يا زينب بابان



فاديا سعد
2008 / 6 / 28

من مجموع الرسائل التي وردتني رسالة من قاصة عراقية تقيم في السويد تدعى زينب بابان، وكانت رسالتها مقتضبة:الأخت فاديا أشكرك على المقال، وأرسلته للنشر في الموقع... مع الاعتزاز.

كما ترون إنها بسيطة وكلماتها قليلة لكن أمرين في الرسالة دفعا موجتي للارتفاع عالياً، ولأن
هذه الموجة ارتفعت عالياً فلا بد من ركوبها والحديث عن سر ارتفاعها:

الأمر الأول قيام زينب بفعل إيجابي حيث أنها قرأت المقال في موقع، وأرسلته بمبادرة منها، لموقع آخر تعرفه، وفعلها هذا لا يستند على حسابات معينة كأن أكون منضوية تحت عباءتها الفكرية أو الثقافية أو المذهبية أو الحزبية وهي الحسابات التي تحرك الكثير من المثقفين والحزبيين في وقتنا الراهن، وهذا ما اعتبرته فعلاً حرّا، صدر عن عقل إيجابي، يحسب حساب الجودة لا أكثر من ذلك ولا أقل.

مجيء هذا الفعل من امرأة مثلي، وهذا لم أعتد عليه خلال مسيرتي الحزبية والثقافية فآخر حديث أجريته مع زينب أخرى حيث دار بيننا حوار هادئ شكلاً عاصف مضموناً، حول مفهوم العمل الديمقراطي إثر اتخاذ الحزب، الذي انتمينا إليه، خطوة الوحدة مع فصيل آخر من غير أن يكون لنا -نحن قواعد الحزب- يد فيه.

خرجت وقتها بنتيجة مفادها أن الحياة الديمقراطية تتطلب أطراف صادقة طرحاً وسلوكاً لا يمتلكه حزبي، وخرجت زينب آنذاك بنتيجة أخرى مفادها أني: مفزلكة.

كان يمكن لمن يعرفني أو يريد التعرف بي أن يقول: ذهبت المفزلكة. جاءت الم.. أو أين هي فاديا الم..؟

وما سقطت عني التهمة –إن جازت التسمية- إلا بعد سنوات طويلة حين التقيت بها مصادفة في منطقة القنيطرة السورية يوم عيد الاستقلال حيث دار حديث من نوع جديد لموقفينا، واعترفت لي: كنتِ على صواب، وكان لهذا الاعتراف تأثير عميق لم أستطع أن أمسك نفسي عن ذرف الدموع حتى أن المصور الخاص بنقل الاحتفال وكان يمر قريباً منا أعتقد أن انتفاخ أنفي واحمرار عيني كان من شدة تأثري بعيد الاستقلال.

بعدها صرت أكثر رحابة تجاه منطق الآخرين. فمثلاً صرت أبتسم أثناء ولوجي باب أحد المؤتمرات التي تخص أعمال نساء الجندر بينما أتلقى سؤالاً ملغما ممزوجاً بالاستغراب: ممن تلقيت الدعوة؟!

أما فيما يخص المسيرة الأدبية فحدث ولا حرج وكان آخر شخص تلقيت منه اتصالاًً يشي بالاستهجان لولوجي الصحافة الوطنية كان من أديب يشغل مساحة في إحداها، وكنت أرسلت له عددا من القصص، لنشرها لديهم وموطل النشر أشهرا، وحين استفسرت عن مصير القصص، جاء صوته هادئاً منتفخاً بالنرجسية: بما أنك فاديا، وسعد... عيّني خيرا.

لا أرغب بأخذ هذه العينات من التفكير على اعتبارها مسألة شخصية وإلا صمت للأبد، لكن تلك العينات من التفكير هي رسائل غير مباشرة بأنك ستدفع الثمن غالياً فيما لو خرجت أو اختلفت عن الجسم الجماعي للأطر الحزبية والثقافية أو حتى المذهبية كما وسيرمى بك خارجاً وإذ ذاك فلتتحمل لعنات الجميع.
إن الخيار الأسهل في هكذا حالة هو أن تنضوي تحت عباءة أحد ما وهذا الأحد هو إطار موجود مسبقاً.

لكن هل هذا خطأ؟ أي الانتظام داخل إطار جماعي يحميك ويحمي مصلحتك؟ طبعاً لا سوى أن الأطر المتوفرة تعكس تشوهات الفكر الشمولي، حيث أن التماثل الفكري بين أبناء الجماعة الواحدة يؤدي إلى استنساخ واستهلاك جمل معينة ومقولات جاهزة قيلت فيما مضى، في لحظة تاريخية معينة، وصارت لدى أبناء الأيديولوجية الواحدة –ماركسية قومية بعثية دينية- مسلّمات لا يجب إعمال الفكر فيها.

