قمع المرأة للمرأة



توفيق أبو شومر
2008 / 12 / 16

ما أكثر الندوات والمؤتمرات وأوراق العمل التي يقدمها الباحثون تحت عنوان " في مديح النساء الجميلات المبدعات، الأمهات والأخوات ويرددون بيت الشعر :
الأمُّ مدرسةٌ إذا أعددتها
أعددتَ شعبا طيِّبَ الأعراق ".
أو يُنشدون قصائد الهجاء في حقِّ كل الرجال القساة على النساء ،ويرتجلون أبياتا في ذمِّ مجتمع الرجولة الذي ينسى الجنس اللطيف الجميل !
من المعروف بأن الرجال عندما يكونون في محضر النساء فإنهم يتبارون في إظهار عطفهم وحبهم ورعايتهم ودعمهم ونصرتهم لحرية المرأة ، فهم يُبرزون عضلاتهم الرجولية أمام النساء لكي يظهروا كأنصارٍ وحيدين وفريدين للنساء المقهورات المظلومات في مجتمع الرجال .
وللعلم فقط فإن معظم النساء يعرفن ذلك ، ويدركن بأن لكثير من الرجال شخصيتين ، أحداهما تظهر في الحفلات والندوات ، وهي الشخصية الزائفة ، أما الأخرى الحقيقية فلا تعرفها غيرُ نسائهم وبناتهم وأخواتهم .
نعم ستظل أغلبية النساء العربيات على وجه الخصوص يعشن قهر مجتمع الرجولة لهن وهي حقيقة ، هذا المجتمع الذي أفلح منذ عقود في جعل المرأة قطعة من الحلوى في جيب الرجل يمص رحيقها ، ثم يلفها من جديد ويعيدها إلى جيبه، وما إن تذوب بين شفتيه في المصَّة الثانية حتى يشتري قطعة أخرى غيرها. نعم ستظل كثيرات من النساء العربيات في مجتمعات الرجولة العربية يُطالبن بحقوقهن المشروعة في الحرية والحياة ، ويستخدمن أكثر الشعارات شعبية وهو شعار المساواة في الحقوق والواجبات ، وحين يرجعن إلى منازلهن ، يلبسن أثواب الاستعباد ويقنعن بالراهن والمعتاد ، بدون أن يتمكنَّ من بلورة أية صيغة تُخرج المرأة من عبوديتها إلى عالم الحرية .
ستظل كثيرات من النساء يعتقدن بأن الرجال هم السبب في استعباد المرأة وإذلالها وجعلها في منزلة الخادمة ، وستظل المؤتمرات النسائية تشير بأصابع الاتهام إلى الموروث العربي من السطوة الرجولية كمتهم رئيس ، ومن السهل أن تشير أوراقُ العمل في هذه المؤتمرات إلى مظاهر استعباد المرأة لأنها فقط أنثى ، فتسرد الأوراق حرمان المرأة من حرية اختيار الزوج ، ومن حرية إكمال التعليم ، ومن حرية اللبس والخروج والسفر وحدها بدون أن يرافقها هيكل رجلٍ .
غير أن اضطهاد المرأة للمرأة نفسها سيظل غائبا في كثير من المؤتمرات والندوات ، وأنا أرى بأن هذه الظاهرة هي الأخطر من اضطهاد الرجل للمرأة .
إن اضطهاد المرأة للمرأة هو الأقسى والأخطر ، فحين تعاقب الأم ابنتها ولا تعاقب ابنها على نفس الخطأ ، فإن ذلك اضطهاد بشع ، وحين تسمح الأم لابنها الذكر بالخروج واللعب في الشارع ، والعودة وقتما يشاء ، بينما تضبط ساعتها على جولات ابنتها الأنثى ، وتعاقبها إذا تأخرت ، فإن ذلك قمة العنف .
وحين تردد كثيرٌ من الأمهات والنساء المثل العربي المنفِّر والبشع " البنات همٌّ إلى الممات" ، فإن الكارثة الكبرى هي إذن اضطهاد المرأة للمرأة .
