الحريم.. صراع العقل والجسد



مهند عبد الحميد
2008 / 2 / 10

شهرزاد ترحل الى الغرب..

المؤلفة: فاطمة المرنيسي
الناشران: المركز الثقافي العربي /بيروت ، نشر الفنك / الدار البيضاء 2007
قراءة : مهند عبد الحميد
حكاية المرأة التي تلبس كسوة الريش، تسمى في ألف ليلة وليلة " حكاية حسن البصري، الشاب الوسيم الذي انبهر برشاقة حركات طائر حط على الشاطيء، سرعان ما وضع كسوة الريش جانبا لتظهر من تحته امرأة شابة فاتنة مشعة، جرت نحو الامواج وشرعت في السباحة. توله حسن بتلك الحورية، فسرق الريش ودفنه في حفرة مجهولة. وعندما خرجت من البحر أسرها وتزوجها. تلك الاشارة الاولى التي أطلقتها فاطمة المرنيسي نحو الرجال الذين يحبون المرأة ولكنهم يودون قص جناحيها والاحتفاظ بها مهيضة في مكان يسمى بالحريم. و"الحريم" مصطلح يطلق على المكان الذي تحتجز فيه النساء، وينطوي على نظام يحرم النساء من حقوقهن. انه السجن الذي ربما يكون في صيغة قصر، أو بناء بأسوار شاهقة يشرف عليه رجال أقوياء جدا تابعين للسلاطين والتجار. والحريم بمفهوم الغرب: لوحات فنية تعج بمخلوقات عارية هشة وخاضعة.
استراتيجية شهرزاد
أصل الحكاية هي مأساة الملك شهريار الذي رأى زوجته في أحضان أحد الخدم، فقام بقتل العشيقين، وطلب من وزيره أن يأتيه كل صباح بعذراء يتزوجها ليلة واحدة ويقتلها في الفجر انتقاما لهيبته. استمر هذا الحال الى ان دخلت شهرزاد ساحة المواجهة من موقع الفتاة التي جاءت لتقاوم ليس دفاعا عن حياتها وحسب وانما دفاعا عن حياة كل النساء والخلق المبتلين بقاتل شرس. شهرزاد ذهبت الى الموت بقدميها طوعا ومعها استراتيجية تتكون من ثلاث عناصر: المعرفة الواسعة أولا، والبراعة في السرد المشوق ثانيا، والهدوء والقدرة على التحكم في الموقف ثالثا. كانت ثقافة شهرزاد موسوعية " عارفة لبيبة حكيمة وأديبة ".اعتمدت الكلمة كسلاح في صراع دموي، واختارت الكلمات التي نفذت كسهام الى روح المعتدي المتربص بالنساء.
حكت شهرزاد مئات الحكايات، تعاملت بمستوى معين كطبيب نفسي مع شخصية الملك المرضية الثأرية وشرعت بتفكيك عناصرها وتبيان الضعف فيها باستخدام فن التواصل مع الآخر. وانتهت الى قلب الادوار من دور شهريار القاضي وشهرزاد المتهمة الى دور شهريار المتهم وشهرزاد القاضية الواثقة بنفسها، وتوجت المحاكمة بالحكم الذي دعا المتهم الى تغيير طريقته في الحياة. فتخلى الملك فعلا عن مشروعه المرعب وخضع لتأثير شهرزاد واعترف بخطئه. قال الملك: لقد زهَّدتني ياشهرزاد في ملكي وندَّمتني على ما فرط مني في قتل النساء والبنات، فهل عندك شيء عن حديث الطيور؟ هذا الاعتراف قاد الى إضفاء سلطة حضارية على النساء، إلى انتصار العقل على العنف، لقد اخترقت عقل الملك لكي تدفع به الى تحويل توقعاته . نجحت شهرزاد حيث فشلت زوجة شهريار لانها جعلت الثورة محدودة في جسدها حين انقادت ل"عبدها"، فلو استخدمت شهرزاد جسدها لقتلت في صبيحة اليوم التالي.
حكايات ألف ليلة وليلة تصور الجانب المتمرد لدى نساء الحريم ، مثقفون كثيرون يعترفون بأن شهرزاد رائدة التمرد وحافزة الضعفاء على الثورة.طه حسين مثلا يجعل من شهرزاد ناطقة باسم الابرياء. الحكايات أيضا تعيد طرح الاسباب عوضا عن الدروس، فبنية الحريم ذاتها بدءا بالتراتبية وانتهاء بالحواجز التي يضعها الرجال للتحكم في النساء هي التي تؤدي الى التمرد وتملي قوانينه. ثبت ان الحواجز المادية الموضوعة حول الحريم هشة ويمكن اختراقها. وحده الحوار الشجاع هو الذي قاد الى نوع من الخلاص، حين ربط بين الكرامة الانسانية وتحرير المرأة، ودمج النضال ضد الاستبداد الاشمل بالدفاع عن حقوق النساء.
شهرزاد تفقد عقلها في الغرب
