قضية من لا قضية له



محمود الباتع
2009 / 3 / 12

في كتابه " النظام العربي الجديد" يقول د. "سعد الدين إبراهيم" عالم الاجتماع المصري ومدير مركز "ابن خلدون" المحسوب ثقافياً وسياسياً لدى البعض على التيار التحديثي التغريبي في مصر والعالم العربي، حول ظاهرة الحجاب ومدى دلالاتها على تقدم المرأة وتخلفها يقول في ما يشبه الإقرار بالأمر الواقع "إذا كانت الحداثة تعني السفور والملابس العصرية وحرية الاختلاط الجنسي مع الجنس الآخر، فإن الحجاب هذه الحالة يمثل نكسة لقضية الحداثة. ولكن ومن ناحية أخرى إذا كانت الحداثة تعني اكتساب العلوم الحديثة والتكنولوجيا والإنسانيات وإذا كانت تعني أيضاً الالتزام، ففي هذه الحالة تعدّ المحجبات حديثات بكل معاني الكلمة".
بعيداً عن البعد الديني للمسألة، ففي سياق الفكر الغربي العام فإنه يبدو من المستغرب رغم أنه من المفهوم تماماً إلزام التخلف العربي والشرقي حصراً بمسألة الحجاب من عدمه إلى درجة أصبحت معها قطعة القماش تلك معياراً أصم للتحضر والبدائية، دون بذل جهد يذكر لاستكتشاف وفهم ما يحتوبه ذلك الشيء المسمى بالعقل وهو القابع خلفها بملليمترات قليلة. وليس الخوض في قضية الحجاب والسفور ومدى مشروعية أو عدم مشروعية أي منهما هو ما يعنينا هنا، وبالتأكيد لن يهمنا من قريب ولا من بعيد في هذا السياق أن نتناول ارتباط الزي النسائي والرجالي بالأعراف المحلية والوضع الاجتماعي بأي حال.
ضمن الذهنية الغربية التي يعتنقها ويسير على هديها لفيف غير قليل من مفكرينا، فإن الإيمان اللانهائي بتفوق العرق الأوروبي الغربي إنسانياً وحضارياً هو حجر الأساس في تقييم كل الآخرين والحكم عليهم، دون أن يعدموا سبباً ولا مبرراً لإصدار أحكام عمومية ملبسة بالأفكار المسبقة حول حيثيات وأسباب إدانة ووصم المجتمعات الأخرى التي من ضمنها وفي مقدمها المجتمعات العربية بالتخلف، حيث يحلو لهؤلاء بشدة ألا يروا من بلاد الشرق سوى نسائه المضطهدات والمتخذات كرموز جنسية متسربلة بأردية السواد مرغمات على القنوع بل والاحتفال بكبتهن الجنسي، رهينات التهميش والإقامة الجبرية خلف أسوار الأمية والبطالة ومخادع مؤسسة (الحريم) وتعدد الزوجات، والمجبرات قسراً وجوراً على تلقي صفعات الأباء والأشقاء والأزواج وأحيانا الأبناء وهن حامدات شاكرات قانعات من الدنيا بفضيلة ارتداء الحجاب، وكل ذلك ضمن بيئة مفترضة من الرفض البديهي والتلقائي المشمول بالعجز ومنتهى قلة الحيلة إزاء كل ذلك من قبل معشر النساء ومن حمل لواءهن.
إذا كانت الفرضية خاطئة فما يبنى عليها هو خاطيء أيضاً، وخطأ هذه النظرية لا يكمن في عدم صحتها، ولكن في افتقارها إلى شمولية الرؤية وسمو الغرض، ووقوعها السافر في مساقط السطحية الشديدة والضحالة الأشد. فالواقع أن الوضع المزري والمخجل للنساء في عموم بلاد العرب هو امتداد طبيعي وجزء لا يتجزأ من الأوضاع المزرية للمجتمع بكامل مكوناته من الرجال والنساء والأطفال وأيضاً الشيوخ والعجائز، وما حقوق المرأة المهدورة سوى استطراد لمسلسل الهدر الجائر لكافة حقوق الإنسان بذكوره وإناثه على امتداد الوطن الكبير، وليس التمييز الجنسي ضد الإناث سوى مشهد مكمل لصورة التمييز الاجتماعي والإنساني ضد سائر المستضعفين من كل الأجناس.
منذ بدء الخلق ولعلها سنة البشرية في الأرض، لم يعدم الطغيان والقمع والاضطهاد وسائر مظاهر الظلم الأخرى أن تجد لها ممراً آمناً وحصناً حصيناً بين أكداس الشرف والأخلاق والفضيلة، تحتمي بحماها وتلوذ بها وتستمد منها مشروعية وجودها، وقلما يشذ عن ذلك ظلم ما أو جور، فما من ظالم إلا ويقسم على أنه تجسيد للرحمة، وما من طاغية إلا ويعتبر نفسه رسول العناية الإلهية أو ما شابهها، وما من مستبد إلا ويظن واثقاُ من أن مجيئه تحقيق للرحمة ووجوده ضرورة للحياة وغيابه نهاية حتمية للوجود. ولا يحيد ظلم النساء عن ذلك الناموس البشري في شيء.
