المرأة والازدراء المركب(2)



عبدالحكيم الفيتوري
2008 / 6 / 29

وما بين العهد القديم روايات أحاديث العقيقة ثمة عنصر أساسي أحسب أنه ساهم بشكل كبير في تشكيل مخيال رواة أحاديث العقيقة.وهذا العنصر هو المجتمع الجاهلي وأعرافه حيث كان يقيم احتفالية بالمولود ويفضل فيها الذكر على الأنثى في العقيقة وفي غيرها. وإن التحليل العميق لمسار فكرة العقيقة يوصلنا إلى قناعة بأن فكرة العقيقة والاحتفالية بالمولود انتقلت إلى العرب بواسطة خطاب العهد القديم وحضوره المؤثر في الفكر الديني العربي، ولعل فكرة تقديم القرابين جملة كعبادة فكرة توراتية، فقد انتشرت واشتهرت عند العرب هذه شعيرة الذبح، فكان من ضمن تلك الذبائح ذبيحة العقيقة التي تقدم بمناسبة المولود الجديد شكرا لله على هبته للمولود وتوسلا إليه بأن يحفظه من كل سوء، كما قال الماوردي: فأما العقيقة فهي شاة تذبح عند الولادة كانت العرب عليها قبل الإسلام.(8) وذكر ابن عساكر عن ابن عباس قال: لما ولد النبي صلى الله عليه وسلم عق عنه عبد المطلب بكبش وسماه محمدا. ولعل في مراسم وطقوس تلطيخ رأس المولود بدم عقيقته التي كانت عند العرب تشير إلى أن فكرة العقيقة برمتها توراتية الأصل وإن تم تعديل بعض تلك المراسم والطقوس بما يناسب ثقافة الناس في العهد القديم، وأعراف المجتمع العربي، وثقافة المجتمع الإسلامي الوليد، من رش الحجاب والمكان والمولود بدم العقيقة، إلى تطليخ رأسه بدم، إلى تطليخ رأسه بزعفران، أوخلوف. فقد جاء في رواية أبي داود عن عبد الله بن بريدة أنه قال: كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسـه بدمهـا فلما جاء الله بالإسـلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران. وفي رواية آخرى( وكان أهل الجاهلية يجعلون قطنة في دم العقيقة ويجعلونه على رأس الصبي فأمر رسول الله أن يجعل مـكان الـدم خلوفا ).(9) وشرح قتادة تفاصيل طقوس دم العقيقة مع المولود فقال: إذا ذبحت العقيقة أخذت منها صوفة، فاستقبلت بها أوداجها، ثم توضع على يافوخ الصبي حتى يسيل على رأسه مثل الخط، ثم يغسل رأسه بعد ويحلق ).(10)

صحيح أن حفاظ الحديث مشكورين ركزوا جهودهم على أوصاف الراوي جرحا وتعديلا، أحيانا ينتقدون المتن لمخالفته للثقات أو ما شاكل ذلك، ولكن لم يتطرقوا إلى نقد ما ينقله الراوي من خلال السياق التاريخي،والنسق الثقافي، والنسيج الاجتماعي الذي يترك بصماته بصورة من الصور على مفردات المتن، أو في معانيه وأحكامه، وفي بعض الحالات تساهم هذه الانساق والسياقات في صناعة المتن جملة من أصله(11).وأحسب أن متن رواية ذبخ العقيقة، وفكرة تمييز الذكر على الانثى منذ ولادتها من منتجات سياقات المجتمع العربي وإكراهاته، حيث كان إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم. يتوارى من القوم من سوء ما بشربه، أيمسكه على هون أن يدسه في التراب. كذلك فإن نص هذه الآية يصور لنا مدى قبول الانثى ذلك المخلوق غير المرحب به في المجمع العربي، ولو تعمقنا أكثر في المقاربة بين معايير المجتمع الجاهلي في قبول الأنثى وتلك المعاني التي جاءت على لسان الرواة في أحاديث العقيقة لوجدنا أن ثمة إلتقاء وتقاطع وتوافق في المضامين والمعاني، وهذا يكشف لنا حقيقة اجتماعية غاطسة ودفينة في تلك المجتمعات لا تحبذ الأنثى ولا تفرح بها(وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم)

