وتبقى المرأة شامخة ولو كَرِهَ فقهاء السلاطين



صادق إطيمش
2009 / 3 / 8


الثامن من آذار ، عيد المرأة العالمي ، يعيدنا في كل عام إلى مطالعة دور المرأة في تاريخ البشرية منذ نشأته الأولى وحتى يومنا هذا . المرأة التي كتبت فصولاً كثيرة من التاريخ الإنساني والتي ظلت تسجل الصفحات تلو الصفحات في هذا التاريخ الذي لا يستقيم له سبيل دون المرأة . المرأة المساهمة في صنع التاريخ ويومها في الثامن من آذار من كل عام مناسبة ليست لإستعادة أمجاد المرأة والإحتفال بها فقط ، بل ولمعالجة ما تتعرض له المرأة من غمط الحقوق والتنكر لمكانتها في المجتمع والمحاولات التي تجري لإبعادها عن التأثير في التطور الذي تنشده الشعوب والذي اثبت التاريخ بكل مفاصله بأن مثل هذا التطور لم ولن يتم بمعزل عن المرأة ومساهماتها في مختلف مناحي الحياة .
لا نريد الغوص في أعماق التاريخ القديم والعودة إلى مجتمعات الأمومة التي قامت عليها البشرية الأولى ، والدور القيادي الذي لعبته المرأة في جميع الحضارات البشرية المعروفة كالسومرية والبابلية والفرعونية والصينية والهندية، حتى بلغت مرحلة الألوهية عند الكثير من الشعوب ، بل نرغب التطرق إلى بعض مفاصل تراثنا العربي ألإسلامي لندرس دور المرأة في إنجاز هذا التراث وفي صيرورته ، وما هو الموقف الذي يتخذه منها بعض من جعلوا انفسهم وكلاء على الدين ألإسلامي وهم لا يفقهون منه إلا ذلك القدر الذي يتعلق بمصالحهم الذاتية الأنانية.
فإذا ما إنطلقنا من التراث العربي بشكل عام فسوف نجد المواقف الكثيرة والأزمنة المختلفة التي لعبت فيها المرأة الدور القيادي في المجتمع بحيث أصبح لها مركزاً إجتماعياً مرموقاً سواءً في مجالات الأدب أو السياسة او الدين . وما الخنساء أو زنوبيا ملكة تدمر او رابعة العدوية إلا أمثلة قليلة على ذلك الكم الهائل من النساء اللواتي وضعن أناملهن على مسيرة هذا التاريخ .
ظل موضوع موقف الإسلام من المرأة مطروحاً للنقاش الذي لم يصل المشاركون فيه إلى نتيجة ترضي أطراف هذا النقاش الذي يزداد توتراً بمرور الزمن . فلا يستكين أنصار المرأة والمدافعون عن حقوقها في المجالات كافة وإلى مساواتها التامة بالرجل من حيث الحقوق والواجبات ، هذه المساواة التي تنطلق من النظرة الإنسانية والبايولوجية لكل من الجنسين ، لا يستكين هؤلاء لطروحات بعض دعاة الفقه الإسلامي ومنتحلي صفة العِلم الذين ينددون بالمرأة باعتبارها تختلف عن الرجل من حيث كمال العقل والدين الذي وضعوه كصفة من صفات الرجال ونقص في تكوين النساء . هذه الإطروحات التي لا تنسجم وطبيعة فهم الدين الإسلامي المقترنة بتوظيف العقل ، ولا مع التفكير العلمي ولا مع الواقع العملي الذي اثبتت فيه المرأة جدارتها في العمل والقيادة والتخطيط والتوجيه ، بحيث انها بزّت الرجل في كثير من المواقف والمواقع العلمية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية. إلا ان هذا التفوق الذي نالته المرأة في كثير من المجتمعات التي أتاحت لها سبل ذلك ، ليس مجال حديثنا اليوم ولا نريد الخوض فيه لسببين . السبب الأول يتعلق بتحجر بعض العقول التي لا تريد ان تنظر إلى هذه الحقائق العلمية ولا تعترف بها لأنها لا تفقه شيئاً من ذلك . والسبب الثاني هو تعامي هذه العقول عن حقائق يعترفون هم فيها في باطن أفكارهم إلا أنهم لا يسمحون لأنفسهم بالمجاهرة بها ، إذ أن مثل هذه الجاهرة ستنسف ما يروجونه من مفاهيم ضد المرأة التي جعلوا منها مجرد سلعة تباع وتشترى لحساب الرجل ، حتى وإن كان هذا الرجل يعيش التخلف بكل وجوهه وأشكاله .
