المرأة الفلسطينية المتوحشة



ابراهيم علاء الدين
2009 / 3 / 21

أحن الى خبز أمي
وقهوة أمي
ولمسة أمي
واعشق عمري
لأني اخجل اذا مت يوما
من دمع أمي
بهذه الكلمات الانسانية الرائعة وبهذا العمق العاطفي المتمادي حتى حدود العشق، وبهذه الابعاد التي رسمتها مشاهد ثلاثة تختصر كل مسافات العمر، وبهذا الحنان اللا متناهي يخجل شاعرنا العظيم محمود درويش من موته، ويعشق عمره لانه لا يود ان تسيل دمعة من عين أمه.
ثمانية عشر كلمة نظمها درويش وباداء فيه كل مشاعر الطفولة كانه ينام على صدر أمه، وموسيقى رائعة غناها مرسيل خليفة اختصرت اسمى معاني الحب بين الابن وأمه، فما بالنا بحب الأم لابنها ..؟؟؟
عميقة هي المشاعر لكل الامهات في يوم عيدها، لا اعرف كيف اهديها، وبأي وسيلة اناجيها، وعلى أي اكف احمل لها باقات الورد، وباي كلمات اقول لها .. والله انني اعشق عمري لاني اخجل اذا مت يوما من دمع أمي.
هي الأم ترسم برموش عينيها رحلة الحياة لابنائها لتعمر الارض ، وتزهر الحياة .. فعبدتها بعض الاقوام القديمة وجعلوها الها هو مصدر العطاء ومصدر البقاء ومصدر النماء ومصدر المشاعر ومصدر العطف والحب والحنان، وباعثا لكل المشاعر الانسانية النبيلة. وما زالت حتى اليوم الها يغمرنا بكل الوان الحنان، فلماذا جعلتوها متوحشة .. تزغرد بدل البكاء على نعش ابنها ..؟؟؟
من اين جاءت هذه الثقافة المتوحشة التي نزعت عاطفة الامومة من الأم الفلسطينية، وحولتها الى وحش كاسر لا يأبه بموت ابنائه، مثلها مثل تلك الوحوش التي تاكل ابنائها. ومن اين جاءت هذه الثقافة التي جعلت الام العراقية تفجر نفسها لتقتل الابرياء في الاسواق والطرقات باسم الله وباسم الرسول ..؟؟
قرأت صغيرا في الادب المارسكي انه كلما تعمق الانسان في الثقافة الشيوعية كلما اصبح قلبه اكثر رقة، وتوقدت عاطفته حتى ليبكيه مشهد قطة اصيبت قدمها بكسر، او كلب اصيب بجرح، فما بالنا بانسان يمسه أي نوع من السوء ان كان جسديا او نفسيا .. وكيف بانسان مريض او جائع او مضطهد او مستغل..؟؟
وقرأت في الادب البرجوازي كيف ان العاطفة الانسانية من اهم مقومات الحياة، وانه بدونها يتحول الانسان الى وحش مفترس، وان العلاقات الانسانية قامت اصلا على الحب والتسامح والتعاطف من اجل مواجهة الاخطار المشتركة والحفاظ على امن وسلامة المجتمع وتوفير الخيرات ومقومات الحياة. وكانت المرأة على الدوام ملهمة للحب والعشق والعواطف لابنائها بحكم الغريزة والانانية والاستحواذ، وكانت على الدوام تسعى لنشر الخير والسلام والمحبة في سياق الدفاع عن ابنائها لان الحروب ما يرافقها من موت وقتل ياخذهم منها.
كما قرات في الثقافة الدينية لجميع الاديان ان ايذاء الانسان حتى لنفسه وليس لغيرة عمل مكروه، وان قتل النفس "التي حرم الله" من الكبائر وعظائم الفواحش، وان من يقتل النفس الا بالحق توجب قتله ومصيره جهنم وبئس المصير.
ومع ذلك كانت الأم والنساء عموما هن من يدفعن ثمن وحشية الرجل وثمن حروبه وعدوانيته وقسوته، بعد ان تمكن من عزلها جانبا وفقدت كل حيلة وقدرة على الوقوف امام الزعماء والساسة والقادة الذين سخروا ابناء الفقراء جنودا في حروبهم، التي دائما ما اضافوا عليها صفة العدالة وغلفوها بشعارات الدفاع عن الوطن وعن السيادة وعن العرض وعن الدين وعن الله وعن أي شيء يمكن ان يقمع أي معارضة او اعتراض.
