قراءة نقدية لحديث(النساء ناقصات عقل)5



عبدالحكيم الفيتوري
2008 / 5 / 1

خلاصة الدراسة

يتبين لنا بعد كل هذا، أن ثمة مشكل معرفي في الفكر الإسلامي يبنبغي نقده بصراحة، يدور هذا المشكل الخطير بين دائرة تقديس المعرفي، وتقديس العارف، فعلم الحديث برمته ليس دينا كما زعم من قال بأن الاسناد من الدين، وأن علماء الحديث ليسوا مقدسيين، فنقد جهودكم ليس نقدا لثوابت الدين، ورد الحديث الشاذ سندا أو متنا ليس ردا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلا وحاشا. وبالتالي فإن إغلاق باب نقد المعرفة والعارف ضخم من النزعة الصنمية؛ تصنيم العارف والمعرفة، ووسع من دائرة التفسيرات الحرفية النقلية التي انتجت العقل الحشوي التجبيسي، الذي مارس فكرا تأثيميا، وفقها جنائريا؛ على من خالف مقدساته؛ من معارف وعارف !!

ويبدو إن تأسيس الرواية على الاسناد دون نقد المتن على أصول القرآن والعقل والواقع، وتقديم علم الحديث والاسناد -وهو علم إنساني- على أساس أنه من الدين، هو الذي حمل علماء الحديث والجرح والتعديل على الاعتماد على المواصفات الشخصية لراوي الرواية؛ من صدق وعدالة، دون اعتبار موافقة روايته للقرآن والعقل والواقع، حيث هنالك أحاديث كثيرة جدا صحيحة الاسناد ولكن مضمونها يخالف القرآن والعقل والواقع، ومن ذلك حديث (نقاصات عقل ودين) حيث خالف القرآن، وناقض المعقول، وجافى الواقع. والغريب أن بعض علماء فن الحديث(26) ذكروا جملة قواعد في قبول الرواية ونقدها وردها، ولكن استثنوا من ذلك صحيحي البخاري ومسلم لأعتبارات اجتهاداية يعرفها من له علاقة بفن الحديث. ومن تلك القواعد أو الميزان في قبول الرواية ما ذكرها ابن الجوزي في كتابه (الموضوعات) حيث قال: فكل حديث رأيته يخالف المعقول، أو يناقض الأصول، فاعلم أنه موضوع، فلا تتكلف اعتباره، ثم قال: ومعنى مناقضته للأصول أن يكون خارجا عن دواوين الإسلام من المسانيد والكتب المشهورة. تأمل استثناء ابن الجوزي دواوين الكتب والمسانيد المشهورة من تطبيق قواعد نقد متونها إذا باينت القرآن، وخالفت المعقول !!

وقد ذكر ابن القيم تحت عنوان: نقد المنقول والمحك المميز بين المردود والمقبول، ذات القواعد سالفة الذكر ولكن مع إضافة؛ مخالفة القرآن، فقال: ومنها مخالفة الحديث لصريح القرآن، ثم ذكر بعض الأمثلة على ذلك).(المنار المنيف)، وأضاف ابن كثير في (اختصار علوم الحديث) لقواعد قبول الرواية إضافة مهمة، ولكن بالاستثناء الذي ذكره ابن الجوزي (إلا دواوين السنة) فقال: يعرف الموضوع بأمور كثيرة، ومن ذلك ركاكة ألفاظه وفساد معناه، أو مجازفة فاحشة، أو مخالفة لما ثبت في الكتاب والسنة الصحيحة.

ولو أخذنا بقواعد قبول الرواية وردها كما جاءت عند أهل الاختصاص كقاعدة عدم مخالفة متن الرواية للقرآن والعقل والمشاهدة، أو فساد معناه، أو مجازفة فاحشة في منطوقها وفحواها - دون استثناء لأي كتاب من كتب السنة المشهورة -. وطبقنا هذه القواعد على متن رواية البخاري لحديث (النساء ناقصات عقل ودين...) لاتضح لنا-كما مر معنا- وفق قواعد أهل الفن مخالفة متن هذه الروايات لأصول القرآن، والمعقول، والواقع، من ناحية المعنى والمبنى.لذلك فإن صحة اسناد هذا المتن ووجوده في ثنايا دواوين السنة المشهورة، لا تعفيه من عده من جملة الروايات المعلولة المردودة متنا، وبالتالي سحب صفة الصحة عنه لمخالفته لـ(القرآن،والعقل،والواقع)، لأن توثيقه من ناحية الاسناد من علماء الحديث، لا تعدو كون هذه الشهادة الصادرة بحقه إلا جهدا بشريا في دائرة الظني وليس في دائرة القطعي، فالعلوم لا تعرف الجمود، ولا التقديس، وإنما النقد والنقد والنقد، وفق مقاصد القرآن، وأصول العقل، ومنطق التاريخ والواقع. وقد أصاب رشيد رضا حين قال: فإذا كان من علل الحديث المانعة من وصفه بالصحة، مخالفة راوي لغيره من الثقات، فمخالفة القطعي من القرآن المتواتر أولى بسلب وصف الصحة عنه.(مجلة المنار)

