علاقة المرآة بالمجتمع تستمد من علاقة الفرد بالسلطة



مهند صلاحات
2004 / 4 / 2

لا أدري حقّاً من أين ابتدئ، غير أنّـي سأتركُ الأمرَ لمن يعنيهم الأمر, فهذه ليست المرة الأولى وليست حادثة عابرة نتلقفها كصاعقة من السماء سقطت فجأة على بيوتنا فأحرقتنا, لكنها معركة طويلة بدأت منذ ان طهر الإسلام السياسي بفصائله ومذاهبه وقواه الرجعية وبدأت تقاتل الجميع للحصول على مبغاها للوصول الى نظام الجواري والمحظيات، فيجدوا ظلال الريحان و مساء الوعود والغلمان المخلدون ـ و بعضاً من حكاية شهرزاد وشهريار قديمة عن الثأر لأيامٍ من التأريخ..
يريدون ان يعيدونا لنعيش بتاريخهم وإسقاط كل معنى للحرية والتقدم والحضارة, فالحضارة والإسلام السياسي نقيضان لا يلتقيان أبدا
تلك العصابات الإجرامية بكل ما تحمله من سموم وتخلف تقوم بأكبر عملية إفراغ للعقل العربي من فكره, حتى لا يفكر أبدا بالثورة والحضارة, وكي يبقى محاصرا داخل قيمه المستعارة وتراثه المجنون من أيام محمد ونظام الرق والعبودية وعصر الجواري والمحظيات.
هذه العصابات التي تعتاش على فتات ما تجنيه الدول الكبرى من وراء انجرارها وراء الدول الاستعمارية لتحقيق رغباتها, فمرة يسيرون بركب بريطانيا الدولة المؤسسة التي علمتهم وأوصلتهم للارتماء بأحضان الملوك كما فعل الهضيبي والبنا أيام الملك فاروق وما تبعه من ارتمائهم بحضن النظام الهاشمي حتى يبرزون باسم المعارضة السلمية للأنظمة,
واليوم يتساقطون بحضن الأم أمريكا للمضي سريعا في مشروعها القاضي بأن تقيم نظام الإسلام السياسي بديلا عن الأنظمة العربية القائمة, للوصول لطالبان الجديدة.
لقد كلفت حكومة طالبان المرآة الأفغانية كل ما تملكه من مقومات حياتها, من حرية فكر وتعليم ومظهر,
فقدت المرآة الأفغانية كل مقوماتها كأنسانة حتى غدت بنظرهم مجرد محظية من محظيات أمير المجرمين,
واليوم يعيدون الكرة في العراق ويسرقون من المرآة تاريخها وحريتها وحقها في ان تكون انسانة أولا, وأنثى ثانيا.
هم يقيمون أمسية دينية على جماجم الفكر والحرية والنساء من أجل صلاة لسياسة وراس مال أقيمت منذ ألفِ سنةٍ عند المدخل الغربي لجرحنا ولا تزال مستمرة بسيوفها الدينية على رقابنا, رجالها يدخلون بيوت الحرية ويغتصبون النساء فيها بأسم الشرف الرفيع, والدعارة الحلال, وتعدد الزوجات ليصبحن قطيعا من المواشي في بيوت أمراء الأجرام السياسي, ويسوقون حرية الأنثى الانسانة سبية من سبايا حربهم, يتناقلونها على أسرتهم, ويتبادلون اغتصابها ! و ستفتحُ هذا الأمسيّةُ أبوابها للريح، و النار.. و الرماد ! للجميع الحق ( بل عليهم الحق ) أن يدخلوا بما شاؤا سبايا ومحظيات... غير أنّا جميعا شركاء في هذه الجريمة الحجرية، جريمة تحرمنا من ان نرى الأم المدرسة التي ستعطينا طليعة فكرنا وجيل مستقبلنا القادم, فهمهم الأول غدا إعطائنا طليعةُ الليل الحالك المشوه بفكر الإسلاميين وبعد الانتهاء من أجساد إناثنا ينتقلون و غداً يترجلون لآخرين غيرنا وربما يتطورون للوصول للغلمان المخلدون الموعودون بهم في جنه الرب فيطلبون ان يكمم أطفالنا الذكور أيضا بحجاب فليس غريبا على هذه العصابات شيء.. تلك نفسها التي انهالت في الجزائر ومصر بتحليل دم المفكرين والأدباء وأحلت دم أطفالهم ونسائهم.
