في ذكرى رحيل روزا باركس



فخر الدين فياض
2008 / 12 / 3

سوزان تميم.. والرأي العام العربي!!
مع مرور ثلاث سنوات على رحيل روزا باركس، المرأة التي استطاعت تغيير أسوأ القوانين العنصرية في أميركا، وقفت أمام مفارقة موجعة، وأنا أرى اهتمام الرأي العام العربي بقضية مقتل الفنانة اللبنانية سوزان تميم، وأخشى أنها المفارقة التي تختصر ما هو حقيقي في حياتنا السياسية والاجتماعية اليوم، كعرب ومسلمين.
ربما تعتبر محاكمة سوزان تميم من أشهر محاكمات العصر العربي الحديث.. محاكمة شغلت وسائل الإعلام العربية وتحولت إلى قضية رأي عام اخترقت السهرات والحوارات ..وقهوة الصباح بين ربات البيوت وطلاب المدارس وموظفي الدولة والقطاع الخاص.. ومن الطبيعي أن يسألك أحدهم مهتماً، إن كنت قد تابعت في الأمس الجلسة المثيرة التي تعدد فيها أزواج الضحية؟!
حتى أن تلك المحاكمة كانت إحدى حلقات البرنامج السياسي الناجح الذي تقدمه الإعلامية المتميزة جيزيل خوري (بالعربي) لصالح قناة (العربية) فاستضافت أحد أزواج الضحية ليتحدث عن ملابسات تلك القضية المثيرة لمعظم المؤسسات الإعلامية العاملة في أروقة العرب والعروبة والإسلام.
ربما تكون القضية مثيرة للاهتمام حقاً، فقتل فنانة جميلة لا يتكرر في عالمنا، رغم أننا من أكثر المجتمعات التي يتفشى فيها القتل، السياسي والطائفي والمذهبي، وبنظرة سريعة على شريط الأخبار اليومي فسنخرج بحصيلة من القتلى لا تقل عن مئة قتيل يومياً!!
خصوصاً أن قضية سوزان تميم لها استطالة تتعلق بأحد المتنفذين الكبار في مصر (هشام طلعت).. أيضاً لا يتكرر هذا كثيراً في عالمنا، محاكمة لأحد كبار وجهاء الاقتصاد والسياسة في المجتمع.
وبالتالي فأنا لا أعترض على انشغال الرأي العام بمثل هذه القضية، لكنني أقف أمام مفارقة تكاد تختصر الفارق التاريخي بين مجتمعنا العربي والإسلامي.. والآخرين!!... بين ما يشغل الرأي العام عندنا وما يشغل الرأي العام عند الآخرين، وربما سيسأل أحدهم محقاً هل هناك رأي عام عندنا حقاً؟! وهو سؤال يحتاج إلى مقال آخر..
ربما هم قلائل في مجتمعنا الذين سمعوا بـ (روزا باركس) التي تعرضت إلى محاكمة طويلة في الولايات المتحدة الأميركية دامت 381 يوماً، وشغلت الرأي العام الأميركي (وفيما بعد الرأي العام العالمي) وتحولت إلى حالة اتحادية ضربت شوارع ومدن الولايات المتحدة، بالاحتجاج والتظاهر والإضرابات.. وكانت الشغل الشاغل لوسائل الإعلام جميعاً.. ومؤكد أن مئات البرامج على منوال برنامج جيزيل خوري كانت قد ناقشت قضية روزا باركس..
وللذين لا يعرفون روزا باركس فهي ليست فنانة، ولا تحمل من القوام الجميل والتضاريس الملتهبة إثارة ولهفة للمرحومة سوزان تميم شيئاً.. فروزا بلا (فتنة) وبلا (مفاتن)، امرأة أميركية سوداء وفقيرة تعمل خياطة بالأجرة في أحد مشاغل بلدة مونتجومري .. وبدقة فقد كانت روزا باركس صاحبة جسد (مدعبل) وشعر زنجي أشعث .. الأهم أن روزا باركس لم تكن مهتمة بالسياسة بالمعنى المهني أو التقني.. ولم تكن تحمل من شعارات العقائديين عندنا شيئاً.. المرأة كانت أبسط بكثير من هذا، ومع ذلك استطاعت أن تغيّر أسوأ قوانين التمييز العنصري، وأن تضع لبنة أساسية لانتخاب باراك أوباما اليوم رئيساً للولايات المتحدة الأميركية!!
