ما رغريت تاتشر بعد ثلاثين عاماً



نضال نعيسة
2009 / 7 / 26

اليوم الذي صنع فيه تاريخ جديد
أيام تاتشر الأولى في 10 داونينغ ستريت
مع مرور الذكرى الثلاثين لصعودها لقمة السلطة في بريطانيا
لعل أولى مفارقات صعود تاتشر هو أنها امرأة صعدت في بيئة وحزب محافظ. وكانت في نفس الوقت مرشحة لحزب يمثل القيم المحافظة التي لا تعطي المرأة كثير بال، وهذا ما سيتضح لاحقاً في صلب المقال، حيث يعايرها كثيرون من رجال الساسة والصحافة بعبارة "تلك المرأة". كما لا يمكن النظر في قصة الصعود التاريخي والصاروخي لمارغريت تاتشر إلى قمة الهرم السلطوي إلا في سياقات تأثيرها على الحكومة، وتصميمها على تقليص نفوذ النقابات، وإعادة الروح إلى الاقتصاد، ولاستعاد دور وألق بريطانيا في العالم. ومن هنا تبدو سنواتها الإحدى عشرة في الحكم كسعي دؤوب وحثيث في هذا المضمار، ولترسيخ هذه الصورة. وإنها لواحدة من مهاراتها الكبرى، كما سيظهر لاحقاً، بأنها حصرت تقييم الناس، وتراثها السلطوي، ونظرة الناس لها من هذه الزاوية فقط، وليس من كونها امرأة.

فلم تكن الأيام الأولى لوصول مارغريت تاتشر إلى 10 داونينغ ستريت لتمر هكذا نظراً لكونها أول امرأة في بريطانية تحتلل هذا المنصب الرفيع في تاريخ البلاد. وفي الذكرى الثلاثين لذلك، يتذكر سيرجنت جون، مراسل البي بي سي السابق، ذلك بالقول في مقال له في صحيفة التليغراف: "في اليوم الذي صنعنا فيه التاريخ أنا ومارغريت تاتشر". ويلاحظ ، مراسل البي بي سي وقتها، بأنه كان حريصاً على تسجيل كل حركة لها. ويشير، في نفس الوقت، إلى أن أحد بواعث السرور في كون المرء مراسلاً مخضرماً، هو أن كل ما يقوله ويفعله يكون موضع مصداقية وتفهم ولن يناقشه أحد في ذلك. فسجل المرء وتاريخه هو ما يعول عليه هنا، والنقطة الرئيسية في الموضوع أنني كنت هناك، ماسكاً بأحد الميكروفوننات، أي مراسلاً صحافياً، في تلك اللحظات التاريخية الخالدة.

ولكن، من ثم، يعرج الكاتب على الجانب الأهم في الموضوع ألا وهو البعد النسوي أو الأنثوي في شخصية رئيسة وزراء بريطانيا، ليقول متسائلاً هل يمكن لامرأة تقود الحكومة البريطانية أن تحظى بنفس القدر والاحترام الذي يناله ويحظاه رجل يحتل نفس المنصب؟ ويستذكر، وبمرارة فائقة، أنه حتى اللحظة، لا يمكن لكثيرين الإشارة لتاتشر إلا من خلال عبارة "تلك المرأة". وحتى سلفها إدوارد هيث كان يستخدم العبارة نفسها في حديثه عن رئيسة الوزراء إلى مراسل حديث العهد في البي بي سي.

ويعترف الكاتب، في موضع آخر، بأن بغض النساء الـ "Misogyny " ، وبهذا الشكل الأعمى، كان صادماً بالنسبة له، ولكن الأمر كان شائعاً جداً. فميزان الجنس أوالنوع، ما يزال ذا شأن حتى اليوم. ولكنه لا يناقش بنفس درجة السخافة التي كان يتم تناوله بها عندما وقفت السيدة تاتشر على عتبة السلطة. ففي تلك الأيام كان هناك معلقون يساجلون بشكل جدي، فيما إذا كان العامة سيسمحون لحزب أن تقوده امرأة، ويتمكن من الفوز في الانتخابات. لن يهم، والسؤال ليس فيما إذا كان الوضع هو "تلك المرأة"، ولو على نحو فج، ولكن هل تمتلك أية امرأة القدرة على قيادة البلد؟

ويقارن كاتب المقال هنا بين وضع تاتشر وهيلاري كلينتون، في سياق الانتخابات الأمريكية، التي استدعى ترشيحها جدلاً من ذات المضمون. وطالما اقترن بموضوعة أن وجود امرأة في البيت الأبيض سيضفي بعداً على قضية المرأة. فأمر كهذا قد يكون ذا تأثير آخر على الأجندة السياسية. وقياسا، على نفس الأمر، فيما يتعلق بالرئيس أوباما، فالناس هنا لا ينظرون إلى لون الرجل بقدر ما ينظرون إلى أفعاله.

