الماركسية ومفهوم الحل التلقائي لقضية المرأة



تاج السر عثمان
2008 / 12 / 3

كثير من الناشطات في حركة حقوق المرأة، وفي عرضهن للماركسية وقضية المرأة يصورن أن الماركسية بشرت بالحل التلقائي لقضية المرأة بمجرد تحقيق المجتمع الاشتراكي أو تحرير المجتمع من الاستغلال الرأسمالي والاضطهاد الطبقي، علي سبيل المثال الاستاذة نعمات كوكو أشارت في ورقة اعدتها بعنوان(قضايا المرأة بين النظرية والواقع، الجزء الاول، الي أن(التحديات التي تواجه مختلف المدارس النسوية لاتعفي المدرسة الماركسية من اعادة السؤال حول تلقائية الحل لكل أنواع اضطهاد المرأة بمجرد تطبيق البرنامج الاقتصادي الذي يؤدي الي زوال الأساس المادي لعدم (المساواة الاجتماعية))(ص 15)..
وفي عرض الكاتبة للمدرسة الماركسية فيما يختص بقضية المرأة ، أشارت الي أن المدرسة الماركسية تركز على قضايا الصراع الاجتماعي والطبقي الذي يرتكز علي البنية الاقتصادية وعلى الانتاج المادي والاجتماعي وتربط بين قضايا الانسان رجلا كان أم امرأة بمنظومة الانتاج وعلاقة الانتاج وتراكم رأس المال من فائض القيمة الناتج عن علاقات الانتاج تلك، وترى أن قضايا المرأة جزء من هذه المنظومة ، هذا علي المستوى العام .. وحتى على المستوى الشخصي ( النوعي)، فانها ترى أن القضايا ذات الارتباط بعلاقة المرأة والرجل على المستوى الشخصي مرتبطة بحل القضايا علي المستوى العام . الا أن التجارب العملية خاصة في الدول الاشتراكية(الاتحاد السوفيتي سابقا) وبعض دول اوربا الشرقية اثبتت عدم صحة هذا الطرح علي الاقل علي المستوى العملي مما يستدعى أن نتعامل مع ( قضايا المرأة) علي المستويين العام والشخصي بنفس القدر من الاهتمام من حيث الدراسة والبحث والحلول..)(ص، 4).
كما أشارت د. أمال جبر الله في مقال لها بعنوان(معالجة العمي النوعي في رؤية برنامج الحزب)( الميدان: 19/11/2008م)الي أن(الرؤية الاختزالية داخل الماركسية تري أن اضطهاد المراة هو نتاج للصراع الطبقي وحده وأن سيادة الرجل داخل مؤسسة الزواج والاسرة هو مجرد نتيجة لتفوقه الاقتصادي ، وبالتالي وبمجرد المساواة في العمل والاجر تنتفي دونية المرأة وسيادة الرجل).
تواصل د. امال وتقول(ظلت مسألة المرأة ثانوية لدي الكثير من الماركسسين والاحزاب الشيوعية لأنها كما يرون تنتهي تلقائيا عندما يقضي علي الاسباب الاقتصادية).
واود هنا مناقشة هذه الاطروحات وهل صحيح أن قضية المراة تحل تلقائيا بمجرد التغير في الاوضاع الاقتصادية أو بمجرد المساواة الاقتصادية أو في العمل بين المرأة والرجل؟ وهل هذا مفهوم ماركسي صحيح ام اختزال للماركسية؟