تبدو قصة روزا باركس بسيطة، لكنها البساطة نفسها التي تحملها القصص العظيمة في التاريخ البشري، ففي عام 1955، كانت روزا في الثانية والأربعين وتمتهن مهنة الخياطة ركبت الحافلة لتعود إلى البيت فوجدت مقعدا فارغا وجلست فيه، ولكن بعد قليل وقف أمامها رجل متوقعا أن تقوم هي لتعطيه مكانها، عكس العادة والأعراف في كل مكان في العالم، حيث أن الرجل هو الذي يقوم للمرأة، ولكن في هذه الحالة، كان الرجل يتوقع العكس، ولسبب بسيط، فقد كان هو أبيض وهي سوداء، وكان قانون الخمسينيات في هذه المقاطعة وغيرها من المقاطعات الجنوبية ينص أن السود عليهم التخلي عن مقاعدهم للبيض، وعليهم الدفع من الباب الأمامي ثم التراجع والدخول إلى الحافلة من الباب الخلفي. وكثيرا ما كان سائقي الحافلات يقفلون الباب ويتركون الركاب السود على حافة الطريق.. رفضت باركس أن تعطي مقعدها للرجل الأبيض، هاج الناس ، وتوقفت الحافلة، ولكن باركس رفضت التحرك من مقعدها. كانت مصرة على إنسانيتها بكل هدوء ومدنية أيضا. ولكن الأمر انتهى بموقف لا علاقة له بالمدنية.. فقد تم ضربها ورميها خارج الحافلة والقبض عليها من قبل الشرطة وتغريمها 14 دولارا، لخرقها قانون الولاية.
بدأت محاكمتها لتبدأ معها حركة المطالبة بالحقوق المدنية والاحتجاجات على العنصرية تجتاح الولايات المتحدة منذ ذلك الوقت.
استمرت محاكمة روزا باركس 381 يوماً.. ودخلت تلك المحاكمة إلى بيوت الأمريكان جميعاً، واستمرت الاحتجاجات التي تحولت إلى بداية ثورة إنسانية عظيمة لإلغاء التمييز بين المواطنين على أساس اللون في وسائل النقل، ووصلت ذروتها في عام 1964 بصدور قانون الحريات المدنية الذي حرم التمييز على أساس العرق في الولايات المتحدة.
ربما من المهم القول أن باركس قد منحت وسام الحرية الرئاسي عام 1996 من قبل الرئيس كلينتون، كما منحت الميدالية الذهبية من الكونغرس عام 1998.
وأنها في عام 1990 استقبلت نيلسون مانديلا بعد إطلاق سراحه من سجنه في جزيرة روبين، الذي قال لها حين رأها: "قد ألهمتني أثناء وجودي في السجن طيلة هذه السنيين".
وأنها حين توفيت في 24 أكتوبر 2005 عن عمر يناهز 92 عاماً، قد تم تنكيس الأعلام على المرافق الأميركية العامة، واعترافا بمجهودها النضالي في الحقوق المدنية، أقر مجلس الشيوخ الأمريكي تشريعاً بتكريمها بأن يستلقى جثمانها تحت قبة الروتاندا في مبنى الكونغرس، لإلقاء نظرة الوداع الأخير عليها.
لتكون روزا باركس هي أول امرأة في تاريخ أمريكا تمنح هذا الشرف، كما أنها أول أمريكية تكرم بدون أن تكون مسئولة في الحكومة..
ومن المفارقات الرائعة في التاريخ أن روزا باركس حين أصبحت امرأة عجوزا في الثامنة والثمانين من عمرها تم بيع تلك الحافلة الذي قررت فيها عصيان القوانين الظالمة بنصف مليون دولار ، ووضعت في المتحف ليأتي الناس ويتذكروا الخطوة التي بدأت بها حركة حريات السود وحقوقهم.
وبالعودة إلى سوزان تميم أقول أنني لا أقارن ولا وجه للمقارنة بين المرأتين على الإطلاق، لكنني توقفت أمام مفارقة أراها مؤلمة وفاحشة، ما يشغل الرأي العام عندنا وما يشغل الرأي العام عند الآخرين!!
لا أقول أن سوزان تميم تعبر عن انحدارنا وفساد قيمنا، ولكني أرى قضيتها وانشغال الرأي العام عندنا بها يعبران عن المستوى الثقافي والحضاري والسياسي لشعوبنا..
والسؤال ألا يوجد في مجتمعنا من هم بحجم روزا باركس؟!
من المؤكد أن هناك الكثيرين، فالمعتقلات السياسية العربية حافلة بهم، وشوارع القمع والإرهاب تمتلئ بالقامات العالية التي تناضل في سبيل مجتمع حضاري ، ومؤكد أن رموز الثقافة العلمانية الذين يواجهون برابرة الأصولية الإسلامية والقومية (ودمائهم على أكفهم) بعد التكفير والتخوين وحملات هدر الدم، هم بحجم روزا باركس وقد يكونوا أكثر نضالية وكفاحاً.. ولكن لماذا لا يمكن أن يتحولوا إلى حالات عامة تشغل الرأي العام العربي والإسلامي، شأنهم في ذلك شأن سوزان تميم مثلاً؟!!
سؤال يبدو بسيطاً ولكن الإجابة عليه معقدة وصعبة وتؤلم بمقدار ما تكون حقيقية.