قانون أحوال غير شخصية



نضال نعيسة
2009 / 7 / 3

منذ زمن غير بعيد، كنت أتجول على شاطئ أحد الربوع الساحلية السورية الخلابة، والمعروفة بانفتاجها المجتمعي العام، حيث تجتمع الجبال الخضراء الشاهقة، مع زرقة البحر اللازوردي الجميل، مع الجبال، والأنهار والبحيرات العذبة الصافية، حين أصبت بنوبة هلع وذعر صاعقة جراء مشهد موحش غريب وكئيب، فيه شيء من اللامعقول، مع الفانتازيا، والسوريالية ذات النفحات الأصولية، فلا تتوقع أن ترى في تلك البقعة الخضراء الساحرة جلباباً، أو لحية وعمامة، أونقاباً وشادوراً مطلياً بالسواد، وهي سمات أساسية لمجتمعات الصحراء والرمال الصفراء، فهنا بات االنقاب يهدد ابكيني، وينكفئ عرق اليانسون البلدي، ونبيذ العنب الأحمر، أمام مياه الزمزم، وتذوي موسيقى البوب الميجانا والدلعونا والحاصوديات أمام خطب مواعظ الشعراوي وشيوخ الصحوة، وتترنح الابتسامات والوجوه الباشة الحليقة أمام التجهم والعبوس والوجوه الكالحة واللحى المحناة، وحيث تتعانق، مراراً وتكراراً، المتناقضات والمبهمات وعلى نحو مدوخ وباعث على الانفجار. وحين يفكر أحدهم بأن يرتكب بعض المعاصي كتهريب رشفة بيرة أمام مشهد البحر اللامتناهي، يسمع عشرات الهمسات والهمهمات التي تلعن إبليس والشيطان، والانحلال والحرام والمنكرات والموبقات.

توقفتْ، في تلك اللحظات، وفي ذات المكان، عدة حافلات رثة، ومن موديلات أكل الزمان عليها وشرب وبال، (تذكـّرك بحافلات كشمير ومومباي وقندرهار وكما تنقلها لنا وسائل الإعلام)، قادمة، على الأرجح، من مناطق سورية داخلية، حين دلفت منها مجموعات من الفتيات الصغيرات بعمر الزهور، تتراوح أعمار معظمهن بين السادسة والعاشرة، على الأغلب، وكما فـُهم وعـُرف، أنهن كن في رحلة مدرسية ترفيهية إلى هذه البقاع الجميلة، وقد تحجبن جميعهن دونما استثناء، ولبسن الحجاب الشرعي الموحد ذا اللون الأبيض، واللباس والأكمام الطويلة، هذا شكلاً، ناهيك عن حالات التجهم، والعبوس، والتوجس، والنظرات القلقة التي اعترت تلك الوجوه الغضة الجميلة البريئة، مضموناً، وكن يتمشين على وقع واحد، وبطريقة تشبه ذاك النمط الفاشي شبه العسكري، فلا ابتسامة من هنا، ولا ضحكة ظاهرة من هناك، على تلك الوجوه، ولا نظرة باتجاه الأفق، ولا تمعن أو تبحر بجمالية المكان، وسحر الطبيعة. فاللامبالاة، وبرودة الاستجابات، وانعدام حيوية الطفولة، وثقل الزمن والخطوات، وترهل الأجساد كان سيد الموقف، وهو أهم ما مميز تلك اللحظات التي حاكت زمناً ميتاً قد أفل، وفات، ومات.

توقفت لبرهة، غير مصدق، لما رأته عيناي، مع مزيج مشاعر من الحزن والأسى والغضب والشفقة على مصير الفتيات الصغيرات، و كأن كارثة ما قد وقعت. فبدلاً من أن يلعبن ويركضن ويمرحن ويملأن المكان صخباً وضجيجاً ومرحاً وشغباً، كان الوجوم والتبلد والتوحش هو المسيطر. وبدلاً من الموسيقى وترديد الأغاني والأناشيد البريئة والعفوية، كان ينبعث من مكان ما في داخل إحدى الحافلات صوت المقرئ الشيخ الحزين الجنائزي، بينما توزعت "المشرفات"، بين منقبة، ومحجبة، ومتجلببة في أرجاء المكان، وكأنهن في سرادق للعزاء، يتوجهن باللوم والتأنيب واللوم لكل من حاولت أن "تخدش الحياء" العام، بابتسامة طفولية، أو حركة ما قد لا تروق لوزارة الأوقاف ودار الإفتاء، وسيرة الأخيار، وتزعج رميم السلف الصالح في الدواسر من الأجداث.