وحتى يتمكن القادة والسياسيون من زج مئات الالاف من الشباب الفقراء في آلة الموت استخدموا الفلاسفة والكهنة ورجال الدين والادباء والشعراء لنشر ثقافة الموت التي رسخت في المفاهيم ان الموت في الحروب هو اسرع الطرق الى الجنة.
وهذا ما حدث في فلسطين منذ نصف قرن وتوغل عميقا في فكر المرأة الفلسطينية في السنوات الاخيرة، وهذا ايضا ما حدث في العراق وان بنسبة اقل في السنوات الست الماضية. عندما طغت السياسة على المفاهيم الدينية، وحول تجار الدين القيم النبيلة التي جاءت بها الديانات الى ذرائع لنشر ثقافة الموت، وصوروا الموت بانه ارتقاء الى الجنة، مما دفع المرأة الفلسطينية الى ان تتخيل انها تزف ابنها الذي قتلته الطائرات الصهيونية وهو في الطريق مثلا او في السوق او المنزل، الى حيث تنتظره الحوريات ليأخذنه بالاحضان ويقمن برعايته بدلا عنها، فيما تصورت بعض نساء العراق وهن قلة ولله الحمد انها عندما تفجر نفسها وسط الابرياء في الاسواق والطرقات انها سوف تصعد على الفور الى السماء لتجد السعادة الابدية، وهكذا الامر بالنسبة للشباب المغرر بهم الذين تصوروا انهم بمجرد الضغط على مفتاج الحزام الناسف فانه سيقفز لتتلقفه صدور الحوريات السبعين.
فأي جريمة يرتكبها هؤلاء الساسة والقادة عندما ينتزعون عاطفة الامومة من صدور النساء ويحولنهن الى الات موسيقية تصدح في الجنازات زغاريد وتهاليل، واحيانا الى فرقة دبكة وفرق هوسة ونطنطة العز والشرف ..؟؟
حولوا النساء الفلسطينيات الى مرضى نفسيين كما قال احد الاصدقاء، والذي اضاف ان الكثير منهن يصبن باحباط نفسي وانهيار عصبي بعد اربعة او ستة اشهر بعد ان "تذهب السكرة وتأتي الفكرة" كما يقال بالامثال لتصحون وقد وجدت الواحدة منهن نفسها غارقة في شعور الفقدان، وان حبيب قلبها ونور عينيها وفلذة كبدها قد طار من بين يديها وانتزعته من على صدرها فرق اشاعة مناخ الموت والجنازات السريعة، وانها الوحيدة التي قدمت هذه التضحية العزيزة جدا على قلبها، فيما القادة والساسة فرحون وقد علت مراتبهم وتحسنت مواقعهم وحازوا على المزيد من الاعجاب والتصفيق من الغوغاء وهم يلقون خطبهم الرنانة وغالبا ما كان عدد الشهداء يعتبر احد الشهادات التي يقدمها القائد للدلالة على استحقاقه لمكانة القائد الفذ الهمام، فخالد مشعل رئيس حركة حماس الاسلامية مثلا وقف خلف الميكروفونات مزهوا يعبر عن سعادته في خطابة عشية الحرب الصهيونية على غزة ليعلن عن النصر الالهي، في وقت كانت دماء الاطفال والنساء لم تجف بعد تحت ركام منازلها، فيما قواته نزعت ملابسها العسكرية واختبأت بن المدنيين العزل.
وفي نفس السياق قال هنية رئيس الحكومة الانقلابية " حتى لو دمرتم غزة عن بكرة ابيها فلن نستسلم". واخرون من قادة الاسلام السياسي كالجهاد مثلا رددوا نفس العبارات ومعهم اليساريون العدميون ومعهم كل من لا يقيم وزنا للحياة طالما ان القائد والحزب والجماعة ظلت على قيد الحياة فليموت من يموت من الشعب الفقير المسكين.
ويتنطع بعض ابواق قادة الموت وثقافة المقاومة المسلحة العبثية التي لا تاخذ بالحسبان موازين القوى وسبل الاعداد للمعارك المسلحة، والتي لا يضيرها ولا يهز شعرة من جفونها القاء شعوبها الى التهلكة وقودا لنيران طائرات العدو وصواريخه. تتنطع لتتهمنا باننا ننشر ثقافة الخنوع والخضوع، ويرجموننا بجمل وعبارات عن العزة والكرامة وفداء الاوطان بالروح والدم والغالي والنفيس.
