فقد أتفق مع البعض وقد أختلف فكل كان له مصالحه " إلا أنا ومن معي " ولكن لا يعني ذاك بأنه لم يكن زمناً جميلاً أيضا على امتداده ومده وجزره وحرمانه وشحته تجاه البعض ونفي البعض وحرمان البعض ولكن ظلت فيها كرامتنا في المواطنة، مساواة وعدلاً، حيث ساد القانون. فلم ينتابني الخوف من أن أدفن وفق فتاوى يصدرها فيدا وعرف ويدعي علي الكفر ليستبيحني والمدينة تصبح حقاً مباحاً/ والمدينة بحر أراه أفرغ فيه بعض حزن كان ينتابني، وجبال كانت تقوم على الأرض تمدني بشموخ، وبسمة الأطفال تزرع أشجار كروم في نفسي، وأناشيد الانتماء للمدينة " بل الوطن " تاريخ وجغرافيا ترتسم بعد أبعاد الحدود فلست من السبايا.
تمنيت أن أكون من نساء الزمن الجميل.. كل شيء غائب عن عيني مثلما هدمت ملاعب الصغار المجانية، ولقاء الأهل والأحبة والأصحاب خالي من الفرح ولاحكايا غير الشكاوى وكثيرا من الدموع، وبراءة الأطفال مغتالة، ويتفاقم الجوع فيؤلم... وغيره الكثيرحتى الأخلاق أصبح لها سعر رخيص، واستبدلت المدينة فلم يعد سوى زمن قبيح بغوغائيته وعبثه وفساده، ولاقبول سوى لمن حالفهن الحظ بأن يبقين حريم سلطة أوحزب حاكم أوحزب ليس له حاجة بالنساء إلا في أزمة الانتخاب وكلهن في ذمته سبايا وحريم...
دعوني أهرب من زمن الحريم إلى نساء الزمن الجميل وأنا مفعمة بالحزن والحسرة والقهرفقد بدأن يتوارين نحو الغياب والأفول -ولاتأفل إلا النجوم- ولا أعني غياب المرض والموت وحدهما ولكن غياب الموقع والزمان والأفكار والعطاء بدون شروط وقيود وفروض فكل أعمالكن صارمخفيا غائبا.
أعرف حجم ضرائب الكلمات الصادقة والرأي الحر والاعتصام والتظاهر.. وغيرهـ - ولا أقل كن هكذا، فقط أريد أن تفهمنني. إن حجم ضرائب الصمت والخنوع والشكوى في لقاء بيت عرس أوبيت عزاء ضعف أضعاف غيرها. تنخر أفئدتنا ألماً فيقصرالعمرويتفاقم حجم المرض ونتذكر بعضنا بعضاً بأنه " لوكان هذا، لما كان هذا" وكلاهما سراب ومن بصيص الفرح والأمل/ رجعت للحزن الشديد ولم أستطع أن أخبئه في داخلي. وماما رقية، جميعنا ندعوها هكذا رجالاً ونساء الاكبرسناً والأصغرسناً، عرفتها هكذا بماما رقية.
فلم يساعدني الزمن وهو يهرول بأن أكون في إتحاد نساء اليمن فرع م/عدن حين كانت وعاشت وظلت منذ أن كان إتحاداً عاماً إلى أن أصبح فرعا ثم فرعا خاصا جدا، لم أعش زمن عطائها وصراعها وهي تعالج القضايا الاجتماعية هناك، ولم أستمع إليها كثيراً وهي تتحدث، كما عودتنا، في كل شيء وعن أي شيء خاصة عن عدن وأهلها، وهي تجعلنا دائما أقارب وأهلاً وأصهار وحموات.
فكل أهل المدينة أقارب لها، لا أعرف كيف كانت تجمع الأنساب والقرابة حتى وإن كنا من مناطق مختلفة أو نزح البعض منا إليها في الزمن الجميل؟ ولكن كنا أهل هذه المدينة وأقارب ماما رقية .. ولم تحظ وللأسف، بكلمة شكرمن كل مكان كانت لها فيه بصمة أوتقديرأوتكريم، وإن حدث فهو عابر حفاظا على ماء الوجه – ليس إلا- لكن لايليق بالتسمية " ماما للجميع ".
حاولت أن أسترجع العمر حتى وأنا لم أعش ذلك الزمن، حاولت بأن ألملم غضبي بألا أصرخ وأشتم وألعن، فإن النساء لم يعدن نساء الزمن الجميل كما حفظتهن الذاكرة، لا بل كما حملتهن الأحلام وبحث عنهم الأمل و الطموح، فكل الأزهارتولد من رحم الأرض، لاتموت إلا وهي تنبت وتلدغيرها ولا تنموإلاقرب بعضها بعضاً، ليس بعد الرحيل أوعلى فراش الموت نتذكر ونتباكى، كما حدث للمدينة/ عدن.
جميعنا سنرحل وجميعنا سنموت ولكن لماذا لانسبق الرحيل!؟ نحطم قصور السبايا بعيداً عن السياف والجلاد ومن يسترخص ثمن آدميتنا -نحن النساء- ويتذكرنا فقط وقت الصراع على الصناديق وحشد الأصوات، ويبتكر لنا مواقع هزيلة فلايسمع صوتنا وليس لنا فيها حق القرار، نهد مجالس الشكاوى ونقتل تاريخ يعرفنا بالعطر والبخورإبتدعوه لنا واتكئنا عليهم. آه بدأ يتوارى سريعا الزمن الجميل وتتضاءل مساحة الفرح!
ومع ذلك مازال عندي أمل بالاشجار الواقفة والنجوم التي لم تأفل بعد، أنها ستزرع من أفكارها وخبرتها وعطائها وتجاربها وشخصياتها وسيرها وتخطها بأيديها لعدن/ للوطن كل الوطن قبل الرحيل – يمنحكن الله طول العمر- لفتيات من الأجيال القادمة لديهن إرادة كـ"ماما رقية" وقدرة تحمل لاقتحام الحواجز والسدود كـ"ماما رقية" وصبر على الألم والأوجاع كـ "ماما رقية" إنه تاريخ لنساء الزمن الجميل... فلم تعقم المدينة/ عدن " ولاَّدة " ولها تاريخ جميل.