مضى على تلك الحادثة، ما مضى من وقت غير بعيد، وهو غير مهم، بكل الأحوال، فلم يعد أية أهمية، أو معنى لتاريخنا، وكل أوقاتنا منذ ألف وأربعمائة عام، طالما أن شيئاً جوهرياً لم يتغير على الإطلاق في هذه الأرض اليباب.

فحين اجتمعت اللجنة السرية، إياها، لصوغ قانون جديد للأحوال الشخصية، كانت في الحقيقة، وفي صياغتها، تعبر عن واقع وحال على الأرض بات ملموساً ولا يمكن تنكره وتجاهله. وكنت سأستغرب فعلاً لو أتى بمواد وقوانين راقية، وعصرية، وعلمانية، وغير تلك التي أتى بها، والقاعدة الشعبية تقول كل إناء ينضح بما فيه، فمن لا زال يجهل ما تنضح به تلك العقول فهو ولا شك غر وبريء؟ ( احتج البعض على سرية اللجنة، بينما نرى وفي ظل واقع الحال أن "اللجنة" يجب أن تكون محجبة وسرية، نظراً لأنها "لجنة".

ما الذي تغير أصلاً، على الأرض من معطيات إيديولوجية وتركيبية عقلية جمعية حتى تغير تلك اللجنة من رؤيتها؟ ولا أخال أعضاء تلك اللجنة إلا آباء، وأخوة، وأجداد، وأخوال، وأعمام، لتلك الفتيات اللواتي صادفتهن في تلك الرحلة "الترفيهية"، ومن حقهن علينا أن نسن لهن كل القوانين، والتشريعات التي تعبر عن واقع الحال، وتضمن لهم مكاناً لائقاً في "عالم الحريم" والإماء، والذكورة المستقبلي. واقع بات يقول وبشكل صريح بأننا نعود إلى الوراء، وبمسافات طويلة، ولا نريد أن نخطو وننظر للأمام، كما لم يعد يعنينا أن نتطلع، البتة، إلى الأمام، وبات من المنطق، تماماُ، أن نستمد قوانيننا مما فات ومات، وليس مما هو قادم ومستقبل من الأيام.

أستغرب كل الاستغراب لاستغراب البعض لما ورد في قانون الأحوال السورية الشخصية الجديد المقترح، والذي قيل أنه ألغي فيما لا يزال البعض يصر على أنه قيد الدراسة والطرح، (كما أن قسطاً لا بأس به من النقد انصب على سرية اللجنة، ولا أدري ما الفرق فيما إذا كانت سرية أو علنية طالما أن العقل الذي تتركب منه هو واحد وعلني ومعروف). وشخصياً، كنت سأستغرب، وبكل صدق، لو أتت اللجنة وخرجت بمقترحات غير تلك التي وردت في القانون المقترح. فليس بالإمكان إلا ماكان، وربما كان " الشباب"، متنورين جداً مقارنة لما ورد في "المكاشفات" الأخيرة لبعض ممن كانوا يعتبرون في خانة العقلانيين واليساريين والثوريين الماركسيين.

وفي الحقيقة فإن "لجنة" صياغة أخرى، صاغت مواداً، ربما، أكثر إشكالية، ولا تخرج من هذا المنظور، حين تصدت للواقع السياسي السوري، ونقصد بها "لجنة" إعلان دمشق، التي كانت تعد العدة، نظرياً، ومن خلال تلك الفقرة الإشكالية في إعلانها الشهير، وتمهد السبيل، لقدوم هذه "اللجنة السرية" أو ربما لجاناً أكثر سرية وخطورة فيما لو تغيرت بعض الظروف والمعطيات وكما كان متصوراً، والتي صاغت مادتها وفقاً للرؤية الإعلانية العريضة إياها، ولكن تلك الفقرة، وقتذاك، لم تشحذ الهمم كما شحذتها اليوم لجنة قانون الأحوال الشخصية الجديد، وهذه والله واحدة من غرائب الزمان.

فإلى كل أولئك النادبين، والثائرين على قانون الأحوال الشخصية السوري الجديد: ألا يلزم هذا الجيش الجديد العرمرم من الفتيات الصغيرات، قانون ينظم حياة هؤلاء حين يكبرن، ولا أحسب أن هناك قانوناً يمكن أن يعبر عن واقع الحال كما هو القانون الجديد؟