العجوز والسيجارة في سوق الخردة



عائشة التاج
2008 / 9 / 15

تصدرت بكرسيها القصير الزنقة الرئيسية في فضاء سوق الخردة الشعبي " بحي العكاري " بالرباط العاصمة ،حيث تصطف البضائع المستعملة من كل الأنواع وإن شكل الأثاث أكبر المعروضات : كنبات وكراسي ، أرئك وموائد ، أغطية وزرابي ، أواني وأكسسوارات.
خزانات ملابس و مزهريات ، ورود اصطناعية ، وسلع بلاستيكية من كل الأشكال .
على جنبات الزنقة التي التهمت ثلثيها أكوام السلع ،تصطف بضائع أخرى متنوعة ذات حجم صغير ومكونة من أدوات متعددة الاستعمالات :صنابير ، مصابيح كهربائية ،أشرطة موسيقية ، كتب ،سماعات وسلع لا حصر لها يتداولها بائعون محترفون أو هواة استغنوا عن بضائعهم هذه ويسعون إلى بيعها بأثمان جد بسيطة للاستفادة من ثمنها وسط اجتياح موجة الغلاء الفاحش.
في هذا الفضاء يأتي زوار يبحثون عن سلع رخيصة أو بعض قطع الغيار المفقودة في السوق الرسمي وقد يحصل القاريء النهم بدوره عن كتب نادرة معروضة للبيع وسط هذا الكم الهائل من البضائع الرخيصة وهذا الفضاء الملفوف بالغبار والروائح المتصاعدة من المطاعم والمقاهي الشعبية أو من العربات المتنقلة وحتى بعض الحيوانات كالكلاب والقطط والدجاج المعروض للبيع حيا أو مذبوحا ,أو السمك المقلي الذي يشكل طعاما رئيسيا للباعة الذين يقضون يومهم بأكمله وسط هذا السوق الذي يعج بالحركة صباح مساء .
جلبة منظمة بشكل فوضوي يعكس حياة العاصمة ذات الطابع الهامشي وإن كانت الهوامش الحضرية هي محورالحياة الاجتماعية و أساسها انطلاقا من المعطى العددي ،
حيث يتميز الفقراء بشرائحهم المتراتبة باستحواذهم على قاعدة الهرم السكاني واللهم لا حسد في تميزهم البيولوجي هذا .
بل أيضا انطلاقا من جاذبية أسواقه التي يتهافت عليها حتى الميسورون نظرا لرخص السلع ووفرتها وتنوعها وكذا وفرة الخدمات الحرفية المتنوعة .
جلست القرفصاء وراء بضاعتها المعروضة على الأرض : كوم من البصل الأبيض وآخر بجانبه من البصل الأحمر اللامع من فرط جدته و طراوته .وعلى جانبها ميزان
رتبت على جوانبه وحدات القياس التي تعلوها مساحات من الصدإ ذي اللون البني .
وأكياس بلاستيكية مندسة بعناية تحت الوعاء البلاستيكي الذي يستعمل لشحن الخضار .
احتمت من لفحات الشمس الحارقة وراء أكوام الأفرشة المعروضة للبيع وبغطاء متدلي بنوع من اللامبالاة على الرأس .

امرأة على مشارف الستينات ، ترسم التجاعيد على وجهها خرائط من القهر والحرمان ,تمد إحدى ركبتيها جنب الخضار وتثني الأخرى في جلسة تبدو غير مريحة شأن وضعها العام .
تنطلق من نظراتها معاناة مشحونة بشرارة من التحدي وهي تدخن سيجارتها الرمادية
وترشف الشاي الأخضر بالنعناع مثل" أي رجل "وسط هذا الفضاء الذكوري بامتياز !
وتدعو في الآن نفسه زوار السوق لشراء بضاعتها المعروضة .
نظرت تجاهها بلمحة البرق عندما جذب نظري لمعان البصل الأحمر ذي الرائحة القوية
لكن سرعان ما أدرت ظهري جهة الكتب المستعملة لأنظر بتركيز علني أعثر على تحفة تائهة وسط هذا الركام المتناثر من الكتب المستعملة .