ولكن قبل الخوض في مسألة المرآة العراقية وما تعانيه من حملة مجنونة ومسعورة من قبل عصابات الأجرام, هل جربنا ان نسأل أنفسنا عن بقية النساء في كل المجتمعات العربية ؟
آما آن لنا أن نسأل عن دور المرآة العربية في مجتمعاتها، وأعتقد بأن المراجعة والمساءلة والنقد البناء، ضرورة ملزمة للوصول إلى الأهداف المرجوة، في أي شأن من شؤون الحياة، فكيف إذا كان في قضية تساوي وجودنا؟ لماذا انتظرنا كل هذا الوقت لنسأل، عن المرآة في العراق وفي وطننا العربي؟ أين هي؟ ما هو موقعها الفعلي؟ ماذا حققت خلال العقود الماضية من هذا القرن؟ هل كان لها دور في أخذ القرار، أو صنع القرار؟ هل حققت ذاتها كانسان كامل، له ملء الحرية في خياراته وتطلعاته؟ ما هي الأسباب التي أبقتها دائماً في المؤخرة، إن لم نقل مغيبة؟ هل هي مسئولة عن ذلك؟ هل الرجل هو المسئول، أم أن الأسباب تتخطى الاثنين معاً؟أم أننا كالعادة سنحمل الاستعمار المسؤولية ؟ ان الأنظمة الخارفة القابعة على أجسادنا ؟ أم الأيدي العابثة دوما في تلك المسألة ؟ أم العادات والتقاليد المتخلفة التي ورثناها؟
ان فكرة تحرر المرآة من أيدي تلك العصابات في عصرنا الحديث ليس بجديد, ولكنه بدأ من بدايات هذا القرن على أيدي رجال ونساء حملوا على عاتقهم الوصول لمجتمع حضاري متعلم مثقف مفكر.
وعند العودة للجذور التاريخية للحركة النهضوية التي بدأت مع بدايات هذا القرن المنصرم، إلى بدء اليقظة العربية عامة، في نهاية القرن التاسع عشر، استناداً إلى أبحاث الدكتورة نوال السعداوي: بدأت اليقظة الفكرية العربية على يد جمال الدين الأفغاني وتلاميذه، وأحمد فارس الشدياق الذي أصدر سنة 1855 كتابه" الساق على الساق"، ويعتبر من أوائل الكتب العربية، التي نادت بتحرير المرآة، ثم ظهر رفاعة الطهطاوي، الذي نادى بتعليم المرآة وتحريرها من الظلم وأصدر كتابه" المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين" سنة 1872، ومن هؤلاء الرواد أيضاً عبد الله نديم، والشيخ محمد عبده، وقد كتب ناقداً وضع المرآة الأدنى، وهاجم تعدد الزوجات، والطلاق، كحق مطلق للرجل، وطالب بالقضاء على نظام الجواري والمحظيات، ونادى بمساواة المرآة بالرجل.
ومن أهم الكتب العربية التي تناولت قضية المرآة، هو كتاب " تحرير المرآة" سنة 1900 لقاسم أمين، ثم كتابه الثاني " المرآة الجديدة" سنة 1911م. وقد شاركت المرآة العربية بقلمها منذ بداية المعركة بتحرير المرآة، ومن هؤلاء النساء، عائشة التيمورية، وجاءت بعدها زينب فواز، وملك حفني ناصف، وكانت معاصرة لقاسم أمين. ومن الكاتبات الرائدات، مي زيادة التي استطاعت رغم تخلف نظرة المجتمع للمرآة أن تنشىء صالونها الأدبي في القاهرة سنة1915، وكانت في العشرين من عمرها، وقد انتهت مي زيادة بمأساة تصور القسوة والوحدة والمشاكل التي تتعرض لها المرآة الذكية الفنانة، في مجتمع رجولي شرقي مازال يتمسك بتراثه التخلفي، وقد تعرضت مي زيادة لأزمة عاطفية حين أحبت أحد الكتاب المصريين، عباس العقاد، وقد فشلت قصة حبها، بسبب نظرته المتخلفة للمرآة.