وهذه الابواق الزاعقة في جوف القبور تطلق ثقافتها الدموية وهي تجلس في مكاتبها شبه المنهارة محطمة الجدران منزوعة الاسقف ، او في غرف نوم متهالكة ايلة للسقوط لانها اصلا تفتقد لاي قدرات تمكنها من صنع حياتها الخاصة فكيف بها تصنع الحياة للاخرين. فهي لا تصلح سوى ان تكون غربانا تزعق بالموت وترقص على الاشلاء ويسعدها الانين ويفرحها الوجع الانساني مهما كان شكله.
هذه الغربان .. قادة وسياسيون ومثقفون جعلوا ميدان المباراة الوحيد للشعب الفلسطيني على مدار نصف قرن هو ميدان الموت والعنف والقوة، فصارت الام تفخر بعدد ابنائها الاسرى وعدد ابنائها الشهداء، فاصبحت ام الشهيد وزوجة الشهيد وام الاسير بدلا من ام العالم وأم الفيلسوف وأم الطبيب وأم المهندس وأم المخترع المبدع في هذا المجال او ذاك.
وادت هذه الثقافة الى ان تحول المجتمع الفلسطيني كله الى مجتمع عنيف يتباهى فيه الرجل بانه شقيق الشهد وشقيق الاسير، وبعدد سنوات سجنه في معتقلات العدو، وكلما كانت سنوات اعتقاله اطول كلما اعتقد ان مكانته الاجتماعية افضل.
وتحول المجتمع باسره الى مجتمع يعيش على المعونات الاجنبية القادمة ممن يعتبرهم اعدائه مثل امريكا واوروبا الغربية. وصارت قواه الاساسية معطلة لا تجيد أي نوع من العمل سوى الوظيفة في دوائر السلطة او المنظمات او الاحزاب او مليشياتها لتكون عاطلة عن العمل لا تقوم باي فعل انتاجي حقيقي لتنمية المجتمع.
وغرق مثقفوه في اليومي من الاحداث السياسية ونسوا تماما دورهم التنويري في مختلف ميادين الحياة.
هؤلاء هم ابناء الام الفلسطينية.. وهم بالتاكيد ليسوا مثل محمود درويش يخلجلون من دموع امهاتهم، بل بالعكس تفاخروا بنزع قلوب امهاتهم، كما تفاخروا بنزع قلوبهم.
واشتغلوا بكل ما اوتوا من قوة في ميدان نشر ثقافة عشق الموت والقتل والقوة والعنف، وذهبوا بعيدا في تمجيد ثقافة شظف العيش والفقر والحرمان، وكما كان اجدادهم البدو تسابقوا على تمجيد بيت الشعر وتفضيل الخيمة على القصر.
قد يقول البعض انني ذهبت بعيدا عن الأم وقلبها واحزانها وعيدها، وهذا وهم قد يتبدى لهم، فما زلت في صلب الموضوع، فعاطفة الامومة التي اتحدث عنها هي تلك ذات الابعاد الثقافية والسياسية، فحتى نعيد القلب المنزوع من صدرها يجب نبذ ثقافة الموت والهم والفقر والسجن والاسر.
ويجب توجيه اشد انواع النقد لها ورفضها والعمل باقصى جهد لتغيير المفاهيم البدوية العنفية، ومكانها يجب ان يتم تمجيد الجمال مكان القبح، وتمجيد رفاهية العيش وليس شظفه، وتمجيد العمل وليس الكسل والبطالة، وتمجيد المحبة وليس الكراهية، وتمجيد قبول الاخر وليس العداء للاخر.
فيا ايتها الام العظيمة يا صانعة الحياة وسر ديمومتها وبقائها في يوم عيدك يعدك بعض من يخجلون من دمعك ان يبذلوا اقصى ما باستطاعتهم للحفاظ على قلبك مليئا بكل الصفات الانسانية الرائعة، وسوف نظل نستمد منك الحنان والعطف والحب. واذا نجح البعض بوحشنة قلوب بعض الامهات فهو نجاح مؤقت، فسوف تظلين الى الابد الاله الذي يفيض حبا وعاطفة وحنانا على هذا الكون، واطمأني فسوف نعشق عمرنا ونعشق الحياة ،وكل عام وانت بالف خير.