فجأة سمعت تعليقا من طرف مرافقي النجار ذي اللون الأسود الذي صدمه منظر الدخان المتعالي من السيجارة وراح يتمتم بكلمات احتجاج عما رآه من تجاوز صارخ للتقاليد الاجتماعية في نظره !
المنظر ليس معتادا بالمرة وسط هكذا فضاء ومن طرف نساء بهذا السن ومن هذه الشرائح!!
التقطت السيدة موقفه هذا وعلقت متمتمة بدورها قائلة : "ٌُندير اللي بغيت و الله يجعل البركة في صاحب الجلالة محمد السادس،سيدنا الله يحفظو ! ."
لم أكن قد انتبهت لموضوع السيجارة من قبل ، لكنني التقطت بدوري في ثواني هذا الحوار الفريد من نوعه والذي يتنازع منظومة القيم في مجتمع تطبعه تحولات وتناقضات صارخة .
بدا الأمر مثيرا للانتباه بالنسبة لي ، ذلك أن التعرف على نبض المجتمع يتم أيضا من خلال إرهاصات اليومي في عفويتها وتلقائيتها .
سعيت إلى مواساة السيدة من آثار العنف الرمزي الموجه إليها فسألتها عن ثمن البصل فأجابتني :هذي 50 ريال وهذي 60 ريال (الحمراء) , ولم يبد على نبرتها أي أثر للغضب.
اطمأننت ووعدتها بالعودة وأنا أبتسم لها كي تفهم بأنني لا أتفق مع مرافقي النجار في استفزازه المجاني هذا .
واستغربت من صلابة المرأة في تحمل الملاحظات وفي كيفية الدفاع عن نفسها وقدرتها على العيش بهذا الشكل اللامعتاد وسط سوق يتكون تجاره ومرتادوه بشكل عام من الفئات الشعبية التي تطغى عليها ميزات المحافظة .

مع ذلك كان الناس يزاولون تبضعهم بنوع من اللامبالاة أو على الأقل بدون تعبير معلن عما رأوه ،أما زملاؤها التجار فلا شك أنهم تعودوا على الأمر وراح يبدو لهم اعتياديا وبالتالي تجاوزوا مرحلة الدهشة والاستغراب .
ونحن نغير الاتجاه بحثا عما نرومه وسط هذا السوق الشعبي واصل النجار احتجاجه وهو يرفع صوته رويدا رويدا طالبا مني دراهم لشراء سجائر بالتقسيط !
تساءلت في قرارة نفسي : كيف يسمح البعض لنفسه بممارسة أشياء يحرمها على الآخرين ويجتهد في إيجاد تبريرات لذلك ؟
فاغتنمت الفرصة لإغاظته انتقاما للسيدة ورغبة مني في سماع مبرراته الخاصة منبهة إياه بأنه أفتى للتو بأن السجائر غير مقبولة اجتماعيا من جهة ومن جهة ثانية بأنني لا أعطي دراهم من أجل شراء السجائر علما أنها لا يمكن أن تعتبر صدقة إذ لا أجر في المساعدة على شراء الخبائث حسب المنطق الديني ولا تدخل من جهة أخرى في مصاريف الخدمة مع الإشارة إلى أنني كنت أعطيه إياها ولو بدون خدمة .
لا يبدو أنه فهم بالضبط ما أقصده ...لكنه انفجر يرد بسيلان من الكلام لا أول له ولا آخر يلخص تلك الشروخ الكبرى داخل منظومة القيم لدى هذا النوع من الشرائح الاجتماعية .
ومفادها أن السجائر حرام على المرأة بشكل خاص وراح يبحث في ذاكرته عن حديث نبوي يؤكد ماقاله ،بل افترى على النبي بحديث مفبرك لهذا الغرض...
نبهته بأنه في عهد الرسول لم تكن هناك سجائر وبالتالي لا يمكن أن يكون هناك حديث عنها .