علي المستوى الفلسفي كما هو معلوم، تناولت الماركسية العلاقة الديالكتيكية بين المادة والوعي (أو الواقع والفكر)، وأشارت الي أنه صحيح أن المادة سابقة للوعي ولكن للوعي استقلاله النسبي والذي يؤثر بدوره في المادة ويعيد تشكيلها ، فالعلاقة ليست ميكانيكية ميته جامدة ، بل هي علاقة انعكاس ديالكتيكي معقدة لايجوز التبسيط فيها.وفي الفهم المادي للتاريخ تناول ماركس العلاقة المعقدة بين الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي، وأشار الي أن الوجود الاجتماعي يحدد الوعي الاجتماعي ، ولكن للوعي الاجتماعي تأثيره علي الوجود الاجتماعي ويعمل علي اعادة تشكيله، فالعلاقة ديالكتيكية معقدة، ولذلك أشار ماركس الي أن الافكار تتحول الي قوة مادية عندما تتملكها الجماهير. علي أنه بمجرد التغير في الوجود الاجتماعي(البنية التحتية للمجتمع)، لايعني ذلك أن الوعي الاجتماعي(أو البنية الفوقية) يتغير تلقائيا.كما أشار انجلز في كتاباته ألأخيرة الي خطأ اعتبار الاقتصاد كعامل وحيد في التغيير، ورغم دور الاقتصاد الحاسم ، الا انه هناك عوامل متداخلة ومتشابكة تسهم في التغيير تتكون من قومية وسياسية ودينية وتقاليد البلد المعين وتاريخها وخصوصيتها الثقافية، كل ذلك نأخذه في الاعتبار عند معالجة مسألة التحولات الحاسمة في المجتمع، اضافة للمنهج الديالكتيكي الذي ينظر للظواهر في شمولها وحركتها وتغيرها وتبدلها الدائم، وبالتالي، لايمكن التصور، ان الماركسية نظرت لحل قضية المرأة تلقائيا بمجرد زوال الاوضاع الاقتصادية والطبقية التي تكرس استغلال الانسان للانسان.صحيح أن ماركس في كتاباته الأولي كان منكبا علي نقد المجتمع الرأسمالي، وتابع تطوره الباطني في دراسته للرأسمالية في بريطانيا والتي وصلت فيها درجة متطورة مقارنة بالبلدان الرأسمالية الأخري يومئذ، وتوصل في مؤلفه رأس المال الي القانون الاساسي للمجتمع الرأسمالي وهو فائض القيمة، وتوصل الي التناقض الرئيسي للمجتمع الرأسمالي وهو التناقض بين الطابع الاجتماعي للانتاج والتملك الفردي لوسائل الانتاج، وأنه من احشاء المجتمع الرأسمالي سوف يبرز مجتمع جديد اشتراكي، سوف يحمل في اطواره الاولي عناصر عدم المساواة، وأن قانون القيمة الخاص بحركة السلع في المجتمع الرأسمالي سوف يفعل فعله ، وبالتالي سوف يظل الحق البورجوازي مستمرا، ويأخذ الانسان في المرحلة الأولي من الشيوعية(الاشتراكية) حسب عملة، وطالما كان الناس يتفاوتون في قدراتهم الجسدية والعقلية فان دخولهم تكون غير متساوية، وبالتالي، فان ماركس كان واقعيا، ولم يتصور الحل التلقائي للتناقضات الطبقية بمجرد تطبيق البرنامج الاشتراكي، وبالتالي، فان عدم المساواة سوف يستمر لفترة طويلة في المرحلة الانتقالية.بما في ذلك عدم المساواة بين المرأة والرجل والذي سوف يستمر رغم زوال المجتمع الطبقي ، لأن ذلك يتعلق بالبنية الفوقية التي كرست دونية المرأة لقرون طويلة ، وبالتالي من المستحيل أن تزول بين يوم وليلة أو تلقائيا، هذ فهم آلي وميكانيكي وغير ماركسي، فبمجرد تحرير المجتمع من الاضطهاد الطبقي ومساواة المرأة والرجل في القانون وبقية الحقوق ، لايعني ذلك أن قضية المرأة سوف تحل تلقائيا، ذلك أن لقضية المرأة شقها الثقافي والذي يتعلق بالصراع ضد الايديولوجية التي تكرس دونية المرأة، وهذا الصراع سوف يستمر لفترة طويلة في مرحلة البناء الاشتراكي.
واذا كان الأمر كذلك، فانه لم يدر بخلد ماركس وانجلز ولينين، أن قضية المرأة سوف تحل تلقائيا، بمجرد قيام المجتمع الاشتراكي.
