المرأة إنسان في المطلق لا في النسبي



ناجح شاهين
2004 / 3 / 8

حسناً، ربما أن المرأة قد احتلت منزلتها الحالية بسبب من ظروف تاريخية محددة. وربما أن ذلك هو على وجه الدقة شروط دخول الإنسان مرحلة الزراعة وما رافقها من سيطرة هائلة للجهد العضلي، الأمر الذي يعني أن أهمية المرأة تراجعت تراجعا واضحاً. وقد سيطر الذكور سيطرة تامة وصلت حد إقصاء الآلهة الأنثوية من المشهد تماما.ً أما الآلهة الذكورية فقد رفعت إلى مرتبة تفوق مستوى الجنس البشري، وإن بقي الرجل أقرب بما لا يقاس إلى مستوى الآلهة. ولعلنا نتذكر في هذا السياق أن الرجل رأس المرأة كما أن المسيح رأس الكنيسة.
ومن ناحية أخرى فإن البعض يذهب إلى حد اعتبار أن المرأة ربما تكون من بعض النواحي أضعف من الرجل من حيث المبدأ وذلك بسبب انتخابها من قبل الطبيعة للقيام بمهمة، وإن تكن مقدسة إلا أنها تضعفها لوقت طويل من عمرها، ونعني بذلك بالطبع مهمة الحمل والرضاعة والعناية بالطفل التي تفت في عضد المرأة وتستهلك جهدها العضلي والعقلي والنفسي، مما يتيح الفرصة للرجل للتفوق في مجالات الحياة المتنوعة. وبالتالي يهيمن على المرأة بغض النظر عن المرحلة التاريخية التي تمر بها البشرية.
لكن حتى لو صح أن المرأة لا تستطيع أن تجاري الرجل بسبب ما ذكر، وهي مسألة نمسك عن إطلاق الأحكام فيها، فإن ذلك لا يجب أن يعتبر مدخلاً لتسويغ أو تشريع سيطرة الرجل باعتبار الأمر الواقع. ونظن أن منحى إنسانوياً ومعيارياً هو المدخل الصحيح لقراءة المسألة. ولذلك فإننا هنا ننظر إلى الموضوع مثلما ننظر إلى قضية الاستغلال الطبقي باعتبار أنها غير جازة، وأن مبدأ قانون السوق الذي يترك الأمر للحظ "والموهبة" لتفعل فعلها في تحديد مصائر الناس هي أمور غير مقبولة في حالة البشر لأن حياة الناس لا يجوز أن تكون أشبه " بيانصيب " يعتمد على صدفة أي الأرقام يستقر عليها الدولاب أو حجر النرد. نعني أن حياة البشر هي القيمة المطلقة رقم واحد والتي لا يجوز بحال أن تترك فريسة للأهواء والصدف العمياء. وإذا كان الأمر كذلك فإن إنسانية المرأة يجب أن لا تكون رهناً بشروط اجتماعية تاريخية من أي نوع. وفي هذا السياق نذكر أن معلم البشرية الأكبر في العصور الكلاسيكية أرسطو، كان قد عد المرأة والعبد في منزلة الثور. ولعل ذلك هو ما يفهم من مطلع كتابه في السياسة المدنية إذ يذكر أن الرجل بعد الانتهاء من بناء البيت فإن عليه أن يحضر المرأة والعبد وثور الفلاحة. ومثل هذا الموقف القاسي لا يمكن فهمه إلا في سياق المرحلة التاريخية العبودية التي كان يعيشها اليونان والتي كانت الذكورية الحرة فيها تمثل أقلية سكانية تهيمن بشكل تام على أغلبية من العبيد والنساء.
لا بد أن الرجل قد تحرر إلى درجة كبيرة، وذلك على الرغم من أن الإنسانية لم تبن بعد يوتوبيا المدينة الفاضلة. ولكن على الرغم من ذلك تحرر الرجال من العبودية بشكل كامل تقريباً. وأُسست مجموعة من الحقوق الاجتماعية والسياسية ..الخ أما بالنسبة للنساء فإن الأمر ليس على هذا النحو، وقد تأخر تحرير المرأة عن أن يصبح موضوعاً ملحاً للنقاش حتى النصف الثاني من القرن الأخير. وهي مسألة بالغة الدلالة بالفعل.
لا بد أن خليطاً من العوامل المتلاقحة والمتفاعلة جدلياً تقف بوضوح وراء تخلف قضية المرأة بشكل قاس حتى اللحظة التي نعيش. بل إن المرء يخشى أن تنتكس الإنجازات التي تحققت حتى اللحظة. وقد لاحظنا أنه في سياق الركود العالمي الراهن بدأت أصوات في قلب القارة خالقة قيم الحداثة – ونعني أوروبا بالطبع- تطالب بعودة المرأة إلى المنزل، فكأن أول تراجع اقتصادي يجب أن تدفع ثمنه المرأة. وهو ما يؤشر بوضوح إلى أهمية مطلبنا بضرورة الوصول إلى حالة وعي تضمن المرأة حتى في ظل التراجعات في الشروط الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية المختلفة. على الإنسانية أن تنجز مساواة للجنسين بشكل يتجاوز النسبي التاريخي ويجعل إنسانية الجنس البشري المتساوية أشبه باعتقاد مطلق لا يمكن الارتداد عنه. إن بزوغ العلم الحديث والمعاصر قد يمهد السبل لمثل هذا الفهم.