ولم يكن مصير مي زيادة المؤلم يختلف كثيراً عن مصير أي امرأة رائدة حاولت أن تغير نظرة المجتمع الرجولي المتخلف للمرآة، ولم يختلف مصيرها كثيراً عن النساء الذكيات، اللواتي اتهمن في العصور الوسطى، بالجنون أو الفسق أو السحر، بل لم يختلف مصيرها عن مصير كثير من النساء الذكيات في عصرنا الحديث اللواتي لا يجنين من وراء ذكائهن إلا الوحدة القاتلة، أو الاتهام بالهستيريا، أو الشذوذ على أنواعه.
ان هذا الجنون الهستيري الذي سيطر على مجتمعاتنا ونمى بها هذه النظرة المتخلفة تجاه المرآة النابع من عادات وتقاليد متوارثة من الأجيال السابقة التي تربت على هذه المسألة تربية استمدت معظم أسسها من المذاهب الإسلامية التي أوصلت شعوب المنطقة الى منعطف دموي لا نزال نرى أثاره حتى هذه اللحظة في صراع شيعي سني وما بداخله من تراكيب طائفية مذهبية.
بعدها يأتي دور الأنظمة الرجعية التي كانت نتيجة انقلابات رجعية زكتها الإمبريالية الرأسمالية وأجلستها على أجسادنا.
من منظور في علم الاجتماع للقياس لما يحدث بداخل مجتمعاتنا لا بد ان نقارن بين هذين العنصرين وقياسه مدى تأثير علاقة النظام القائم على علاقة الأب في الابن في داخل الأسرة الواحدة.
سيطرة الأب في العائلة والاسسس التي تحكم علاقته بأبنه وبنته تقترن مباشرة بعلاقة الفرد بالحكومة وأجهزتها ومؤسساتها المدنية، فالأب هو المحور الذي تنتظم حوله العائلة بشكليها الطبيعي والوطني، إذ أن العلاقة بين الأب وأبنائه، وبين الحاكم والمحكوم، علاقة هرمية، فإرادة الأب، في كل من الإطارين، هي الإرادة المطلقة، ويتم التعبير عنها في العائلة والمجتمع بنوع من الإجماع القسري، الصامت المبني على الطاعة والقمع والتفرقة بين الجنسيين كما تقوم الأنظمة بالتفريق بين أبناء الحزب الحاكم وبقية أفراد المجتمع، ونجد أن جميع الأنظمة في عالمنا العربي هي أنظمة بطر كية ترتكز على ازدواجية الدولة، بمعنى أن هناك تنظيماً عسكرياً إلى جانب تنظيم بوليسي سري، يهيمن على الحياة اليومية، ويشكل أداة الضبط النهائية، في الحياة المدنية والسياسية.
ومن هنا يمكننا ان نعلم ما هو السبب الذي أوصلنا لهزائمنا كلها في ظل هذه المجتمعة ذات التركيبة الرجولية الشرقية التي ينخر بداخلها أتباع الإسلام السياسي ورجال الدين بتشجيع من الأنظمة الرجعية.
لماذا خسرنا نحن أبناء هذا الجيل، كل معركة خضناها: مع العدو في فلسطين، مع التخلف في أنظمتنا، مع الرجعية في المجتمع؟
سيستغرب البعض هذا الربط بين القضيتين المرآة والهزيمة, فأنا أقول من منطلق واضح ان القضايا الأساسية هي دوما مترابطة بطريقة لا يمكن الفصل بها, من الطبيعي ان نظام قام على الديكتاتورية من بداية النشأة فيه بدأ من الأسرة الواحدة وطريقة نظام التعامل فيها على أساس تفرقة واضحة بين الأطفال من إناث وذكور واستمرار سريان وأد الأنثى لكن بطريقة مختلفة عما كانت تقوم به قريش مرورا بعلاقة المجتمع ونظرته للأنثى ومنعها من اتخاذ القرار والمشاركة فيه.
كل هذه الأسباب الاجتماعية أفرزت مجتمعا هابطا مفككا طائفيا عاجز حتى عن إيقاظ ذاته وفهمها فكيف يمكنه ان ينتصر والدفاع عن حقوقه الوطنية إذا كان فاشلا في إنجاز حقوقه الأولية ؟
السبب هو المرض الفتاك، الذي ينخر في صميم بنية مجتمعنا، المرض الذي يفتك بكل بلد من بلداننا العربية ومجتمعاتها، وتظهر عوارضه في أطراف الجسم العربي كله، على صعيد الدولة، وعلى صعيد المجتمع، وعلى صعيد العائلة، وعلى صعيد الفرد.