إن ما نريد مناقشته اليوم هو ذلك الموقف المتنكر للمرأة والذي يمارسه بعض فقهاء السلاطين جاعلين منه واحداً من الأسس الدينية ، وما هذه الأسس من وجهة نظرنا إلا أسس دين هؤلاء الفقهاء وليس دين السماء .
لا يتطرق فقهاء السلاطين إلى المرأة باعتبارها أول إنسان آمن برسالة النبي محمد (ص) . إن أول شخص أخبره النبي الكريم بما حصل معه في غار حراء حين إستلامه لرسالة السماء كانت زوجته خد يجة (رض) التي إستقبلت ما جاء به كبدء لنبوته ، والتي آمنت بذلك قبل ان يطَّلع على هذه الرسالة أي إنسان آخر، والتي شجعته على الإستمرار في رسالته هذه ، والتي وفرت له كافة ما يحتاج إليه لمواصلة التكليف الإلهي . لقد ذكر كثير من المؤرخين المنصفين بأن الدين الإسلامي لم يستطع الوقوف بوجه قوة قريش وجبروتها دون أموال خديجة ومناصرة أبو طالب الذي أدرك الإسلام ولم يسلم ، إلا أنه نصر الدين الجديد ودافع عنه بكل ما يملكه من موقع إجتماعي ومنزلة رفيعة في قريش . فهل ان خديجة أول إنسان أسلم على يد النبي والتي ادركت ماهية هذه الرسالة منذ لحظاتها الأولى ، هل أن إنساناً كهذا يمكن أن يوصَف بأنه ناقص العقل والدين ، كما يصف فقهاء السلاطين النساء بهذا الوصف ..؟
ولا يتطرق فقهاء السلاطين إلى دور ومكانة أسماء إبنة ابي بكر الصديق التي لقبها النبي بلقب " ذات النطاقين " تكريماً لمواقفها في نصرة الدين اثناء الهجرة . تلك المواقف التي ساهمت في وصول النبي إلى المدينة واستقراره فيها والتي ساهمت بعملها هذا على توطيد أركان الدين الجديد الذي كان يحاربه أثرياء مكة. فهل ان مثل هذه البطلة لا تستحق التكريم والمساواة بالرجال الشجعان الذين ناصروا الدين منذ أيامه ألأولى ...؟ وهل يصر متحجرو العقول على أن إمرأة كهذه والتي كانت فقيهة وعالمة في شؤون الدين ايضاً ، وليست شجاعة فقط ، ناقصة عقل ودين ..؟
ويقع فقهاء السلاطين في مغالطات وازدواجية مملة حينما يتكلمون عن فاطمة الزهراء (رض) ويذكرون صفاتها ومنزلتها لدى والدها الذي جعلها بضعة منه . إنهم يتعاملون مع إمرأة يعلمون جيداً بأنها تمتلك من الصفات والمؤهلات ما لم يمتلكه كثير من الرجال ، لا بل وإن قسماً منهم يقدس هذه المرأة التي تشير سيرة حياتها إلى رفعة منزلتها في المجتمع وعلو شأنها . فهل ينطبق " حديثهم " عن المرأة بانها ناقصة عقل ودين على هذه المرأة أيضاً ، أم انهم سيلجأون " كعادتهم دوماً في مثل هذه المواقف المحرجة لهم " إلى التأويل والتضليل للخروج من مأزق كهذا ..؟
وهناك الكثير من الأمثلة الأخرى عن نساء برزن في التاريخ العربي والعالمي، واللواتي بلغن مواقع قيادية في المجتمع والسياسة والإدارة وفي مختلف أنواع العلوم والفنون والآداب. إلا أن فقهاء السلاطين يصرون ، رغم ذلك كله ، على ان المرأة ناقصة عقل ودين ، ويرددون مقولة " لا افلح قوم ولوا امورهم إمرأة " وينسبون كل ذلك إلى النبي محمد (ص) ، فما مدى صحة هذه الإدعاءات وما مدى صحة نسبتها إلى النبي ، وهل هي أحاديث نبوية حقاً ، ام انها تخريجات فقهية جاء بها فقهاء السلاطين هؤلاء ، وما مدى إنسجام هذه الإدعاءات مع مفهوم الرسالة ألإسلامية وتعاليمها ..؟
من خصائص الأحاديث النبوية الصحيحة هي ان لا تكون أحاديث آحاد ، أي انها لا تكون منقولة عن شخص واحد وليس لها ما يسندها في القرآن والسنة . فأين موقع هذا الحديث " لا أفلح قوم ولوا أمورهم إمرأة " في السنة النبوية الشريفة..؟
يجيب الكاتب الإسلامي محمد عماره في كتاب التحرير الإسلامي ، من منشورات دار الشروق ، على هذا السؤال فيقول : " إنه لا يوجد في القرآن كله أو الأحاديث الصحيحة سوى هذا الحديث وحده فلا شبيه له يقويه . ولم يروه غير واحد ، وأحاديث الآحاد دلالتها ظنية بالإجماع ."
