النسوية الثالثة التعددية والاختلاف وتغيير العالم



ناهد بدوي
2009 / 3 / 9

تتميز الموجة النسوية الثالثة عن سابقاتها بالإيمان بالتعدد والابتعاد عن الأيدلوجية وكسر الاحتكار من قبل أي كان. وهي تختلف عن النسوية الأولى في أوائل القرن العشرين والتي حققت حصول النساء الى حق التصويت الانتخابي. كما لاتشبه نسوية السبعينات أي الموجة الثانية من النسوية (والتي كانت تعكس خبرات الشريحة العليا من الطبقة الوسطى للمرأة البيضاء في سعيها لتمكين المرأة الاقتصادي والسياسي).
أولى أهم نقاط الاختلاف عن الموجات السابقة هي أن ناشطات الموجة النسوية الثالثة تعتبر ان التحرر هو ليس نسخ تجربة الآخرين ولا يعني تقليد مافعلته الحركات النسوية السابقة بل النسوية تعني أن نجد طرقنا الخاصة للحرية وان تكون أصيلة ونابعة من رغباتنا وقناعاتنا وظروفنا نحن. كما يمكن ان تتغير مع كل جيل ومع كل فرد ومع كل ثقافة ولون. وقد بدأت جذور الموجة الثالثة في منتصف الثمانينات من القرن العشرين حينما دعت الناشطات النسويات إلى شخصية جديدة للنسوية. وقد تم التركيز على التقاطع بين العرق والجندر . وهذا ما أدى الى تزايد نسبة عدد الناشطات النسويات الملونات والآسيويات كما تزايد عدد السياسيين من الأقليات الذين يتبنون خطاب نسوي جديد يركز على جذب الشابات من النساء.
من أهم نقاط الخلاف الأخرى مع الموجات النسوية السابقة هو ميل هذا التيار إلى الشك في العملية الأيدلوجية التي تضع الرجل والمرأة في فئتين منفصلتين ومتضادتين. كما يتبنى هذا التيار مبدأ الميل إلى الجنس الآخر ويحاول وضع مجموعة من الأوليات التي يكون فيها للرجل مكان كعاشق وزوج وأب وصديق مع التأكيد على أن المرأة والرجل مختلفين حقا وأن الحصول الحقوق الكاملة لا يعني التشابه بين الجنسين إطلاقا، لا بل تعتز الناشطات والمنظرات للنسوية الثالثة بأنوثتهن وتعتبرها من مصادر قوتهن.
لا تفضل الكثيرات من ناشطات الموجة الثالثة ان يوصفن بكلمة فيمينسيت لأن هذه الكلمة يمكن ان تؤدي الى التباس والاحالة الى المفهوم الرائج للجندر. و أكثر من ذلك يمكن لكلمة فمينيست أن تؤدى الى سوء فهم بحيث توحي بالنسويات النخبويات الأيدلوجيات. ويرفضن التعريفات العمومية المؤدلجة فمثلا تسعى ناشطات الموجة الثالثة الى تحدي ورفض أي تعريف عام للأنوثة وذلك كمقدمة منطقية للاقتراب من الواقع الملموس المتعدد والملون.
لذلك تعترف النسوية الثالثة بالاختلاف وحتى التناقض في داخل الموجة نفسها تقول ليزلي هايوود وجينفر دريك محررتا اولويات الموجة الثالثة: (ان الاختلاف الأساسي بين الموجة الثالثة والموجة الثانية هو أن النسويات في الموجة الثالثة لايجدن بأسا من التناقض، لأنهن نشأن وسط بنيات نسوية متنافسة فأصبحن يقبلن التعددية كأمر مسلم به.)
ترسي الموجة الثالثة جذورها في عملية السعي الاجتماعي والسياسي التي لا تبدأ ولا تنتهي بالطبقات الوسطى البيضاء، وتتصدى ناشطات الموجة الثالثة للمشكلات المختلفة والمتنوعة التي تبدو أنها تؤدي الى اضطهاد النساء مثلها مثل كل الهويات المهمشة. وعندما تكون المرأة الناشطة ملونة أو تنتمي للعالم الثالث فأنها بذلك تعبر عن هامش الهامش وهنا تأتي خصوصيتها وأهميتها أيضا. تتناول آن بروكس مثلا مطالب الثقافات المهمشة والمستعمرة وثقافات الشتات من أجل خلق نسوية غير مهيمنة قادرة على التعبير عن التيارات النسوية المحلية الأصلية في مرحلة مابعد الاستعمار.