تتخذ أعراض هذا المرض، على مستوى الدولة، شكل السلطة " الحديثة" ( سواء في الأنظمة المحافظة، أو شبه القبلية، أو التقدمية)، ونرى هذه الأعراض، على الصعيد المجتمعي، في التركيب الاجتماعي الرجولي الشرقي، والعلاقات المهيمنة فيه، مثلاً في تغلب الانتماءات الجزئية، والمحلية، كالطائفية، والقبلية، في الممارسات الاجتماعية، في هيمنة السلطة الأبوية في العلاقات الذاتية وتضاربها مع الأهداف والمصالح العامة. وتظهر هذه الأعراض بشكل مباشر على مستوى العائلة في أساليب التنشئة الاجتماعية، حيث تتكون الشخصية(الانهزامية التي تبنى أساسها حتى أساس الجنس) وتكتمل عملية القيم، والعلاقات الاجتماعية، التي يحتاج إليها هذا المجتمع، ونظام السلطة فيه للبقاء والاستمرار.
من هنا يمكننا ان نسأل أسئلة يستدعى النظر فيها بجدية
ما الذي أنتجته الحركات النهضوية التي قامت ونادت بحرية للمرآة بشكل حقيقي واقعي ؟
كيف تعاملت مجتمعاتنا مع هذه الحركات, والاهم كيف تعامل مثقفونا معها ؟
ما دوافع ظهورها وكيف انتهت ؟ وهل فعلا اليوم يعاد إحيائها من جديد؟
لماذا دوما ننتظر ان تقع الواقعة الكبرى حتى ننتفض بوجه هذا الجنون والتخلف ؟
ما شكل التركيبة السلطوية التي يمكن ان تكون السبب في انهيار مثل هذه الحركات النهضوية ؟
من ناحية الإنتاج الواقعي الذي أنتجته الحركات النهضوية بروادها, هي حقيقة لم تنتج شيئا حقيقيا ولكنه إنتاج بقي سطحيا نال إعجاب البعض والبعض حاربه, لكن حتى المعجبين بقوا عاجزين على تطبيقه على واقعهم لأنه يتعارض مع تركيبتهم الاجتماعية المبنية على أساس النظام الرجولي.
دوافع ظهورها وهي بالأصل ليست بحديثة لكنها كانت مثل التيار الكهربائي المتصاعد تضعف مرات وتقوى مرة لكن ظهور الثورة الصناعية في أوروبا التي غيرت من التركيبة الاجتماعية الأوروبية والحركات الفكرية الحديثة كالحركات التي بدأت تحمل منهاج الماركسية كطريقة للتحرر والانفتاح بالإضافة الى انتشار الصحف والكتب والتي بعد دخول المطابع صار بالامكان ان تكون في متناول أيدي العامة ولم تبقى حكرا على البعض, وغيرها من عوامل مشابهة أدت الى ازدياد الوعي وتنمية التفكير للعقل العربي.
لكن هنا يبقى الأثر الأوضح في هذه التركيبة وهو السلطة القائمة وتأثيرها على التحرر ومدى تفاعلها معه.
إن السلطة في المجتمعات العربية هي ( السلطة المادية، الروحية والنفسية) والأصل في السلطة ان تكون بمثابة الأوكسجين الذي تعيش به المجتمعات والذي يجب ان يكون ضرورة لتنظيمها وتوجيهها لكي تعيش، وتتمكن من الاستمرار، وتستمد هذه السلطة شرعيتها من قدرتها الفائقة على تأمين استمرار القيم، والعلاقات التي تقوم عليها، غير أن النظام في المجتمع العربي اختلف تماما عن المطلوب وخرج عن نطاق مهمته الأساسية، أيضا عانت من نقطة محورية خطيرة بقيت عاجزة عن إصلاحها ألا وهي المرآة، ركيزة النظام الأبوي، بل وان هذه الأنظمة هي السبب في بقاء تلك التركيبة الاجتماعية على هذا الأساس لتكون مظهر من مظاهر هذا النظام, فما دامت المرآة خانعة قابلة بوضعها وغير قادرة على تغييره، وعلى قول " لا " فان سلطة النظام، وشرعيته، تظلان دائمتين ومستمرتين. فهذا النظام لم يعد يهاب الثورات، أو الانقلابات، ذلك أن آلات القمع والهيمنة التي يمتلكها قادرة أن تحميه من كل خطر داخلي، حتى لو تغير نظام الحكم بطريقة ما، فان النظام، ويبقى وتبقى بنيته الاجتماعية كما هي. وهذا النظام ليس السلطة الحاكمة المتمثلة بمجلس الوزراء والرئيس أو الملك وغيرها ولكن توجه هذا النظام الذي يسيطر فيه بالغالبية العظمى الإسلام السياسي والحركات الدينية ومثل هذه المجتمعات التي أقامها الإسلام السياسي والأنظمة الرجعية يدرك في أعماقه أن الفاعل الثوري الحقيقي في المجتمع لم يعد المتآمر، ولا مدبر الانقلابات، بل المرآة، القنبلة الموقوتة في صميمه، ففي اللحظة التي يتغير فيها وعي المرآة، وتصبح قادرة على الرفض والمقاومة، تتزعزع أسس النظام، وتتخلخل شرعية سلطته، وتتفكك بنيته, وتستطيع ان تقلب جميع ما بناه أبناء الإسلام السياسي والحركات الدينية.