ويبدو بعد معرفة دلالة آية المداينة وسياقاتها القرآنية، والوقوف على المجال التاريخي لنزول آية الدين، والتي هي من أخر آيات القرآن عهدا بالسماء، وكان وقت نزولها تسع ليالي خلت قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي انتقل فيه إلى الرفيق الأعلى في الأيام الأولى من ربيع الأول؛ أي بعد عيد الأضحى وقبل عيد الفطر. ولا يخفى أن معرفة هذه الحيثيات المعرفية والتاريخية يضع قول الراوي ( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر؛ إلى المصلى، فمر على النساء) موضع الشك والريبة، ويسحب منه شهادة الصحة جملة.

وعند هذا المستوى تضرب الإشكالية بأسباب قوية في إشكالية أكبر منها، وذلك حين يربط الراوي روايته بآية المداينة وهي لم تنزل بعد من الناحية التاريخية، ويفسر نقصان عقل المرأة بها، علما بأن الآية لم تشير من قريب أو من بعيد إلى أرتباط معنى العقل بتحمل الشهادة، قال الراوي( ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن، قلن وما نقصان ديننا وعقلنا يارسول الله ؟ قال أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل قلن: بلى: قال فذلك من نقصان عقلها) وأكد ابن حجر علاقة الرواية بالآية فقال: وأشار بقوله(مثل نصف شهادة الرجل) إلى قوله تعالى:( فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء) !!

ومما يزيد الطين بله في الإشكالية أن مفردة العقل التي جاء ذكرها في الرواية لم تكن من استعمالات ذاك العهد؛ عهد التنزيل بذات الدلالة التي أرادها الراوي، ولكنها مفردة من إنتاج فكر المعتزلة الذي ضمن هذه المفردة بمضامين جديدة ضمن منظومته الفكرية التي أثرت بقدر ما في مصطلحات بعض الرواة حال تدوين الأحاديث وجمع المدونات. وهذا مما يثير الشكوك ويقويها بأن مفردات الحديث خضعت لتأثيرات اجتماعية، وسياسية، وثقافية تدافعية !!

كذلك فإن منطق الواقع والمشاهدة، ومنطق العلم، ينفى وجود فوارق عقلية بين الجنسين، وإنما الكفاءة والخبرة والبيئة هي الحكم والفيصل التي بها يمكن تحديد درجة تفاوت عقول الذكور والاناث. فإذا كان ذلك كذلك فإن المرأة ليست ناقصة عقل، ناهيك أن توصف بناقصة دين والخالق سبحانه قد كتب على بنات آدم أمر الحيض ومقتضياته.

وأحسب أن كل هذه الظروف والمعطيات والانتقادات التي سبق ذكرها، تساهم بقدر كبير في سحب شهادة الصحة عن هذه الرواية جملة، رغم الأسوار التي وضعت لتقديس غير المقدس كأسانيد الصحيحين وغيرها، لأن جهد البخاري وغيره من أهل الفن يبقى جهدا بشريا يعتريه ما يعتري البشر من الخطأ والنسيان والنقصان، علما بأن المعرفة عند العقلاء لا تقدس، والبحث العلمي لا يتوقف، والنقد المعرفي لا حدود له، وفوق كل ذي علم عليم. ولكن العقل التمجيدي استقر فيه عكس ذلك من حيث تقديس العارف والمعارف، حتى أن أحد قيادته قال: لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن ما في كتابي البخاري ومسلم مما حكما بصحته من قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ألزمته الطلاق، ولا حنثته لاجماع علماء المسلمين على صحتهما(27). بل ذهب أحدهم إلى الاعتقاد بأن نقد المتفق عليه والمساس به هي مجانبة للحق وكفرا وزندقة !!

وبالتالي فإياك وارتكاب المحظور على من يمارس النقد المعرفي، ولا يقدس الجهد البشري، ويمايز بين الجهد الانساني والنص الإلهي. وتذكر جنس تلك المقولات الجميلة المشهورة –وإن لم تطبق-التي تقرر(أن كلا يؤخذ منه ويرد إلا رسول الله)، وشعار أبي حنيفة بأمتياز عندما كان يرد على الذين يتهمونه برد الأحاديث، بقوله: ردي على رجل يحدث عن رسول الله بخلاف القرآن ليس رداً على النبي صلى الله عليه وسلم ولا تكذيباً له، ولكنه رد على من يحدث عن رسول الله بالباطل، والتهمة دخلت عليه وليس على نبي الله !!