وعند معالجة فشل التجربة الاشتراكية في بلدان الاتحاد السوفيتي وبلدان شرق اوربا، مهم أن نوضح الاسباب الموضوعية الذاتية التي ادت لفشلها، باعتبار أن فشل هذه التجربة كان الهزيمة الثانية لجنس النساء بعد خروجهن من الانتاج المادي بعد ظهور الطبقات والمجتمع الطبقي. لقد حققت التجربة الاشتراكية في روسيا بضربة واحدة كل المطالب التي كانت ترفعها الحركة النسوية في اوربا منذ الثورة الانجليزية والثورة الفرنسية، فقد تم تحقيق المساواة بين المرأة والرجل في العمل والاجور(الاجر المتساوى للعمل المتساوى)، المساواة بين الزوج والزوجة، حق الطلاق، الحق الكامل في الاقتراع، التعليم المختلط...الخ.ولكن هذه الحقوق شئ والواقع شئ آخر، فعندما قامت الثورة الروسية، كانت روسيا متخلفة، نسبة الامية فيها، كانت 70%، كما واجهت الحصار الاقتصادي والحروب الاهلية والحرب العالمية الثانية، مما ادى للفقر والمجاعة واصبح عمليا في ظل هذه الاوضاع أن يتم تنفيذ حق المرأة في الطلاق، كما استمرت البنية الفوقية التي تكرس دونية المرأة والتي هي نتاج قرون، ومن المستحيل أن تزول بين يوم وليلة وتحتاج لسنوات طويلة للكفاح والصراع ضدها في الجبهة الثقافية. وبالتالي واجهت المرأة عقلية الرجل الشرقي والذي هو نفسه ضحية لها، الذي لايساهم معها في العمل المنزلي الذي تتحمل المرأة اعبائه وحدها، بعد وصولهما الاثنين من العمل في وقت واحد ، هذه اضافة للتقاليد الاقطاعية التي كانت سائدة في الجمهوريات السوفيتية الآسيوية، والتي تكرس دونية المرأة والتقاليد البالية والتي تحط من قدر المراة رغم التحولات الاقتصادية التي تمت والحقوق الواسعة التي نالتها المرأة، وكما كان لينين يقول( المساواة في الحقوق لايعني المساواة في الواقع)، فقد كانت المكاسب التي حققتها المرأة شئ والواقع شيئا آخر. هذا اضافة للجمود في النظرية الذي كرسه ستالين والذي كان يبسط من الاشياء ولايضعها في حجمها الحقيقي، مثل الحل التلقائي لقضية المرأة بمجرد انتصار الاشتراكية، اضافة للنظام الشمولي الذي فرضه، وتراجعه عن الكثير من الحقوق التي نالتها المرأة مثل التوجه للصناعة الثقيلة، والتي كانت علي حساب السلع الاستهلاكية الخفيفة والتي تساعد المرأة في العمل المنزلي، كما ادى انتشار الفقر الي اتشار الدعارة رغم الغاءها بالقانون..الخ، المهم في الأمر، ضرورة التقويم الموضوعي لتلك التجربة الاشتراكية والتي رغم فشلها، فانها دفعت حركة تحرير المرأة خطوات الي الامام.واهم دروس تلك التجربة : أن مصادرة الديمقراطية والقمع الستاليني اضافة لتخلف الواقع الروسي نفسه، كان له الدور الرئيسي في اجهاض مكتسبات المرأة التي حققتها في بداية الثورة الروسية، وكان هذا من اسباب انهيار التجربة الاشتراكية(قمع نصف المجتمع)، ولآن المرأة التي تتمتع بحقوقها كاملة هي الاقدر عن الدفاع عن النظام الجديد.
والواقع أن ماركس وانجلز لم يكتفيا بالاساس المادي والاقتصادي لقضية المرأة، بعد نقد المجتمع الرأسمالي باعتباره الذي يعيد انتاج عدم المساواة في الدخل وبين المرأة والرجل وبين الامم، ولكن كان ماركس وانجلز منفتحين علي الدراسات الميدانية حول قضية المرأة ومتابعة المستجدات، ولذلك تابع ماركس ابحاث عالم الاحياء دارون ونظريته التي جاءت نتيجة لدراسة ميدانية شاقة حول تطور الانواع بالانتخاب الطبيعي،كما تابع عالم الاجتماع الامريكي مورغان ودراسته الميدانية حول قبائل الهنود لفترة عشرين عاما، والتي خرج فيها بنتائج حول المجتمعات البدائية اسهمت في ترسيخ الفهم المادي للتاريخ وتابعت الجذور التاريخية لعدم المساواة بين المرأة والرجل وكيف تراجعت المرأة من النشاط الانتاجي الي العمل المنزلي في مجتمعات الرق والاقطاع التي كرست دونية المرأة وكانها منذ الازل وليست نتاج تطور تاريخي، وكيف ظهرت مؤسسة البغاء كشكل من اشكال استعباد المرأة.. الخ.وكان ماركس ينوى عمل دراسة استنادا علي انجازات مورغان، ولكن المنية عاجلته، وانجز انجلز هذه المهمة في مؤلفه( أصل العائلة والدولة والملكية الخاصة)، فالماركسية اصلا كانت منفتحة علي نتاج الفكر الانساني في مختلف العلوم الطبيعية والاجتماعية والانسانية وحول قضية المرأة، قبل أن تصاب بفيروس الجمود.