إذا القاعدة الأساسية، تحرير المرآة، شرط لتحرير المجتمع، بوصفه كلام، ودون هذا التحرير لن تجدي الانقلابات، ولن تؤدي " الثورات" إلا إلى أشكال أخرى من السلطة الدينية أولا والسلطة الديكتاتورية ثانية وهما مترابطان الى حد كبير جدا لا يمكن الفصل بينهما، ولكن لا يمكن تحرير المرآة من خلال العمل النسائي، والجمعيات النسائية وحدها، فقضية المرآة قضية عالمية في صميمها ووطنية بنفس الوقت، ولكي تحتل مكانها الصحيح، يجب أن تصبح بالفعل، قضية " رجالية"، وهنا تكمن الصعوبة الكبرى: فالرجل الشرقي بطبيعة تنشئته وتكوينه النفسي، لا يستطيع تقبل أطروحة التكافؤ مع المرآة، وحتى لو اقتنع بذلك ذهنياً، على صعيد العقل والمصلحة الوطنية، فمن الصعب عليه أن يترجم تلك القناعة إلى حيز الممارسة والعمل.

من هنا كانت الضرورة الملحة للقيام بعملية نقد ذاتي على أوسع نطاق، لا في ضوء المفهومات أو النصوص التراثية ( التي تمنح المرآة بعض الحقوق) وحدها، بل أيضاً في ضوء الوقائع الوجودية التي تميز تنشئة الذكر في المجتمع العربي، وتجعله كائناً متفوقاً على الأنثى، منذ اللحظة التي يعي فيها ذاته، ومن هنا كذلك إعادة النظر في التنظيم العملي للنشاط النسائي، لإيجاد الصيغ المناسبة لانخراط المرآة في حركة التحرير، فطالما بقيت الجمعيات " النسائية" وحدها تحمل عبئ قضية المرآة، لا يمكن لهذه القضية أن تجد حلاً حتى لو ساندتها الأحزاب والتنظيمات الرجالية من الخارج.
من هنا لا بد من الخروج ببرنامج حقيقي وواعي يستمد أصوله على أساس الحرية الإنسانية أولا وأخيرا
إقامة دولة علمانية، ذات دستور علماني، يعلن فصل الدين عن كافة مؤسسات الدولة، و التربية والتعليم، وان لا يصبح شأنا من شؤون المجتمع، بل شأنا من شؤون الفرد. ان فصل الدين عن المجتمع، هو الضمانة الأولى لإنهاء أي دور للتشريعات التمييزية المناهضة للمرآة التي تريد فرضها الحركات الإسلامية
إقرار قانون المساواة بين المرآة و الرجل في الدساتير العربية كافة وإلغاء الدساتير المتخلفة السابقة أو إعادة صياغتها من جديد، وإنهاء كل أشكال التمييز الجنسي ضد النساء.
تدخل القوى السياسية العالمية والمحلية والبدء في داخل المجتمعات العربية، من اجل تحقيق مجتمع متمدن قائم على حق المواطنة المتساوية للجميع
لكي يتحرر المجتمع، ويجب أن تكون المرآة حرة فيه، لا يمكن المجتمع أن يصبح حراً ( وليس فعلاً مستقلاً) إذا كان نصفه مستبعداً أو مشلولاً.