استرسل في حجاجه هذا مؤكدا على أن الدين يحرم هكذا سلوك على النساء بل ذهب إلى كون الرسول ص حث المسلمين على قتل هذا النوع من النساء الفاسقات ومعاقبتهن بدون رحمة حفاظا على المجتمع .لقد سمع ذلك عند خطيب المسجد كما قال ومؤكدا على كون الرجل رجل بإمكانه أن يقوم بأي شيء وليس حراما بل فقط مكروه لأن الرجال قوامون على النساء .
ياله من تمييز إيجابي لفائدة الذكور في سلم الخروقات الاجتماعية بلفافة دينية !
غنج ذكوري يعطي لنفسه ميزة تبرير الغلط و إيجاد ظروف التخفيف كي تمارس النفس
انطلاقها مقابل شراسة في الحكم على أخطاء النساء مهما كانت بسيطة !
تراءت أمام عيني تلك الصور التي تعبر عن رجم العديد من النساء اللواتي يقال أنهن ارتكبن فسقا يعاقب عليه الدين وتم تعذيبهن لدرجة الموت في بعض البلدان المشرقية ، حمدت الله في قرارة نفسي لأننا نتحمل أقل الأضرار من سوء فهم للدين والتدين في بلدنا ، ونعم التباهي بأقل درجات التزمت ،والتكلس الفكري ،أليس كذلك ؟
ذلك أن الأعور يبدو بصيرا وسط جموع العميان !
ذعرت من هذا الافتراء على الرسول ص وعلى الدين من طرف إنسان أمي لا يتجاوز تعليمه الابتدائي و من هذه القسوة والعداء للنساء لدرجة الرغبة في القتل من طرف إنسان جرب كل أشكال "التجاوز " لأخلاق المجتمع المحافظ من : خمر وفسق ومخدرات وصعلكة لا يفتأ يتباهى بها بين الحين والآخر للتأكيد على الرجولة حسب منظوره الخاص .قبل أن يهتدي لصلاة الفجر والطريق السليم كما يقول .
ذكرته بكونها إنسانة مكافحة وتناضل من أجل لقمة عيشها وعيش أبنائها وتستحق شيئا من الاحترام من أجل ذلك مما قد يشفع لها في نظرة أقل قسوة !
كانت ملاحظتي هذه استفزازا إراديا لأنه إنسان متواكل وكسول وبدون طموح ولا همة في مكافحة عراقيل الحياة،يعيش على الحد الأدنى ولا يشتغل إلا عندما يكمل ما في جيبه رغم امتلاكه لحرفة مطلوبة في سوق العمل . بل لم يجعله اعتقاده الراسخ في القوامة الذكورية يتزحزح قيد أنملة عن تحميل أخته المهاجرة لأمريكا والمتزوجة من أمريكي مسئولية تكسير مستقبله كما يقول صباح مساء لأنها لم ترد أن تنشيء له من مالها مشروعا خاصا،وراح يحمل لها ولأخوته الذكور الذين حرضوها على ذلك نفس الكراهية . متناسيا أن الدين لا يحبذ بتاتا قطع صلة الرحم والعداوة بين الإخوة , والتقاليد لا تقبل أن تصرف الفتاة على أخيها الذكر بل العكس هو المطلوب !.

وهو يحرك لسانه بهذا الخليط العجيب من اللغو المفعم عنفا وقسوة وكراهية لازال يمد يده تجاهي طالبا مني دراهم لشراء نفس السجائر التي لم يتحمل أن يراها في فم امرأة من هكذا نوع حسب رأيه .
اجتهد كثيرا لإقناعي بأن ما يقوله هو من صميم الدين ، ونبهته بدوري لمؤهلاتي الفكرية كي لا يستمر في ترهاته وتضييع طاقته على الفاضي . اعترف على مضض بإمكانية قبوله التدخين من طرف النساء شرط ألا يكن عجوزات ،كذا ؟ احشومة والله وآري لي دراهم نشري بهم كارو نصاوب بيه لمجاج " سجائر كي أضبط بها المزاج كما قال و أشتغل جيدا ، علما أنه يطلب أيضا الموسيقى والأكل الجيد والشاي حتى يتمكن من الاشتغال في البيت .