وعلى هذا الأساس فإن هذا الحديث الذي يريد به فقهاء السلاطين تعطيل دور المرأة ما هو إلا حديث موضوع لا سند له ، يوظفه أعداء المرأة لنيل ما في نفوسهم من غايات دنيوية لا علاقة لها بالدين وتعاليمه الحقة . كما ان راويه الوحيد المدعو أبو بكره لم يُعرَف عنه بأنه من حفظة الحديث أو من رواته المشهورين . وتذكر بعض المصادر أن رواية هذا الحديث هي واحدة من الخدع المستعملة في الحروب ، حيث جاء ذِكر هذا الحديث لأول مرة في واقعة الجمل والذي أدى إلى إنفضاض بعض أنصار عائشة (رض) عنها مما أدى إلى خسارتها الحرب . ( إنظر مثلاً كتاب : مفاهيم خاطئة تؤخر المسلمين ، تأليف د. أحمد شوقي الفنجري ، مكتبة مدبولي ، الطبعة الثانية ، 2007 ، ص.272)
كما جاء في المصدر أعلاه وفيما يتعلق بهذا الحديث على الصفحة 273 ما يلي: " وآخر القول فقد حسم فضيلة شيخ الأزهر الدكتور محمد سعيد طنطاوي هذه القضية بفتواه العصرية الرشيدة التي صدرت يوم 18.03.2005 . فعندما أعلنت مصر رسمياً ان منصب رئيس الجمهورية سيكون بالإنتخاب العام بين أي مرشحين ، فقد أعلنت بعض النساء ممن لديهن الكفاءة والأهلية رغبتهن في الترشيح إذا وافق الأزهر على ذلك وكان لا يتعارض مع الدين . فجاءت فتوى فضيلة شيخ الأزهر الرجل الشجاع العالم المستنير وحسم فضيلته الخلاف مع جميع المعارضين لولاية المرأة لأي منصب في الدولة إبتداءً من حقها في عضوية مجلس الأمة والقضاء والوزارة إلى رئاسة الجمهورية ."
إن هذه الصفات الهمجية المتخلفة التي تطلق على النساء على انهن ناقصات عقل ودين لا تحتاج إلى كثير من العلم والمعرفة لنقضها وإثبات بدائية القائلين بها من فقهاء السلاطين واشباههم . فكيف يكون المخلوق من قبل الله ناقص عقل والقرآن الكريم يقول في الآية الرابعة من سورة التين : " لقد خلقنا ألإنسان في أحسن تقويم " . فكيف يجعل فقهاء السلاطين من خلق الله هذا الذي يصفه القرآن بأنه جاء على أحسن تقويم بأنه ناقص ..؟ هنالك ثلاثة إحتمالات لهذا التصرف اللاديني . فإما ان فقهاء السلاطين هؤلاء لا يفهمون القرآن ولكنهم يحاججون به رغم عدم فهمهم له ، وهذه هي إحدى الكوارث التي حلت بالمجتمعات الإسلامية التي اصبح فيها الجهلاء بالدين والدنيا قادة لهذه المجتمعات ، وها هي النتائج التي نراها اليوم بسبب هذه القيادات الجاهلة . أو أن فقهاء السلاطين هؤلاء يعرفون فعلاً ما ينص عليه القرآن من كمال خلق الإنسان ، إلا أنهم يضعون أنفسهم فوق هذه النصوص التي تعرقل بعض تسلطهم على مجتمعاتهم فيقومون بلي عنق النص ليستجيب لأطماعهم وشهواتهم ، وليضربوا بكل التعاليم الدينية الحقة أمام البسطاء من الناس عرض الحائط . أما ألإحتمال الثالث فهو انهم لا يعتبرون النساء من ضمن المخلوقات البشرية التي خلقها الله في أحسن تقويم .