إذا المرآة هي عامل التغيير، أنها القنبلة الموقوتة، والتي إذا انفجرت ستطيح بهذا المجتمع المتخلف المبني على أساس رغبات وأفكار الأنظمة الرجعية والحركات السلامية وطوائفها، الذي أورثنا كل الهزائم ومنعنا من الحياة الكريمة الفاضلة، فكيف لها أن " تنفجر"؟
تغيير موروثاتنا المتخلفة التي بنيت على اساس حق القوامة ومنع المرآة من العمل واعتبار المرآة اساس انتشار الرذيلة في المجتمعات إذا سمح لها بالتحرر من قيودها والتخلص من كل موروثاتنا أن المرآة تخضع للرجل
وخدمتها له تكون مثالية، هي التابع، المنفذ حرفياً لكل رغباته وطموحاته، لا تناقش آراءه، مطيعة هنية، لا تجادل وتحسم القضايا لصالح رأي الرجل فقط، لأنه يقول أنا الرجل وعليك الطاعة.
على بساطة هذه الحلول وعفويتها إلا أنها ما زالت تعاني من معضلات عظمى لا يمكن حلها بشكل فردي أو جماعي جزئي بالرغم مما ندعيه من بلوغ الحداثة والعلم، فما زالت أمراضنا النفسية متحكمة فينا كما الموروثات والعادات والتقاليد والأفكار الرجولية مترسخة فينا حدا لا يمكن تصوره، وهي جلية واضحة دون مكابرة، الذهنية التسلطية قبلتها المرآة لأنها تربت عليها وهي عقد نفسية.
المرآة بطبعها وتكوينها أداة حب وعطاء، فهي دائماً تعيش للآخر وبالآخر، الحب عندها سبب وجودها، هي معطاءة بتكوينها، تهب دون حساب في سبيل من تحب فهي أم قبل كل شيء والعاطفة تغلب في اغلب الأحيان على حكمها. لكن هل هذه الطبيعة المعطاءة تفرض عليها التخلي عن إرادتها ومشاعرها وحريتها الفكرية؟
ان هذه السمات الرائعة في المرآة انقلبت عليها من نعمة الى نقمة, فبدلا من ان تجد من يحترم هذه السمات التي تبدو فوق الرائعة, وجدت في مجتمع يستغل مثل هذه الصفات ويستغلها وأوقعها ضحية لأفراد يحملون فكرا ما زال يؤمن بنظام الرق والجواري والمحظيات.
أليس حرياً بها إبداء الرأي مباشرة ودون مواربة واحتيال، أي من إنسان إلى إنسان متساويين في الحياة، وتكون الغلبة للعقل في الحوار والمداولات، وكل ما يتعلق بمصلحة العائلة والوطن؟
ما معنى إن لم يكن لنا رأي وحرية في إبدائه والدفاع عنه، وأين المرآة عامةً في الحياة؟ هي كثيراً ما تعتقد أنها تحيا بسبب الموروث المتحكم بها كما الرجل.
عبر التجربة التي خضناها ونخوضها مع المرآة في حياتنا الاجتماعية، وجب علينا الحكم أن الخطأ لا يقع على الرجل وحده لما آلت إليه حال المرآة، بل عليها أيضاً، فهي اقتنعت أن التسلط والقمع وازدراء الآخر وتسفيهه في آرائه والنظر إليه بوجه كالح متجهم يوصلها إلى السلطة. فهم هذه العينة من الناس رجالاً ونساءً يعتبرون السلطة تسلطاً كما هو حاصل في مجتمعاتنا, كذلك إيمان المرآة المطلق بالأفكار المتخلفة التي يبثها رجال الإسلام السياسي ورجال الأنظمة والمدافعين عن تراث الإباء, ورضوخها للذين ينشرون الأفكار السالفة عبر الفضائيات التي تدخل كل بيت في مجتمعاتنا والتي نراها جلية في ما نراه من برامج يقوم عليها مؤسسات تتحكم بالقرار السياسي في دولنا مثل فضائية اقرأ والبرامج التي تبثها لعمر خالد والقرضاوي يحملنا جميعا المسؤولية ولا يعفي احد.
أيضا التركيبة الاجتماعية التي غدت سمة المجتمع الواضحة والأساسية فيه
هذا التماثل بالرجل القمعي الأبوي خطأ فادح عاينته في نساء يعملن في الحقل العام أو وصلن إلى مراكز حكومية، بشاعتهن لا توصف، فقد تخلين عن كل ما يميز المرآة من قيمها الحلوة وأنوثتها ورحمتها وحنوها وجمال العطاء غير المشروط ومحاورة الآخر بحب.