وحين تفرض إحدى الأمهات على ابنتها التي بلغت سن السادسة عشرة أن تصحب معها أخاها الذكر الذي لم يبلغ التاسعة من عمره كشرط أساسي لخروجها إلى الشارع فإن ذلك أمرٌ بشعٌ ترتكبه المرأة في حق المرأة .
وحين تُرفض أمٌّ أن تزوج ابنها لفتاة أحبها واقتنع بأنها ستكون زوجة فاضلة، لأنها فقط قد طُلقتْ من زوجها السابق لعدم التكافؤ، فإنها ترتكب جرما في حق المرأة ، وفي حق ابنها .
وحين تُرغمُ امرأةٌ ابنتها الشابة أن تتزوج رجلا هرمٍا لتكون له خادمة في آخر عمره بحجة أنه غنيٌّ يملك المال والعقار، فإنها لا تقتل شباب ابنتها فقط، بل تسيء إلى جنس الأنثى كله.
وحين ترفض المرأة الفلسطينية أن يتزوج ابنها من فتاة قضت سنواتٍ في السجون ، لا لأنها ارتكبت جريمة بشعة ، بل لأنها كانت مناضلة، وتسميها " خريجة السجون، لا تصلح للبنين " فإنها تمارس العنف البشع في حق بنات جنسها .
وحين تحرم المرأةُ العنيفة امرأة ابنها المطلقة الضعيفة من أولادها لأنها أم الرجل الزوج ، وتمنع الأم حتى من حضانة أبنائها فإنها ترتكب أبشع الجرائم في حق النساء .
وحين تغضٌّ المرأة النظرَ عن أخطاء وهفوات أبنائها الذكور وتتستَّر على أخطائهم الجسيمة وتعتبرها هفواتِ رجلٍ ، بينما تعاقب بناتها على هفواتٍ بسيطة ، فإنها تكون امرأة قاسية قمعية مستبدة .
وحين تمنح ابنها مصروفا يوميا يعادل مصروف الأنثى في أسبوع فإنها تكون امرأة ظالمة لجنس النساء.
يجب إذن أن تتوجَّه جهودنا لترسيخ قيمة المرأة في نظر المرأة أولا ، وإقناع النساء بدور النساء ، وجعل النساء يثقن في النساء ، لا لأنهن نساء فقط ، بل لأنهن يملكن ما يملكه الرجال ،العقل الراجح والوعي والإدراك .
يجب أيضا أن تُشجع المرأةُ المرأةَ على البروز والتفوّق ، فعندما تبرز امرأةٌ وتتفوق تصبح رمزا يُقتدى به، لا من النساء فقط ، بل من الرجال أيضا .
إن العيب الكبير في عدد كبير من النساء العربيات ، هو أنهن يشوّهن المتفوِّقات ، ويقتلن المبدعات ، ويُطلقن الشائعات القاتلة على البارزات ، فما يزال سلاحُ الشائعة في العالم العربي على المرأة، هو أخطر الأسلحة التي لا تدمر النساء فقط ، بل تدمر النسيج الاجتماعي كله .
ولكن ما أكثر العائلات والفتيات والنساء اللاتي يصلحن أن يكنَّ نموذجا للفتاة الحرة الواعية ، التي تؤثر إيجابا على كل النساء .
أعرفُ عائلة تمكنتْ من منح المرأة كل حقوقها ، بفضل الأم المثقفة الواعية، فقد أتاحت لبناتها أن يصلن إلى المرتبة العليا ، فحصلت البنت الأولى على شهادة الدكتوراه ، أما الثانية فتستعد لنيل الماجستير ، لدرجة أن ذكور العائلة أصبحوا يفاخرون بهما قائلين :
أنا أخو الدكتورة ، وابن عمها وخالها .
وما تزال عائلاتٌ عربية كبيرة تُنسب إلى نساء العائلة وتعتزُّ بنسبتها إلى الأنثى القوية المبدعة القائدة التي خلدت اسم عائلتها في سجلات التاريخ.