نال الاوروبيون السبق بترجمة الف ليلة وليلة سنة 1704 ، وصدرت النسخة الاولى في القاهرة سنة 1934. كانت النخبة ترفض نشر الحكايات لانها تعبر عن انشغالات ورأي الجماهير الشعبية في نظر البعض، ولانها تصور النساء أمهر من الرجال في نظر البعض الآخر.
جردت شهرزاد من ذكائها حين غادرت الشرق وعبرت الحدود الى الغرب. لم يأبه الغربيون إلا بمشاهد المغامرة والغرام والزينة ولغة الجسد. استبعدوا لفظة (السمر)التي تحيل على التبادل العميق والاعترافات المهموسة. وانصرف الاهتمام الى الشخصيات الذكورية كسندباد وعلاء الدين وعلي بابا. كان الاهتمام بحلي الحريم الثمينة أكثر من القضية النسائية واكثر من البعد السياسي الذي كان اعلانا عن تحكم النساء في مصيرهن. الغرب المهووس بالرغبة في الحرية ألغى الرسالة السياسية للحكايات في القرن 18. وفي بداية القرن العشرين وقع اختيار (دياخليف ونجنسكي) على شهرزاد للاحتفاء بالجسد كمصدر للمتعة. وأحالا المبدعة الحاكية على الصمت وسلبوها العقل والذكاء. الاميركي (إدجار إلان بو) اغتال شهرزاد في قصته (ألف ليلة وليلتين). صور ان شهرزاد تخضع لمصيرها وتقبل الموت بخنوع! وهذا عكس رسالة المرأة التي تقول: يستحيل على المرأة الاستسلام، عليها ان تقاتل لكي تحول العالم.
(كانط) الفيلسوف الالماني يقدم تفسيرا للسبب الذي جعل (الن بو) يقتل شهرزاد حين قال: على المرأة أن تتخلى عن التفكير والمعارف المجردة وتدعه للرجال لان البحث الجاد والتأمل سيضعفان من جاذبيتها الشديدة على الرجال". وهذا يعني تنازل المرأة عن ذكائها وحجب عقلها إذا شاءت إغراء الرجل. اختيار فظيع، الجمال أو الذكاء! مقابل ذلك كان هارون الرشيد "المستبد" يعجب بالنساء اللواتي يوازي جمالهن ذكاءهن.
(الحمام التركي ) لوحة شهيرة للفنان الفرنسي (أنجر) وهي رسم لجمهرة من " وصيفات عاريات" يكشفن بواطن جمالهن وهن يستحممن، وقبلها لوحة الوصيفة الكبرى هي امرأة مستسلمة ترفل في بذخ مزخرف يحفها الحرير والريش والفرو، موجودة لبعث المتعة فقط وتمجيد الجسد الانثوي الطاغي، ولوحة الوصيفة ذات السروال الاحمر للفنان (ماتيس) تنتمي للمنطق ذاته، هذه اللوحات أبقت على استعباد المرأة التركية في الوقت الذي كانت فيه حرة أو مناضلة من اجل حريتها. فهل أرادوا وقف الزمن؟
مقابل ذلك تصور اللوحات الشرقية الاسلامية (المنمنمات) الاميرة (شيرين) وهي تقطع الغابات على ظهر فرسها وتعيش مغامرات مدهشة، لتلتقي بالامير (خسرويه) وتمارس معه هواية القنص من موقع الند. والاميرة (نورجاهان) الفارسية المغولية اشتهرت بأنها قناصة نمور ممتازة.
فاطمة المرنيسي حاورت في كتابها عدد من المثقفين والمثقفات في فرنسا وزارت متحف اللوفر بحثا عن لوحات تتأملها، وعرضت مقارنة مدهشة بين الشرق والغرب من خلال اللوحات الفنية والرؤى الفلسفية والحوار العميق، فقدمت كتابها الجديد شديد الاهمية(شهرزاد ترحل الى الغرب). استخرجت عبره أشياء مهمة من تراثنا، استعرضت استراتيجية شهرزاد للتحرر التي انتصر فيها العقل على سلطة ذكورية متوحشة. المرنيسي نقدت بعمق واقعنا الذي أحدث القطيعة مع ذلك التراث. مقابل ذلك كشفت المستور في الغرب، حين تحدثت عن العنف الذي يمثله الحريم الغربي، فالرجل يملي القواعد التي تتحكم في مظهر المرأة، اللباس النسوي على سبيل المثال صناعة ذكورية. تاخذ المرنيسي عن "بيير بورديو" كتاب (الهيمنة الذكورية ) الذي يكشف عن عنف رمزي يمارس على الجسد ويملك مفعولا سحريا من خلال تقبل النساء الغربيات له كونهن اشياء رمزية. حقا لقد أضافت المرنيسي للمكتبة العربية عملا مهما وشيقا، وقدمت للشابات والشبان سلاحا قويا في النضال من أجل الحرية والعدالة والمساواة.