إن العمل في المجتمع بالنسبة لنا يجب أن يكون كالعمل داخل المنزل والأسرة، دون كلل، لأنه واجب ضروري للتقدم وارقي في كل طبقات المجتمع المختلفة بيئياً وحضاريا وثقافياً
الإنسان الحضاري العلماني هو الوحيد القادر أن يحافظ على قيمه ومثله العليا وأصالته وحريته الفكرية، لا أن يتماثل بالرجل المتسلط القامع المهدم للآخرين، السالب حقوقهم في التعبير والعمل، فقط لأنه مسئول. وهل المسؤولية بدل أن نقول السلطة تعني التسلط؟ أوليس هذا التصرف من صلب الأمراض النفسية والانحطاط الفكري والثقافي؟
إلى اليوم لم يصل إلى موقع القرار من نساء سوى من كانت ابنة متنفذ أو زوجته أو أخته، أي أن هناك دائماً رجل يوصلها، لا هي بقدرتها الذاتية القادرة على التغيير. يقول نابليون " وراء كل رجل عظيم امرأة"، وعندنا انعكست الآية، ومن خلال مسؤوليتها العامة تفعل ما يرضيه لكي تستمر في موقعها، أي مصلحتها الذاتية لا مصلحة المجموع.
على المرآة أولاً أن تؤمن بأنها إنسان كامل الحقوق مستقل في رأيه قادر على التأثير الايجابي في مجتمعه، دون التماثل بالرجل السلطوي الأبوي القامع، أن تكون امرأة بكل جمالاتها وقيمها الذاتية التي وهبتها إياها الطبيعة، كالمحبة والتفاني والعطف والايجابية والتفهم.
لا يجوز أن يتدخل أحداً في حياة الآخر كائناً من كان أباً أو أماً أو أخاً أو من الأقارب. الحياة ملك صاحبها وهو يحياها كما يشاء وكما يرى سعادته فيها.
ولنسأل أنفسنا بصدق هل تخلصنا من رواسب العادات والتقاليد الضارة بوحدتنا وتقدمنا؟ هل نزعنا عنا الأمراض النفسية التي تكبلنا وتحرمنا من العيش بحرية وصدق ووضوح مع أنفسنا ومع الآخرين؟ هل تخلينا عن أنانيتنا الذاتية ومصالحنا الضيقة للعمل لمصلحة المجموع، وبناء المجتمعات الراقية ؟ لنسأل جميعنا هذه الأسئلة ولنرى أين وصلنا.
التغيير قادم بلا ريب ومع المرآة الجديدة، فلنستمع حسب ما قالت الكاتبة الأمريكية كاترين ماكنون إلى" صوت المرآة الذي إن قال سيقول ما لم يسمع مثله من قبل".
المهم أن يسمع كل منا رأي الآخر، أن نفكر ونستمع إلى العقل وما يقوله العقل، وأن نكون مستعدين لتقبل نظرة جديدة.
ان نبحث عن الحلول الحقيقية وان نعيد النظر مرة أخرى بما دسه إلينا الإسلام السياسي من أفكار مسمومة لم تخدم سوى رجاله لزيادة فرصته بجواري جديدة, ولم تخدم إلا الأنظمة القائمة
نحن بحاجة إلى قبول الآخر، ورؤية الأشياء من موقع آخر، المهم أن نكتشف ما يجمع بين وجهتي نظر مختلفتين، لا أن نركز على اختلافهما، فننهي الحوار ونعلن استحالة الحوار.
في حالة العراق الحاضرة نحن بحاجة إلى كل العقول وكل السواعد لاستعادة كل الحقوق التي حرمنا منها النظام السابق, والتخلص من الاحتلال الذي يشد على أيدي رجال العصابات الدينية والطوائف الرجعية التي تبيح كل شكل من أشكال اضطهاد المرآة باسم الدين
ولا ننسى أنهم من شرعوا تعدد الزوجات أولا واحلوا زواج المتعة
المرآة إنسان قبل كل شيء وقبل كل اعتبار والمساواة التي تحققها العلمانية لنا هي الحل الأمثل لكل مشاكلنا حتى نصل لمرحلة إخراج جيل قادر على هزيمة الهزيمة.


مهند عدنان صلاحات
كاتب وناقد سياسي
طلوزة / نابلس
فلسطين المحتلة