قوانين متدرجة للأسرة



عبدالله خليفة
2009 / 4 / 19

لا شك أن النساء يقع عليهن الظلم الأكبر في العلاقات الأسرية، فحرياتُ الذكور واسعة، وكلما قام المشرعُ بتقنين وضبطِ هذه الحريات والتقارب مع وضع النساء، كان أدعى هذا لإنتاج أسر أكثر عصرية وديمقراطية.
وكان سبق الشق السني من قانون الأسرة يعود في تصوري إلى كون المذاهب السنية ذات تعددية وتنوع، وكانت يجرى إنتاجها في المدن، فأخذت باجتهادات متعددة، ولم تعان الحصار من قبل الدول فهي ذاتها كانت تشارك الدول في السيادة الفقهية إن لم ترتفع إلى السيادة السياسية.
لكن لا يعني ذلك أنها أعطتْ النساءَ كل الحقوق، فمن قام بصياغة القوانين الوضعية الدينية هم شيوخ الدين الذكور المتعاونون مع الحكومات خلال القرون السابقة.
وهو الوضع المقلوب الذي نتج مع زوال الخلافة الراشدة ومجيء دول الأسر المتحكمة في الثروات والعباد، رجالاً ونساءً، وهو أمرٌ يجعل تلك الأحكام محل نقاش.
ولهذا كلما حاولتْ القوانينُ الوضعية المذهبية الجديدة المقاربة مع وعي المساواة الإسلامي العميق، وحرصت على توحيد المسلمين، وضيقت الهوة بين الرجال والنساء، وقللت من شهوات الرجال واستبدادهم، وجعلت النساء أكثر حرصاً على الأسرة المتوحدة وأكثر عناية بتطوير أطفالهن، كان ذلك أدعى وأقوى في إنشاء أسر أكثر قوة أمام تحديات الحياة المختلفة.
ومن هنا فإذا كان الشقُ السني أسرع في القدوم للتشريع فهذا بسببِ ما كان من تحررية لهذه المذاهب، ومن تخفيف السيطرة على اتباعها، في ظلِ وجودِ دولٍ مهيمنة فيها، في حين كان الأمرُ مختلفاً في المذاهب الأخرى الأقل عدداً من أهل السنة، التي كانت مُحاصرة غالباً أو حتى مضطـهدة ووجدت في التمسك الشرعي الفقهي، خاصة في أمور الأسرة والأحوال الشخصية، باباً يمنعُ من تحللِها أو من السيطرة عليها.
وعموماً كانت المحافظة سيدة الأحكام في المذاهب الدينية جميعاً التي راعت الحكام والذكور المسيطرين، أكثر من العدل بين الجنسين.
وكان ذلك في زمن مختلف، في ظروف كانت الأممُ الإسلامية فيها مسيطرة على ظروفها وبلدانها، وقامت تلك الأحكامُ الأسرية المحافظة بإضعافِ دول المسلمين أمام الغزوات الأجنبية، وتم اختراقِها والسيطرة عليها، لما سببتهُ تلك الأحكام من ضعف الأسر الإسلامية وكثرة أعداد أطفالها وغلبة اللامسئولية في هذا الصدد، وتم تحميل النساء أعباء البيوت وإنتاج الأطفال الأميين غالباً أو الأميين الثقافيين حاليا، وتقييدهن في هذه الأوضاع فيما كانت أغلبية الرجال تفعلُ ما تريد وتكثر من النسل بلا تخطيط، مع غياب المؤسسات التربوية والديمقراطية الراصدة للخلل في ذلك.
ومن هنا تتباين ظروف المسلمين من بلد إلى آخر، ومن منطقة إلى أخرى في البلد الواحد، وهذا يتطلب من المشرع مراعاة هذه الظروف كلها، وعدم التسرع في إصدارها وضرورة المرونة في تطبيقها.
فبين مدينة وقرية ثمة تباين وبين مذهب وآخر هناك اختلافات، فأهل المدن أقل تشدداً في مثل هذه المسائل، بينما أهل البادية متشددون عموماً، ويغدو القانون العصري المتعلق بالأحوال الشخصية قارئاً قراءة عميقة لهذه التلاوين.
ولهذا فإن المشرع الفقهي الحديث هو قائد سياسي ويغدو رديفه القاضي على مثل هذه الدرجة من الرؤية الثاقبة المسؤولة، فمن خلالهما يمكن للعائلات أن تتطور أو تتهدم وهي مسئولية بالغة الحساسية والخطورة.
وإيجاد العدالة يكمن ليس في النصوص وحدها بل في التطبيق.
والهدف الأساسي للأحكام ليس التحلل أو تأسيس العائلات المتفسخة بل تقليل التفسخ الراهن الذي سببتهُ سيطرات حادة وأنانياتٌ لا ترى بالعين المجردة لكن تـُرى في أروقة المحاكم وفوضى الأطفال والمراهقين في الشوارع.
يُفترض من المشرعين في مختلف المذاهب أن تكون وحدة المسلمين وتقدمهم هي الأهداف التي تحركهم جميعاً، فمهما تكن درجاتُ الاختلاف والسرعة في هضم مسائل الحرية والألتزام الأخلاقي الأسري بينهم ومهما يكن التعبير عن مصالح مذاهبهم واستقلالها لكن لا يجوز استقلالهم عن مصالح العرب والمسلمين العليا ووحدة أوطانهم وتقدمها، بحيث يكونون مسئولين عن سلامة أجيال لا تتشرد وأسر لا تتفكك وعلاقات أسرية عقلانية وفيها مساواة.
ولا شك أن جهود الجماعات النسائية مهمة في دعم ومراقبة تلك الجهود الفقهية والقضائية، عبر رصد الحالات والقضايا المطروحة والأحكام وتصويب ذلك بما يخدم العدالة للنساء والتآزر في الأسر والتوحد في الوطن والتطور فيه، ولابد من إجراء الحوارات مع الفقهاء والقضاة، وإقامة منبر صحفي يتابعُ ويرصد ويقومُ ذلك، وهذا كله يقود لتراكم قانوني يظل محدوداً وصعباً بسبب قدم العلاقات الأسرية ومشكلاتها وتعقد أحوالها بين مذهبي جامد وسياسي متنازع ومصالح متباينة للجماعات وللرجال والنساء، لكن هذا التراكم هو الذي يمثل التقدم المرجو من دون الانقطاع عن التراث بل من خلال رؤيته العميقة وليست الشكلانية الخارجية.