فالات حين مناص، إما دفاع عن قيم رسالة الله الخاتمة المحفوظة بحفظ الله (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، وإما دفاع عن جهد بشري من اسانيد وروايات بها الغث والسمين،ولعل في قول اسماعيل بن أبي أويس أحد شيوخ البخاري ما يجعل العاقل يعيد النظر في الخلط والإلتباس القائم بين الإلهي والبشري، فقد جاء عنه أنه قال:( كان أهل المدينة إذا اختلفوا في شيء وضعت لهم الحديث). أي أنه يقدم لهم حلا اجتماعيا بطريقة دينية منسوبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم !!
والسلام

1- ورد الحديث 32 مرة في كتب السنة وشروحها،راجع البخاري ج2 ص 531 رقم (1393)،ح 2 941،رقم (298)،(2515)،وصحيح مسلم من رواية عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- مع خلاف في بعض الألفاظ،وفي المستدرك حـ 4 ص645،رقم (8783)،وسنن الترمذي حـ 5 ص 10رقم (2613)،وسنن ابن ماجة حـ 2 ص 1306،رقم (4003)،ومسند أحمد حـ 2 ص 26،رقم (5343)،وسنن أبي داود حـ 4 ص 219 وابن خزيمة حـ 3ص 268،رقم (2045)،وغير ذلك من كتب السنة.

2- نقصان عقل المرأة ودينها.. شبهة ورد (طريق الاسلام)

3- تفسيرالمنار،لرشيد رضا،سورة البقرة،آية الدين.

4- انظر:مفاتيح الغيب، للرازي.

5- مناع القطان ،مباحث في علوم القرآن.

6- العقل العربي في القرآن. وانظر:مقال هل المرأة ناقصة عقل،عزيز محمد أبو خلف .

7- الموسوعة الفقهية: الفواكه الدواني،ومغني المحتاج.

8- البغدادي،الفقيه والمتفقه المتوفي:462

9- كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس،للعجلوني الشافعي.

10- فتح الباري شرح صحيح البخاري،لابن حجر.

11- لسان العرب،لابن منظور،مادة عقل

12- إعلام الموقعين عن رب العالمين.

13- لسان العرب،لابن منظور

14- إعلام الموقعين عن رب العالمين،لابن القيم

15- المرجع السابق

16- نخبة الفكر، لابن حجر (تراجع)

17- فتح الباري شرح صحيح البخاري،لابن حجر.

18- كشف الخفاء ومزيل الإلباس،للعجلوني الشافعي.

19- انظر:المرجع السابق.

20- انظر مقالي ........

21- هذا يقوى أن آية المداينة(واستشهدوا شهيدين من رجالكم...الآية)لما تنزل إلا قبل وفاة النبي بليالى كما ذهب إلى ذلك ابن جرير الطبري وغيره.

22- تفسير المنار،لرشيد رضا،آية المداينة.

23- قائمة لاغنى نساء في العالم.

24- العربية نت.

25- موقع الدكتور محمد عبدالغفار شريف.

26- الفرق بين العلم والفن، فالعلم يخضع لقواعد صارمة لا تتأثر بالعواطف والإنفعالات والاختلافات المذهبية والجهوية والدينية؛ كعلم الرياضيات والكيمياء والفيزياء وغير ذلك. أما الفن فهو يتأثر إلى حد كبير بالعواطف والانفعالات والاختلافات الشخصية والمذهبية والجهوية والدينية والسياسية، ولعل في اختلاف قبول الروايات بين السنة والشيعة، أو السنة والخوارج لا يخضع لقواعد العلوم وإنما يخضع لقواعد الفنون من مواقف سياسية ودينية وعقدية وجهوية.وأحسب أن ما دار بين الإمام مالك والإمام ابن اسحاق خير دليل على تأثر فن الرواية إلى العواطف والانفعالات.فهذه الإمام مالك يرفض الرواية عن محمد ابن اسحاق ويتهمه بأنه دجال، مع توثيق بن معين له(ثبث في الحديث)وأبو حاتم(لم يكن أحد بالمدينة يقارب ابن اسحاق في علمه ولا يوازنه في جمعه)، والسبب الذي حمل الإمام مالك على الطعن في ابن اسحاق هو أن ابن اسحاق طعن في نسبه كما جاء في بعض المصادر(للمزيد انظر:الثقات لابن حبان،تذكرة الحفاظ للذهبي،والجرج والتعديل لابن حاتم الرازي،ومعرفة الرجال لأبي زكريا يحي بن معين)

ولعل في توثيق الإمام مالك لأيوب السختياني والأخذ عنه ما يصور لنا أجواء العواطف والانفعالات الشخصية التي تم فيها تقعيد قواعد الرواية وما يسمى بعلم الحديث جملة، يقول الإمام مالك عن أيوب : إذا ذُكر النبى بكى حتى أرحمه، فلما رأيت منه مارأيت وإجلاله للنبى كتبت عنه !!(التمهيد لابن عبد البر)وبهكذا يتضح أن تصنيف قواعد الرواية والجرج والتعديل جملة في عداد العلوم غير صحيح ، وإنما إلى عداد الفنون أقرب .

27- انظر:صيانة صحيح مسلم من الاخلال والغلط وحمايته من الاسقاط والسقط ، لابي عمرو بن الصلاح.