وهذه إحدى السمات التي طبعت أبناء الأحزاب، و لا يجوز إغفالها في آلية عملهم، وفي نفس الوقت فإن هذا التشابه في التفكير يدعو إلى نوع من التواطؤ تجاه المختلف، ومحاولة إلغائه على اعتباره خطر محدق يهدد وجود الفكر ذاته.

إن هذا النمط من التفكير المشبع بالانضواء تحت فكر معين أو إطار ثقافي جامع أو مذهبي موحد كي يحصل الفعل الايجابي، يملأ الساحة السياسية والثقافية في سوريا وأعتقد شبه جازمة أنها تشمل حركة الأطر الحزبية والثقافية على اختلاف أشكالها في بلداننا العربية.

في أحد لقاءاتي العرضية أعجبت بامرأة تكلمت بسهولة وسيولة في الأفكار جعلتني أنبهر بطريقة طرحها أفكارها، وأكثر من ذلك شعرت بالنقص تجاه عقلها المفكر، وأنا التي لا تعرف أن تنقل فكرة واحدة في كل مرة من غير إضافة أو حذف أو حتى إلغاء، ثم اكتشفت أن تلك التي بهرتني، وما تحدثت به من أفكار، تردد وتقول ما تقول أينما وجدت وفي أي وقت، وفي بعض الأحيان بمناسبة وغير مناسبة!! وكأنها تحفظ قصيدة عن ظهر غيب!!

وأتساءل مراراً وتكرارا هل أعملت تلك المرأة فكرها ولو لمرة واحدة بما تقول؟ بما تردد؟ بما تدّعي؟ وإن فعلت هل كانت ستتحدث بنفس الثقة من أنها تمتلك الإجابة الحقيقية والمطلقة عن تساؤلات الحياة؟

إن الحقائق الفكرية تحتاج لأكثر من اطلاع وحفظ إن الوصول إليها يحتاج إلى إعادة تحليل وتركيب وإضافة وحذف: هذا المنهج في التفكير تحتاجه الأحزاب السياسية وكل إطار ثقافي لو اختار ألا يموت واقعياً.

والأهم في المنهج محاولة مقاربة الأفكار مع الواقع، وهنا لا بد من طرح هذا السؤال: كيف للعلمانيين عموماً أن يطلبوا من الإسلاميين تخطي منهجهم الفقهي الذي توقف عند مرحلة تاريخية معينة، في حين أنهم يعتمدون ذات الطريقة في التصلب المنهجي تجاه ما يؤمنون به أفكار.

إن أي طرف أيديولوجي أو حتى ديني هو مطالب بنفس القدر من المرونة تجاه إعادة إنتاج فكره وثقافته المتناقلة- وأخذ الفارق الزمني الذي أَنتجت فيه الأفكار السابقة بعين الاعتبار، وعدم إخضاع أي فكرة لقانون المقدسات، أو تقديس من أنتجوا الفكرة.
إن محاولة الكشف عن مدى صلاحية الأفكار الأيديولوجية والثقافية يحتاج إلى شخصيات لا تخشى إعمال الفكر في المقولات المتناقلة والفكر الموروث، عقول لا تؤخذ بالشعارات الطنانة عن الحرية. نحن نحتاج إلى مساحة واسعة من السماحة الإنسانية التي لا تستطيع السلطات الحاكمة توفيرها لكن يمكن للأحزاب خارج السلطات أن توفرها كونها الأكثر تضرراً من تطبيق الفكر الشمولي.

لقد كان من حسن حظي أني عرفت أكثر من لون فكري، و تواصلت مع أنماط مختلفة ومتنوعة: علمانية. إسلامية. صوفية. أدبية، وهذا التنقل الفكري الحر، دفعني للابتعاد عن كون الحقيقة المطلقة لدى طرف معين.

هذا المقال مناسبة لاعمال عقلنا نحن النساء بالمقولة التالية مرة وثانية وثالثة و... كثيراً: المرأة يجب أن تكون حرة في امتلاكها لجسدها وأن تفعل به ما تشاء.

وهذه فكرتي عن المقولة: لو طبقت هذه المقولة في هذه الظروف التاريخية بالذات لأنتجت نساء عاهرات بالمعنى الدقيق للكلمة، فأي حماية للجسد يمكن للمرأة أن ترجوه الآن؟ وأي منظومة إنسانية مضطربة تلفّ المقولة وتقتل وهم الحرية فيها؟ لكني سأطرح من جانبي فكرة أخرى: لنحترم أجسادنا ونمنحه فقط وفقط وبالطريقة التي نشأء بها في مرحلة العاطفة العميقة.

أعود لأقول لزينب بابان شكراً على المبادرة فهي بالنسبة لي تتعدى مسألة نشر المقال، إلى ذهن إيجابي، أراهن على أمثاله في تخطي النكسات.