واجبنا إذن في هذه الحالة أن لا نقف عند تبريرات العقل التمجيدي، ولا يمنعنا منطق الخطاب الوعظي والتوظيف السياسي، من أن نصوب النظر إلى أصل روايات أحاديث العقيقة، ومبدأ تفضيل الذكر على الانثى في ذلك، فنحرر مصدرها هل هو من الإسلام المنزل، أم من عادات العرب، أم من العهد القديم؟ خاصة وأن هنالك بعض الرواة كانوا وثيقي الصلة بأحبار اليهود وكتاباتهم كأبي هريرة،وعبدالله ابن عمرو الذي أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما.وكذلك ابن عباس وغيرهم، وقد ذكر الدكتور حسين الذهبي أن ابن عباس وغيره من الصحابة، كانوا يسألون علماء اليهود الذين اعتنقوا الإسلام فيما لا يمس العقيدة أو يتصل بأصول الدين وفروعه، كبعض القصص والأخبار الماضية.(12)

ولا يفوتنا أن نؤكد على أن الاسناد والتحديث في زمن التدوين كان صناعة وعملا وأرتزاقا لبعض الرواة. وإذا كان المدونون في زمن التدوين مضطرين للقبول بالأمر الواقع؛ سياسة توظيف الرواية والاسناد، فإن مسؤولية عقلاء الفكر في هذا العصر أن لا يكّلوا من التأكيد على مبدأ المراجعة والنقد والتمحيص لكل مدونات الحديث وفق مقاصد القرآن وقيمه الرسالية المتحركة، باعتبار صريح العقل، ومنطق الواقع، ورفع القداسة عن العارف والمعارف .
النقطة الثانية: فكرة العقيقة بين القرآن والرواية.

المطلع على القرآن الكريم لا يجد ذكرا لفكرة العقيقة وتمييز الذكر على الأنثى أصلا، وإنما ثمة تشريع لذبيحة مخصوصة بمناسك معروفة، وهي مناسك الحج، وهذه الدبيحة تسمى الهدي للحاج( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى)، والأمر فيه لغير الحاج أمرا أرشاديا. وهكذا خلت نصوص القرآن جملة عن أية اشارة إلى فكرة الذبح عن المولود( العقيقة )أصلا، ناهيك عن تقريرها والأمر بها، فضلا عن تفضيل الذكر على الأنثى. مما يعني أن المأمور به من الذبائح في القرآن هو الهدي للحاج والاضحية لغيره، وما دون ذلك فهي في حكم الاعراف والتقاليد كما قال ابن الشيباني: أن الأضحية نسخت كل ذبيحة كانت قبل الإسلام، وعليه، فإن العقيقة من فعل الجاهلية.(13)

وهكذا صيروا لفكرة توراتية وثقافة جاهلية أسانيدا وروايات ، وحازت هذه الأفكار اهتماما كبيرا في عصر التدوين والاسانيد، وأضحت في وضع ملتبس للمتلقي العاقل لها، حيث أن سلطة الرواية والأسناد أطرت عقله بكمية كبيرة من الاسانيد والروايات، وشكلت مخياله وثقافته الجمعية، فصار بمنطق الوحي والعقل يترواح بين القبول والرفض لهذه الروايات، وبين التفسير والتبرير، وبين الاعتراف والاستبهام، لدرجة أنه اضحى مستودعا للمتناقضات.

فإذا كان منطق الوحي لم يأت على ذكر فكرة العقيقة أصلا، فإن منطق الرواية قد أصلّ لها أوامر وأحكاما وطقوسا مرورا بالأحكام التكليفية؛ الأمر ومراتبه من حيث الوجوب، والسنة المؤكدة، والمباح. وانتهاءا بطقوس الذبح وتلطيخ رأس المولود، وحلقه ووزن شعره والتصدق بمقدارها فضة. كذلك شرّع منطق الرواية مبدأ تفضيل الذكر على الانثى، وتمييز الذكر على الأنثي تكريما واحتفاءا، فقد ذهب الجمهور إلى شاتين عن الذكر، وشاة عن الانثى. والأدهى والأمر أن يزعم البعض بأن هذا التفاضل والتمييز قاعدة مطردة جاءت بها شريعة السماء، كما قال ابن القيم: إن الله سبحانه وتعالى فضل الذكر على الأنثى كما قال: وليس الذكر كالأنثى.ومقتضى هذا التفاضل ترجيحه عليها في الأحكام وقد جاءت الشريعة بهذا التفضيل في جعل الذكر كالأنثيين في الشهادة، والميراث، والدية، فكذلك ألحقت العقيقة بهذه الأحكام.(14)وهنالك قلة قليلة من الصحابة وبعض التابعين رأوا عدم التفاضل بينهما وتقرير مبدأ المساواة بينهما، ومن هؤلاء القلة عبد الله بن عمر، وعروة ابن الزبير، واسماء، ومالك وغيره من التابعين.
يتبع