وهناك في الواقع فرق واضح بين كل ما يمكن أن نقول عن وضع المرأة في المستوى الإنساني العام وبين وضعها في الحالة العربية الغريبة بالفعل حيث يبدو أن المرأة هنا تغيب غياباً تاماً بالفعل، بمعنى أنها لا توجد بفاعلية اللهم في نداءات الإغراء في الفضائيات المؤسسة منذ وقت قليل. وقد وجدت الرأسماليات المحلية الهزيلة في المرأة وسيلة ملائمة جداً لدر الربح من وسائط تشبه بشكل كبير وسائط الدعارة الصريحة. ويؤسفنا القول أننا لا نستطيع أن نتخيل أن حضور المرأة على الشاشة الصغيرة في الوقت الحالي يمكن أن يؤدي أي دور في قضية تحرر المرأة وأخذها جزءاً ولو يسيراً من دورها المجتمعي العام.
بالعكس يبدو الدور الذي بدأت الفضائيات في إعطائه للمرأة مؤخراً أكثر انسجاماً مع الرؤية الجمعية اللاواعية للمرأة بوصفها موضوعاً للجنس فقط. وفي بلادنا وعلى الرغم من كل "الجعجعة" النهارية حول كرامة المرأة وإنصافها وأن النساء شقائق الرجال..الخ فإن الواقع هو أن المرأة لا تسلم سواء أكانت زميلة أم حبيبة أم رئيسة أم مرؤوسة من النظر إليها أولاً وآخراً على أنها وعاء لشهوات الرجل. ويجب أن نضيف هنا أمراً مرعباً بالفعل وذلك على الرغم من أنه يتغلغل في حياتنا العربية منذ أفد الأزمنة، ونعني به النظرة الغريبة للعلاقة الجنسية التي يظهر أنها من المحرمات في الخطاب العلني بينما تحتل أكثر من نصف الخطاب الأكثر أهمية ونعني به بالطبع الخطاب الليلي.
لا بد من التذكير هنا بأن المرأة هي مفعول به في الفعل الجنسي، وليست على الإطلاق شريكاً فيه. ولعل من المناسب القول أن كثيراً من الفتية العرب يحسون بالصدمة عندما يكتشفون أن المرأة مثل الرجل لها مشاعر جنسية. ومن نافل القول أن الإخوة بشكل عام ينظرون إلى أخواتهم ككائنات منزهة عن الرغبة الجنسية. ومن نافل القول أن " خضوع " المرأة للفعل الجنسي وإن يكن داخل مؤسسة الزواج لا يعد أمراً يثلج صدر الأب أو الأخ، إنه كما يلاحظ السيد أحمد عبد الجواد في بين القصرين أمر حلال، ولكن أي حلال، إنه حلال بغيض. وذلك بالطبع على الرغم من الحياة الماجنة التي عاشها السيد خارج المنزل.
لا يمكن للمرأة التي تحتل مواقع سلبية كلما ذكر الجنس أن تصل حد المساواة، فالمرأة تتعرض للوطء والحرث والمجامعة والمضاجعة، وهي لا تفعل شيئاً باستثناء التلقي. ولعل من الملائم الإشارة إلى أن اللغة الشعبية في التعبير عن دور المرأة في الجنس هي أسوأ بما لا يقاس، وهي لغة لا نجرؤ بالطبع على استخدامها خوفاً من الجمهور أكثر مما هو خوفا من مقص الرقيب. فالجمهور الذي يستخدم لغة ذكورة فائقة القسوة والإهانة في وصفها للمرأة يغضب أيما غضب إذا خدشنا الحياء العام بذكر مفردات قاموسه في مقالة أو كتاب مطبوعين. وذلك ينسجم مع ثقافة التظاهر والنفاق الاجتماعي التي تتوهم أن الشيء يختفي من الوجود إذا تظاهرنا بأنه غير موجود. لا بد أن الكل الاجتماعي السياسي الاقتصادي..الخ هو أمر معقد ومترابط ومن هنا تعقيد قضية المرأة لكننا على الرغم من ذلك نظن أن أحد المداخل المهمة للتغيير الاجتماعي الكلي في بلادنا مثلما تثوير وضع المرأة يكمن في فتح ملفات قضية المرأة علناً وعلى رؤوس الأشهاد إنه خطوة أولى ضرورية وقوية نحو التشخيص ستقود حتماً غلى وضع القدم على أول الطريق ولعل من أسوأ ما تعرضت له قضية المرأة هو طوال الوقت تأجيلها بانتظار " تحرير الوطن " أو تحقيق التنمية الاقتصادية نظن أن قضية المرأة لا تنفصل عن كل ذلك وقد تكون أحد متطلباته الأولية.