ان مذهب رفع سوية الوعي وانتشار التعليم هو الخطوة الأولى للناشطات النسويات في سبيل التغيير الاجتماعي المنشود. وذلك ليس فقط في أوساط النساء في المجتمعات المتخلفة بل أيضا في المجتمعات المتقدمة والتي أحرزت فيها المرأة انتصارات محددة مما يموه على ضرورة الاستمرار في مسيرة تحقيق التحرر النسوي.
كتبت جينيفر بومغاردنر وايمي ريتشارد في كتابهما مانيفيستا:
"الوعي بين النساء هو أساس التغيير. الوعي هو القابلية الوحيدة لفتح عقولهم على حقيقة أن السيطرة الذكورية تؤثر فعليا على النساء من جيلنا نحن. ان حضور النسوية في حياتنا تؤخذ كقرار واع وذلك لأن النسوية بالنسبة لجيلنا هي كمادة الفلور التي نادرا مانلاحظها ولكنها موجودة ببساطة بالماء".
ومن اللافت هو اعتماد النساء للقصص واعتبارها الطريقة المنتجة التي تنتهجها ناشطات الموجة الثالثة لرفع سوية الوعي، قصص وشهادات عن القمع والاضطهاد. " غالبا ما تكتسب النساء خبرتها حول الاضطهاد الجنساني من خلال النساء أو مجموعات النساء اللواتي يقدمن شهادات عن معاناتهن. ان قراءة الكتابة النسائية الواقعية سواء في الكتب أو المجلات تستطيع تزويد النساء بالوعي والإدراك المنشود . لكن النقطة الأهم في الكتابة النسوية الجديدة بأنها انطلقت من جهات العالم الأربع وعملت على تزويد العالم كله وليس النساء فقط بزاوية رؤية جديدة للمرأة والعالم.
من الكاتبات اللاتي اشتهرن بارتباطهن بالموجة الثالثة هي الكاتبة السوداء بل هوكس، والروائية الافرو- أمريكية توني موريسون التي أبدعت في اعادة تقاليد الحكاية السوداء والسرد السحري المشبع بالتراث الشفاهي الأفريقي. والروائية الجزائرية آسيا جبار التي تكتب الرواية والشعر بالفرنسية. والروائية البنغلاديشية تسليمة نسرين. والمنظرة والناقدة الأدبية البنغالية غاياتري شاكرافورتي سبيفاك وأهم ممثلات النسوية الماركسية – التفكيكية، والمصورة الفوتوغرافية اللبنانية جميلة حسن التي هزت الأوساط الثقافية في أمريكا الشمالية بمعرض بصري - سمعي من نوع خاص ومدهش. كما ظهرت في تركيا عدة روائيات بهرن القراء بتجربتهن والزاوية الجديدة التي رأين فيها العالم. وفي سورية ظهرت مجموعة من الكاتبات والروائيات مثل روزا ياسين حسن وسمر يزبك ومنهل السراج وغيرهن اللواتي تميزن بالرؤية النسوية النضرة وتعبيرهن عن صوت الأنثى الخاص المميز للموجة النسوية الثالثة.
المشروع النظري
يمكن اعتبار مصطلح "مابعد النسوية" تعبير عن المشروع النظري والجهود الفكرية التي رافقت وغذت وأطلقت الموجة النسوية الثالثة، تعرف سارة غامبل هذا المصطلح "بأنه نسق معرفي تعددي مكرس لابطال أنماط التفكير التي ترمي إلى العمومية". لذلك نلمس توازيا بينها وبين مصطلحات مابعد الحداثة في أحدث حلقة من حلقات التنوع في ملامح الفكر النسوي الذي يتسم بالتحول والتغير المستمر. ويعمل هذا التيار الفكري على دراسة العلاقات المثمرة مع مابعد الحداثة عن طريق الاستعانة بنظريات الاختلاف والهوية والتفكيك، بقصد الجمع بين مختلف طرق صياغة المرأة وتشكيلها.
ترى آن بروكس أن "مابعد النسوية تضع التعدد في محل الثنائية، والتنوع محل الاتفاق، ووهكذا تفسح المجال للحوار الفكري الذي يتسم بالحيوية والتغير ويصوغ القضايا والمناخ الفكري الذي تتميز به مرحلة الانتقال من الحداثة الى مابعد الحداثة في العالم المعاصر". وتضع بروكس المنظرات جوليا كريستيفا وهيلين سيكسو ولورا مالفي وجوديت بتلر في تيار مابعد النسوية، قائلة أنهن ساعدن في الحوار النسوي بتقديم المعين النظري الذي يتمحور حول التفكيك والاختلاف والهوية.
