مليحة رحمة الله والريادة في دراسة التأريخ الاجتماعي العربي



ابراهيم خليل العلاف
2009 / 3 / 30

ا.د.إبراهيم خليل العلاف
مركز الدراسات الاقليمية –جامعة الموصل
من المؤرخات العراقيات الرائدات المعاصرات ، وعندما كنت طالبا في اوائل الستينات من القرن الماضي ، عرفتها عن كثب .. كانت مثالا للأستاذة القديرة الفاضلة ، وقد حظيت باحترام طلبتها وزملائها .. اهتمت منذ وقت مبكر من حياتها العلمية ، بتاريخ الحياة الاجتماعية العراقية في وقت كان التاريخ السياسي ، وتاريخ الحروب والصراعات ، هو النمط الغالب على الدراسات التاريخية ليس في العراق وانما في البلدان العربية الاخرى ومنها مصر .. ولدت الاستاذة الدكتورة مليحة رحمة الله في بغداد سنة 1925 ، واكملت فيها دراستها الابتدائية والمتوسطة والثانوية . دخلت كلية الملكة عالية (كلية التحرير للبنات بعد ثورة 14 تموز 1958) وحصلت على ليسانس تاريخ سنة 1950 . التحقت بجامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة ونالت الماجستير في التاريخ الاسلامي سنة 1952 بعنوان : المرأة في بغداد ابان القرنين التاسع والعاشر من خلال تاريخ ابن الخطيب البغدادي
The Women of Baghdad in the Ninth and tenth centuries as revealed in
the history of Baghdad of AL- Hatib سافرت الى مصر لتلتحق بكلية الاداب ـ جامعة القاهرة ، وفي سنة 1968 حصلت على الدكتوراه في التاريخ الاسلامي عن رسالتها الموسومة ( الحالة الاجتماعية في العراق في القرنين الثالث والرابع بعد الهجرة )) وكان باشراف الاستاذ الدكتور محمد جمال الدين سرور وقد طبعت في كتاب بمطبعة الزهراء ببغداد سنة 1970 ويقع الكتاب في (180) صفحة من القطع الكبير .
عادت الى العراق لتعين مدرسة في قسم التاريخ بكلية الاداب جامعة بغداد ، وقد اصدرت سنة 1953 اول كتاب لها بالانكليزية تحت عنوان ((المتصوفات في بغداد )) .
كانت لها نشاطات علمية واجتماعية ومهنية ، فهي عضوة في جمعية حقوق الانسان في العراق ، وعضوة في اتحاد المؤرخين العرب ، ولها اكثر من (30) بحثا منشورا في المجلات العراقية والعربية معظمها يدور حول المجتمع العباسي وما فيه من دور للمرأة والغناء والموسيقى . كتب عنها صديقنا الاستاذ حميد المطبعي في الجزء الثاني من موسوعته (اعلام العراق في القرن العشرين) وقال عنها انها (( باحثة في التاريخ )) وانها حصلت لمساهماتها المتميزة في خدمة حركة التاريخ على وسام المؤرخ العربي من اتحاد المؤرخين العرب سنة 1985 .
اهتمت بتاريخ التعليم في الدول العربية الاسلامية ونشرت اكثر من بحث في هذا المجال . وقد نشر احد بحوثها باللغة الانكليزية ببغداد سنة 1963 ويدور حول التعليم عند ( محمد بن خلف القابسي) وعنوان البحث هو :
A fourth Century Education : Aba –al Hassan Al : B .Khalaf
Al –Qabisi , (Baghdad ,1963)
والقابسي هو ابي الحسن علي بن محمد بن خلف المعافري القيرواني القابسي المتوفى سنة 403هـ وعنوان رسالته في التربية والتعليم ((الرسالة المفصلة لاحوال المعلمين واحكام المعلمين والمتعلمين)) . كما ان لها كتاب نشر بالانكليزية ببغداد سنة 1963 بعنوان :
(( The treatment of the Dhimis in Ammoyyud and Abbasid periods))
كانت الدكتورة مليحة رحمة الله ترى ((بان دراسة الحياة الاجتماعية بكل وجوهها ، ولأية بيئة او مجتمع من العالم يمكن ان تعكس بصورة واضحة مدى نهضة هذه البيئة او هذا المجتمع ومركزه في حينه بين المجتمعات والحواضر الاخرى )) .. وعلى الرغم من صعوبة دراسة مثل هذا النمط من الدراسات التاريخية ، لقلة المصادر وعزوف الباحثين عنه واتجاههم نحو ((جعل الجانب السياسي من العملية التاريخية وحده وما رافق هذا الجانب من وقائع وحروب واحداث مادة لحديثهم وكتاباتهم الرئيسة عن تلك الفترة )) ، مع هذا فانها عمدت الى لم شتات ما تتناثر من معلومات عن الحياة الاجتماعية في العراق ابان العهود الاسلامية وخاصة في القرنين الثالث والرابع الهجريين (التاسع والعاشر الميلاديين) .