رفضت بشكل قاطع مبررة رفضي بكون المهمة التي يمارسها حاليا لا تتطلب أي تركيز و بكون السجائر حرام حسب الدرس الذي أعطاني إياه ولأنه أيضا من العيب أن يمد" ذكر" يديه إلى امرأة طالبا المساعدة المادية حسب المجتمع المحافظ لأن الرجال قوامون على النساء . وبالتالي عليه أن يثبت قوامته سلوكا ومعاملة ،
ونبهته أيضا إلى ضرورة احترام الجوانب الإيجابية فيها وهي كونها امرأة مكافحة تقدم خدمة للناس عبر بيع الخضار ولربما كانت ضحية ظروف قاهرة ولدت لديها هذا النوع من التحدي السافر لتقاليد المجتمع المحافظ .
لم يلين أبدا من نظرته للأمور وبقيت عيناه تلمعان من شدة الغضب الذي خلقته مجرد سيجارة في فم امرأة عجوز وفقيرة .
لا بد أن أشير إلى كون هذا النجار لا يكف عن التباهي بصداقته لأحد الفنانين المرموقين لكونه يساعده في إنجاز أكسسوارات المسرح وبالتالي فهو جد متأقلم مع أكثر من "السجائر " لدى نساء الوسط الفني ونساء الشرائح الميسورة ، ولم يسبق أن علق عنها بنفس الشحنة الانفعالية بل لم يكن يركز في حكيه هذا إلا على جانب التباهي بمعاشرته للفنانين وللريع الاجتماعي الذي قد يحصل عليه من هكذا رفقة .
بدا لي كلامه متناقضا لكنه بالغ الدلالة لمن يريد تحليل هكذا مواقف .
ذلك أن علاقات القوة المستمدة من الوضع الطبقي أو الاجتماعي تحدد مركز الناس وما ينجم عن هذا المركز من رأسمال رمزي حسب تعبير عالم الاجتماع" بيير بورديو"
ذلك أن إدركنا للآخر لا يتم بشكل مجرد ،بل تتحكم فيه العديد من المعايير الذاتية والموضوعية .
وبالتالي ففعل تدخين السيجارة يختلف في أبعاده من كونه يرتكب أولا من طرف رجل أو امرأة ومن جهة ثانية حسب نوع المرأة وانتمائها الاجتماعي والاقتصادي.
وبالتالي فالاحتجاج ليس على فعل تدخين السيجارة ولكن لكون هذا الفعل ناتج عن امرأة فقيرة ومسنة وفي حي شعبي . فلو كانت شابة وبلباس عصري و في فضاء يبدو حداثيا لما بدا الأمر بهذا الهول بالنسبة للنجار المسكين الذي يشعر بالقهر بدوره لكنه يحرص على ممارسة دور السلطة على هذه المرأة من خلال خطابه ذي النكهة الأخلاقية .
والأدهى داخل هذا الحوار العجيب هو احتماء كل منهما بقوة مقدسة وهما يتجاذبان حول سلوك اجتماعي جد بسيط من حيث الفعل ومشحون بالدلالات من حيث الرمزية .
لقد احتمت السيدة بشخصية الملك التي تطرح ضمن المقدسات على الركح المغربي ،ويمثل أعلى سلطة في البلاد لتمارس حقها في النشوة بسيجارة ّ!
في الوقت الذي احتمى فيه المحتج عما يعتبره تسيبا أخلاقيا بالمقدس الديني وراح يبحث عن تسويغات لاحتجاجه ضد سلوك حرص على إعطائه بعدا اجتماعيا وأخلاقيا ودينيا ولو كان يفهم في السياسة لحوله إلى فعل سياسي.


أشفقت عليهما معا إذ يبدو بأن عدو الفقير هو الفقير نفسه وعلى مجتمعاتنا البئيسة التي لازالت تهدر طاقتها في النقاش أو الاحتجاج أو... على أمور جد تافهة و خصوصا على هذا الكم الهائل من العنف المخزون في طياتها ضد النساء اللائي يتحملن وحدهن وزر كل الخطايا بدون الاعتراف لهن بذلك الكم الهائل من المنجزات وما أكثرها !.