النسوية الثالثة وتغيير العالم
لم تعد النسوية ضرورية لاستكمال تحرر النساء فحسب بل من أجل تغيير العالم أيضا. ذلك ان النساء يشعرن بنوع من الربط بين وقوعهن كضحايا والتدمير التكنولوجي القاسي للبيئة، واستغلال الفقراء وقصف القرى في أراضي الشعوب المستضعفة. لذلك ربما تقود حساسيات النساء ضد تيارات العنف وقواه الى التفكير والتأمل في رؤية خاصة بهن عن تغيير وجه العالم، ومن أجل خلق عالم جديد.
من أولويات النسوية إعادة التفكير في ارتباط البشر بالطبيعة وبالتالي التشكيك في التعارض التقليدي بين الطبيعة والروح وهو أحد الافتراضات الأساسية للتفكير الغربي. تجادل روزماري روثير ان ثنائية التفكير والروح أو الحرية مقابل الطبيعة، العقل مقابل العاطفة، النفس مقابل الجسد قد قمعت النساء على مدى زمن طويل. لقد نظم الرجال هذه الثنائيات سلطويا وربطوا أنفسهم بالجوانب الايجابية من هذه الثنائيات بينما هبطوا بالنساء الى الجوانب السلبية من هذه الثنائيات – الطبيعة والعاطفة واللاعقل والجسد. علاوة على أن الكثير من الفلاسفة قد فهموا بصورة تقليدية هذه الثنائيات، على أنها تحمل التعارض بين طرفيها.
وما يمكن أن يدعم الرؤية النسوية هذه هو أن هناك في الوقت نفسه مجموعات فكرية وعلماء نفس وخاصة المناصرين لفروع معينه من التأمل النفسي في الشرق والمهتمون بالصحة الطبيعية يعارضون الثنائيات الكلاسيكية. لكن روثير تجادل بأن النساء لديهن دور حاسم ليلعبنه في هذا الانقلاب. اذ يمكن القول أن بحث النساء من أجل الكلية هو الذي يقضي على التعارضات بين الجسد والنفس، أو بين الطبيعة والروح، أو بين الحرية والعقلانية والعاطفة وإعادة تقييم مايسمى بالأطراف السلبية من الثنائيات وتحويل العقلية الهرمية الذكورية هو مايكمن ضمنيا في مسعى النساء.
ان خبرة الانثى في تحول بعض أجزاء جسدها الى طفل ربما كانت هي الخبرة الأكثر اكتمالا للتجسد الانساني للقوى الكونية. وعليه يمكن ان تكون رؤية المرأة لطاقة التحول الكونية من الحياة الى الموت ومن الموت الى الحياة تنعكس في فهمها المتميز لميوعة الحدود بين الأشياء النباتات والحيوانات والبشر.( هذه الخبرة يمكن من خلالها تطوير حلول للأزمات البيئية).
ينظر الابطال الذكور الغربيين الى الطبيعة بصورة عامة على أنها شيئ يمكن قهره أوعلى أنها مسألة يمكن تسخيرها لمصلحتهم، أما خبرة النساء في تضفير عمليات الموت والحياة وجدلهما معا في الحمل والولادة سوف يساعد في تبجيل الرابطة الإنسانية مع العمليات الطبيعية سيخلق جوا يمكن ان يحتفى به بالوظائف الطبيعية لأجساد النساء بدلا من تجاهلها او التعامل معها كمصادر للخزي والعار. أي ان انبثاق الرؤية الثاقبة لارتباط النساء بالطبيعة يطرح إمكانية تحقيق النساء القوة من خلال القبول بالأدوار البيولوجية الأنثوية.
أخيرا يمكن استخدام الفهم الجديد للقوة على أنها تنشأ عن الارتباط بين الجسد والطبيعة وعن مشاركتهما في التجذر في قوى الوجود التي تنبثق في الطبيعة والمجتمع، في مقاومة الثقافة البطرياركية التي تقول بأن القوة تأتي من التحكم والهيمنة والاستبداد على الطبيعة وعلى الناس الآخرين. وهنا تحديدا تكمن قوة العمل النسوي في تحررها الخاص كما في إعطاء مضامين جديدة للمفاهيم القديمة وخاصة الديمقراطية والعناية بالمختلف والشراكة في تشكيل سلمي لعالم جديد ومتعدد.