كتب الاستاذ الدكتور محمد جمال الدين سرور ، استاذ التاريخ الاسلامي في كلية الاداب ـ جامعة القاهرة يوم 12 نيسان 1969 تقديما لكتاب الدكتورة رحمة الله الموسوم: ((الحالة الاجتماعية في العراق في القرنين الثالث والرابع بعد الهجرة )) يقول ان الدكتورة مليحة رحمة الله اهتمت بالحياة الاجتماعية في العراق اهتماما كبيرا لما لهذه الحياة من دور في التكوين التاريخي العربي الاسلامي ، فقد بحثت عناصر السكان في العراق واثرها في الحياة الاجتماعية ، فتحدثت عن تزايد عدد الاتراك في القرن الثالث الهجري ، وبينت ما كان لهذا العنصر من اثر بالغ في المجتمع العراقي ، ثم تحدثت عن العنصر الفارسي وعودته الى السيادة والسيطرة ممثلا في بني بويه ، واهتمت الى جانب ذلك بابراز آثار هذا العنصر على مظاهر الحياة الاجتماعية . كما عنيت بتوضيح موقف العنصر العربي ، وبينت كيف احتفظ بتقاليده على الرغم من فقده كثيرا من نفوذه ومكانته ، وعرضت لعنصري الروم والزنج وشرحت مدى تأثيرهما في العراق ، واهتمت بالتحدث عن الرقيق على اختلاف انواعه والاثار الاجتماعية التي ترتبت على تكاثر الارقاء ، وخصت الباحثة الطوائف الدينية بكثير من اهتمامها كالاشراف واهل الذمة ، كما افردت فصلا مهما عن التنظيمات الاجتماعية والمهنية والحرفية والاصناف كالعلماء والتجار وارباب الحرف والعامة ، ووضحت خصائص كل طائفة ومستوى معيشتهم ومكانة كل منها في المجتمع العراقي )) .
ولم تغفل الدكتورة رحمة اللة دراسة مظاهر البذخ والترف عند الخلفاء او كبار رجال الدولة ، فاشارت الى حرص الخلفاء على تشييد القصور وما تبع ذلك من اقتداء الامراء والوزراء ورجالات الدولة بهم حتى عمرت كل من بغداد وسامراء بالمباني الفخمة ، والاهم من ذلك كله انها وضحت ما كان لهذا من آثار اجتماعية منها التفاوت الطبقي بين الحكام وبين غيرهم من سائر افراد الشعب وما جره ذلك من ويلات كانت ذروتها سقوط الدولة .