أما أن المراة ناقصة دين وما يبررون به هذيانهم هذا بحيض المرأة الذي يمنعها عن ممارسة بعض الطقوس الدينية وقت الحيض ، فذلك أمر لا يقود إلى الإشمئزاز من هذا الطرح وحسب ، بل وإلى الـتأمل فيما يفقهه هؤلاء من الدين عموماً ومن الطقوس الدينية المفروضة على الملتزمين بالتعاليم الدينية .
تطبيق الفرائض الدينية له سياقاته الخاصة بكل فريضة من هذه الفرائض وهناك من الأمور التي يجب مراعاتها في حالة تطبيق او عدم تطبيق هذه الفرائض . فإذا كان حيض المراة يؤدي إلى وصفها بنقص الدين ، فلماذا وضع الله هذه الحالة فيها...وهل أن عملاً إلهياً يؤدي إلى تعطيل فرائض إلهية بحيث نطلق عليها صفة النقص التي تعني لغوياً فَقدَ جزء من الكل . وإن كان الأمر كذلك فلماذا وُضعت قاعدة التعويض في الصوم أو الصلاة . وهل ينطبق ذلك على المرأة فقط التي لا تستطيع أن تمارس بعض الفراائض الدينية اثناء الحيض فيجعلها ذلك ناقصة الدين ، أم ان ذلك ينطبق على الرجال والنساء أيضاً الذين لا يصلون الصلاة كاملة اثناء السفر مثلاً أو لا يصومون في مثل هذا الوقت إلا أنهم يعوضون ذلك في المستقبل..؟ وهل أن المرضى الذين لا يستطيعون ممارسة الفرائض الدينية كاملة أو على وجهها الصحيح أو بشكل رمزي هم ناقصو دين..؟ إن هذا الحديث يتنافى مع المنطق الذي تميزت به الأحاديث الصحيحة ويتنافى ايضاً مع العقل الذي إفترض وجوده ألإسلام كمساعد على فهم التعاليم الدينية . وإن هذه التعاليم الدينية تشمل النساء والرجال على حد سواء ، كما بينت ذلك الكثير من الآيات القرآنية الكريمة التي لم تذكر الرجل المؤمن إلا وذكرت إلى جانبه المرأة المؤمنة ، ولم تُشر هذه الآيات إلى نقص في إيمان هذه المرأة ، ويمكن الرجوع إلى ألآيات 71 من سورة التوبة ، و 12 من سورة النور، و 35 من سورة الأحزاب للتأكد من ذلك . كما أن هذا الحديث يتناقض وسيرة النبي محمد (ص) الذي عُرف عنه التعقل في إصدار الأحكام والحكمة في تطبيقها ، والذي جعل " الجنة تحت أقدام ألأمهات " ، فهل يمكن أن تتبوأ المرأة الأم هذا المكان من الجنة إن كانت ناقصة دين . إن حديثاً كهذا خال من كل هذه الصفات التي تتصف بها أحاديث السنة النبوية الشريفة . ولا يمكن أن يكون من محتويات هذه السنة لأنه يتناقض معها ومع النصوص القرآنية التي لا يُسمح للسنة النبوية التناقض معها .
المراة اثبتت عملياً وتاريخياً بانها ساهمت في بناء المجتمعات على إختلاف أنواعها ومواقعها . وإن ما يُدبر اليوم في العلن والخفاء ، من قِبَل مَن يضعون أنفسهم في موضع الوكلاء على الدين ، لغمط وتشويه وإنكار دورها هذا لا ينبغي له ان يمر دون ان تتحرك المرأة نفسها لتفعيل المجتمع بكامله ليقف ضد هذه المحاولات التي يقودها فقهاء السلاطين هؤلاء اللاهثين وراء السلطة والجاه لا وراء العدل والمساواة التي جعلتها التعاليم الإسلامية الحقة ركناً أساسياً من أركانها والتي يتنكر لها هؤلاء .
وعلى المرأة العراقية بشكل خاص ان تنفض غبار القيمومة عنها وتخرج إلى المجتمع بروح الثقة العالية والمقدرة الكافية التي تؤهلها لتبوأ المواقع القيادية في العراق الجديد الذي لا يستطيع أن يستغني عن نصف مكوناته نزولاً عند رغبة بعض العقول الجاهلة المتخلفة . وليكن هذا الثامن من آذار وكل يوم آخر قادم منطلقاً لمسيرة المرأة نحو غد أفضل ومستقبل زاهر . ولتلعب المرأة العراقية المثقفة على وجه الخصوص دوراً مضاعفاً في عملية التنوير التي لم تصل إلى الكثير من النساء العراقيات اللواتي لا زلن يجهلن أهمية دورهن في المجتمع .
الدكتور صادق إطيمش