لطالما اتخذ الظلم ضد النساء طابع الفضيلة والأخلاق الحميدة وتغليب المصلحة العامة، لم يختلف في ذلك شرق ولا غرب منذ آلاف السنين، ولطالما كانت أجساد النساء ساحة وغى وميدان رماية لقذائف الشرف وسهام الفضيلة، فيها تنصب أكاليل الغار ومنها تجيء مساقط العار، ولم يستحوذ هذا الاعتقاد على فكر جنس دون آخر ولا على تجمع إنساني دون غيره ... وهكذا حتى تغلغلت هذه المفاهيم عبر مئات القرون في صميم الوعي الإنساني وترسخت في التركيب الوراثي للبشر إلى أن جاءت الثورة الصناعية الكبرى معتمدة عقيدة السوق والقيمة المادية كأساس للحياة، فصار ينظر إلى اليد العاملة النسائية كيد عاملة معطلة يمكن لها أن تكون فاعلة في إدارة العجلة الربحية للاقتصاد، وحينذاك بدأت تتعالى الصيحات بوجوب (تحرير المرأة) من قبضة العقد الاجتماعي الجائر من خلال تعليمها وتدريبها نحواً إلى استقلالها المادي والإنساني وحقها وحق الرجل في ممارسة الحرية الشخصية المطلقة، وذلك تمهيداً لانخراطهما سوية في عملية البناء الاقتصادي، وهذه دعوة لا يمكن اعتبارها إلا حقاً ولكن لا يمكن التغاضي عن أن كثيراً مما أريد بها لم يكن حقاً صرفاً، فقد أدت تلك الدعوة إلى الانفلات الاجتماعي وانهيار مؤسسة الأسرة وتلاشيها على مضمار التحرر المادي الذي ثبت أنه أكذوبة كبرى، وحصلت البشرية على امرأة ورجل فاقدين بالتساوي للكثير من السمات الإنسانية التي لم يكن ينبغي فقدانها.
الكرامة الإنسانية هي أصل الوجود البشري وأهم ملامحه وسماته، والكرامة قيمة لا جنس لها رغم ما يبدو من أنوثة الكلمة، وقد أصبحت الذبيح الأول في محراب الرأسمالية العالمية التي قدمتها قرباناً لصنم الثراء المادي الزائف الذي عجز دراويشه حتى عن سد رمقهم بفتاته عندما سقط. الكرامة الإنسانية هي الابنة الشرعية للإنسانية الحرة بشقيها الذكوري والأنثوي فالرجل الحر هو صنو المرأة الحرة ولا حرية لأحدهما دون الآخر، فالإنسان الحر هو الذي يرفض الذل والإهانة والعبودية والاستغلال، ودعوني أقول بدون أية تفاصيل أن امرأة مهانة في أسرة أو مجتمع أو مزرعة أو مصنع ما هي إلا نتاج طبيعي لرجولة مهدورة ذليلة وإنسانية شائهة، وأن المكانة المتدنية لأية امرأة كانت ليست سوى انعكاس تلقائي لرجولة أكثر تردياً، وأعني الرجولة بمعناها القيمي والأخلاقي المنطوي على الشهامة والكرم والشجاعة والنخوة وليس بمعناها الجنسي الضيق، فكلنا يدرك أن ليس كل ذكر هو بالضرورة رجل، تماما كما ندرك أن ثمة بين النساء من هن أكثر رجولة من كثير من الذكور !
نعم تحرير المرأة هو قضية عادلة لا يجب أخذها بمعزل عن قضية تحرير الرجل، وليست هذه ذكورية ولا دفاعاً عنها، كما أنها ليست نسوية ولا تملقاً لها، فكما المرأة الحرة هي رديف للرجل الحر، فإن رجلاً حراً هو بالضرورة صنيعة امرأة حرة أنجبته وربته وقفت إلى جانبه ووضعت يدها في يده وسارا معاً في ثقة وتصميم لبناء أسرة حرة ومجتمع حر وعالم ينضح بالحرية.
ليس بالتعليم ولا بالوظيفة وحدها ترتقي المرأة وليس بالسفور تتمدن ولا بالحجاب تتحصن، وليس هذه هي القضية على الإطلاق، فما لم يكن الرجل رجلاً ولم تكن المرأة حرة الإرادة واثقة العزيمة مالكة لزمام أمرها حقاً فليس لها أن تحلم مجرد حلم في أن ترتقي إلى مستوى السيدة خديجة بنت خويلد مثلاً، التي كانت وهي في مجتمع الجاهلية وقبل أن تصبح أماً للمؤمنين، امرأة محترمة يشار إليها بالبنان وسيدة حرة وتاجرة مستقلة، أنثى سديدة الرأي نافذة الشخصية زوجت نفسها بنفسها ممن اختارته وهو الموظف لديها والأصغر منها سناً، وذلك بملء إرادتها الحرة دون أن تقع حبيسة المنزل أو أسيرة القيل والقال، وبدون حركة نسوية تدعمها ولا هيئة حقوقية تدافع عن موقفها ولا صحافة تتبنى قضيتها، لأنها وباختصار لم تكن تتبنى في ذلك أية قضية تذكر. وهذه رسالة إلى من يهمه الأمر بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، المرأة التي أصبحت في زمن الضحالة والإسفاف قضية من لا قضية له.