واهتمت الدكتورة رحمة الله بموضوعات اخرى منها المجالس الاجتماعية وتطور الغناء والموسيقى وارجعت ذلك التطور الى تأثر العباسيين بالفرس والروم وتكاثر عدد الجواري وانحراف الحياة الاجتماعية عن الاسس الاسلامية الاولى ، ومما يعطي لدراسات الدكتورة مليحة المصداقية العلمية انها كتبت احداث الماضي كما وقعت ودون ان تتدخل ، ومن هذا القبيل اشاراتها الى وضع العادات والتقاليد والاخلاق وتنويهها الى ما كان هناك من عادات مألوفة وغيرها مرذولة . وقد احتلت المرأة حيزا مهما في اهتماماتها ، فعرضت لوضع المرأة واثرها في المجتمع العربي الاسلامي واشارت الى بعض النساء اللاتي برزن في دراسة الحديث والعلوم واتجاه بعضهن الى حياة الزهد والتصوف وانتهت في دراستها عن المرأة في القرنين الثالث والرابع بعد الهجرة الى ان ((منزلتها لم تكن تبعث على الارتياح بسبب انتشار الجواري في القصور والدور )) . لقد استطاعت ، كما قال الدكتور سرور ، ((بما بذلته من مجهود في ان تلقي اضواء على حقيقة المجتمع العراقي )) دون اية (رتوش) .
سالت زميلي وصديقي واخي الاستاذ الدكتور خليل علي مراد ، الاستاذ في قسم التاريخ بكلية التربية ـ جامعة الموصل يوم 28 مايس 2006 عن الدكتورة مليحة رحمة الله وكان من تلامذتها في قسم التاريخ بكلية الاداب ـ جامعة بغداد اوائل السبعينات من القرن الماضي فقال : (( درست على يدها تاريخ الحضارة العربية الاسلامية عندما كنت طالبا في قسم التاريخ ـ كلية الاداب ـ جامعة بغداد (1970 ـ1972) وقد عرف عنها حسن التعامل وممارستها الاسلوب التربوي تجاه طلبتها ولها قدرة متميزة على تشخيص المتميزين منهم وحثهم على الدراسة وتكليفهم بكتابة البحوث لتوسيع افق تفكيرهم في موضوعات تاريخية مختلفة )) .
نشرت الدكتورة مليحة رحمة الله بحوثا عديدة في مجلات عراقية وعربية ، دار معظمها حول تخصصها واهتمامها المتمركز على جوانب مهمة من الحضارة العربية الاسلامية كالملابس والمجالس وما شاكل ولعل من ابرز ما كتبت في هذا المجال
1 . ((الملابس في العراق خلال العصور العباسية)) ،ونشر في المجلد (13) من المجلة التاريخية المصرية .
2 . ((الغناء والموسيقى والمجالس الاجتماعية في العصر العباسي )) ، ونشر في المجلد (14) من المجلة التاريخية المصرية .
كانت رؤية الدكتورة مليحة رحمة الله الى التاريخ ، تتلخص في ان العملية التاريخية ليست مقتصرة على الجانب السياسي ، وانما هناك جوانب اجتماعية واقتصادية وثقافية يحسن بالمؤرخ الانتباه اليها وتوثيقها ، وكانت ترى ان عظمة الامة وعظمة الدولة ترتكز على القاعدة الاقتصادية والاجتماعية ومتى تغيرت هذه القاعدة ، فان ثمة امور كثيرة تحدث في كيان الدولة وكيان المجتمع وكيان الامة.. ومن هنا فانها ركزت على وضع العامة من الناس واشارت الى وجود تفاوت طبقي في المعيشة بين حياة الترف التي كان يحياها الخلفاء واتباعهم وخاصة في العصور العباسية ، وبين طبقة العامة ومن نتائج وآثار ذلك في المجتمع كثرة الثورات ضد الحكام وقد شغلت تلك الثورات ((الدولة العباسية عدة سنوات ، وكلفتها كثيرا من الاموال والدماء ، ونخص بالذكر ثورة الزنج ضد ملاك الارض وثورة الزط وثورات العيارين والشطار على الحكام .. كما كان لحياة الترف التي نعم بها الخلفاء تأثير سيء في الدولة )) وكثيرا ما دفع الميل الى الترف ، بعض رجالات الدولة الى الالتجاء الى الرشوة ومن الطبيعي ان ينعكس ذلك كله على وضع الدولة ومستقبلها .. ان الدكتورة مليحة رحمة الله ، مؤرخة مقتدرة ، اصيلة في رؤيتها التاريخية ، موضوعية في منهجها وتستحق منا كل التقدير والاحترام .