وحتى بعد ماركس وانجلز انجز علماء الاجتماع دراسات ميدانية كثيرة لمجتمعات بدائية اغنت الماركسية وعلم الاجتماع واكدت الدور الذي لعبته النساء في اكتشاف الزراعة ويشير ماندل في مؤلفه(النظرية الاقتصادية الماركسية، الطبعة العربية1973 م)، وبعد متابعة لدراسات ميدانية كثيرة انجزها علماء اجتماع، الي أنه كان للنساء الفضل في التقدم الحاسم ، ذلك الذي حققنه في ممارسة الزراعة ، حيث نلاحظ في عدة مجتمعات بدائية أن المرأة التي تنقطع في المجتمع البدائي الي التقاط الثمار وتبقي في اغلب الاحيان بجوار المسكن هي أول من بدأ يزرع بذور الثمار الملتقطة تسهيلا لتموين القبيلة ، ولقد كانت نساء قبيلة وينباغو الهندية مرغمات علي اخفاء الارز والذرة المخصص للزراعة والا اكلهما الرجال، كما يشير ماندل: الي أن هناك ارتباط وثيق مع تطور الزراعة علي يد النساء وظهور اديان جديدة قائمة علي عبادة آلهة الخصب، وان نظام الامومة الذي يمكن البرهان على وجوده لدى شعوب شتى سابقة مستوى واحدا من التطور الاجتماعي مرتبط بالدور الذي لعبته النساء في اكتشاف الزراعة(ماندل: ص، 31).
وبالتالي، فان جوهر الماركسية هو منهجها وانفتاحها علي المدارس والتيارات والدراسات الميدانية حول قضية المرأة ،وتناولها الناقد لتلك التيارات، وبذلك تتطور النظرية وتغتني ويتم اثراء منهجها، الذي يتعارض مع الجمود.كما أنه من المهم النظرة الشاملة لقضية المرأة والتي تأخذ ابعادها المختلفة: الطبقية والنوعية والثقافية.
وبعد الحرب العالمية الثانية في السودان وبأثر الفكر الماركسي تأسست الحركة السودانية للتحرر الوطني عام 1946م، واسهمت هذه الحركة في طرح قضية المرأة ، وتم تأسيس رابطة النساء الشيوعيات عام 1947م،والتي تم حلها بعد ثورة اكتوبر1964م، واصبح فرع الحزب الموحد هو الذي يضم الزملاء من الجنسين بدلا من شكل الرابطة الذي كان يضم النساء الشيوعيات في تنظيم منفصل عن الرجال، وتم ترسيخ مفهوم أن المرأة الشيوعية مساوية للرجل الشيوعي في الاعباء والواجبات في التنظيم، وكانت د. خالدة زاهر أول امرأة تدخل الحزب الشيوعي عام 1946م، كما أسهم الحزب الشيوعي في تأسيس الاتحاد النسائي عام 1952م، كتحالف واسع ديمقراطي بين الشيوعيات والديمقراطيات والوطنيات في الحركة النسائية السودانية، واصل الاتحاد النسائي النضال من اجل حقوق المرأة في التعليم والاجر المتساوي للعمل المتساوي والحقوق السياسية للمرأة ، وقوانين ديمقراطية للاحوال الشخصية، حتي استطاعت الحركة النسائية السودانية تحقيق مكاسب كبيرة في هذا الجانب ، ولازال النضال مستمرا من اجل حقوق المرأة،كما صارع الاتحاد النسائي من اجل استقلاله ضد النظام المايوي الذي ربط الحركة النسائية بالدولة، اى ان الحزب الشيوعي لم ينتظر حتي الاشتراكية ليتم الحل التلقائي لقضية المرأة، وحتي في المرحلة الاشتراكية سوف يستمر النضال من اجل المساواة التامة والفعلية بين المرأة والرجل.كما طرح الحزب ضرورة تنوع اشكال نشاط الحركة النسائية في حركة نضالية متصلة متعددة الاشكال والمنابر، لاستيعاب الاهتمامات المتنوعة والمتسعة للنساء، كما طرح قضايا ومطالب المرأة كجنس ، واشكال تنظيمها الموحد مع الرجال في الحركة النقابية ودور فرع الحزب في بناء الحركة النسائية في مجالات الاحياء.
في كل الاحوال يظل ذهننا مفتوحا للدراسات النوعية الجديدة والميدانية حول قضية المرأة، والنضال ضد كل مستويات واشكال الاضطهاد التي تتعرض لها المرأة في مختلف الجبهات السياسية والاقتصادية والثقافية.
وبالتالي فان مفهوم الحل التلقائي لقضية المرأة مفهوم فيه اختزال وتبسيط مخل للمفهوم الماركسي لتحرير المرأة كما لاحظت الناشطتان: الاستاذة نعمات ود. امال،
مع تحياتي وتقديري لهما