ويعزو الكاتب القضية الجوهرية التي أبعدت كل جانب آخر غير إيجابي في النظرة إلى تاتشر، إلى مصداقيتها العظيمة كما يصفها. فهي لم تكن، كأول رئيسة وزراء في بريطاني، أشهر سياسي في العالم وحسب، ولكن أشهر شخص أيضاً. فجميع الناس الذين كانوا يتابعون برامج إخبارية عبر العالم كانوا مفتونين برؤية أحد القادة في القمم الدولية يلبس حذاء ذا كعب عال، ويرتدي ملابس على درجة عالية من الأناقة والذوق. وكانت السيدة تاتشر تعلم، وقتها، بأن الجميع يراقبونها، ولكنها لم تأبه البتة لجنسها الأنثوي، غير أنها استغلته، بالفعل، أحسن استغلال.

فالزعيمات النسويات، وعلى الأخص غولدا مئير، والمستشارة الألمانية الحالية، أنجيلا ميركل، بالكاد كن ينظرن إلى ذواتهن في ميدان الأناقة والأزياء. وحين كن يواجهن بأي سؤال عن أنوثتهن، فعادة ما يكون جوابهن، لنغير الموضوع. غير أن السيدة تاتشر لم تعتقد أن ذلك كان ناجعاً، أو حتى مرغوباً. وهي لم تكن تخفي بأنها كانت بحاجة يومية إلى مصفف شعر تستدعيه متى شاءت، ولن يكون للوقت أية أهمية تذكر حين يتعلق الأمر بقضية حيوية جداً، من قبيل ماذا سترتدي لهذا اليوم؟ ويستذكر الكاتب، لاحقاً، كيف كانت صحف التابلويد الشعبية تشير إليها بلقب "ماغي"، فيما كانت تعرف بين زملائها بـ" مارغريت". ولم يكن الأمر مسلياً بالنسبة لها حين كان يطلق عليها نورمان سانت جون ستيفاز بالزعيمة، The leaderene ، (كمؤنث لـ Leader باللغة الإنكليزية، المترجم)، كما كان يسميها. وكونها امرأة، لم يكن `g; أبداً على سبيل المزاح، من جانبها. فتاريخها السياسي، ومن عدة وجوه، كان يدعمه واقع أنها امرأة وليس رجلاً، أكثر من أي شيء آخر.

ويمضي الكاتب إلى القول بأنه تم إقناع إدوارد هيث بأنه يمكنه العمل مع امرأة في الوزارة كوزيرة للثقافة، وكونها امرأة لن يكون ` ذلك مدعاة لأي خطر لمنافسته. وحين جرت المعركة الانتخابية عام 1979 كانت السيدة ما رغريت تاتشر قد أخبرت المحرر السياسي للبي بي سي، هارديمان سكوت، بأنها قد تمكنت من هيث ولن تدع الأمر. وبأنها كامرأة، كانت خارج الدائرة الضيقة، ولن يعتريها الندم لمقارعة الزعيم الذي كان قد خسر الانتخابات قبل عام من الآن، في الوقت الذي امتنع فيه المرشح المعروف ويليام وايتلو، على فعل ذلك بناء على معايير الولاء لرفيق الدرب، ومعلمه القديم هيث.

وبنفس الطريقة التي لا يظهر باراك أوباما فيها أي عزم لتلميع صورته كقائد أسود، ويفضل على ذلك أن ينظر إليه كرئيس جديد للولايات المتحدة، فإن السيدة تاتشر، كانت حريصة على ألا تظهر بمظهر المهمل لأنها امرأة تعمل في السياسة. لقد كانت انثى ولكنها لم تكن متعصبة للنساء. ومن الطريف أن المراسلات كن يعطين، وقبل ثلاثين عاماً من الآن أثناء حملة الانتخابات، فسحة أقل للـكلام مع زعيم المحافظين، وخاصة فيما إذا أشير إليهن بأية إشارة إلى رابطة الأخت. وعلى أية حال فقد كان مدعاة للارتياح بالنسبة لمارغريت تاتشر مواجهة الرجال والتعامل معهم. فقد كانت تعبـّر عن فرحها لكونها محط اهتمام الرجال في ردهات وستمينستر الضيقة. وخلال مرورها مع حاشية الرجال، كان ينتابها شعور بأنها أكثر من مجرد امرأة قوية، إنها بالفعل، ملكة النحل. ومن الجدير ذكره أن بعضاً من وزرائها المفضلين، وحتى الصحفيين، كانوا يميلون لاستراق نظرات الإعجاب. وكانت تخفض من طبقة صوتها وتجعلها أكثر رقة حين كانت تـُسأل سؤالاً من قبل فاتن معمر يعمل لجريدة التايمز.

ويورد الكاتب نادرة اصابته بالوجل والرعب، إذ كان مرافقاً لها في زيارتها لموسكو وذلك حين همست في أذنه: " من هو ذلك الرجل"؟ وكان ظاهراً أنها لا بد قد هامت بمتجهم الوجه، كبير مراسلي البي بي سي تشارلز ويلر. لقد كانت تلك الرحلة أمثولة صاعقة للطريقة التي كانت تتحول فيها إطلالتها وحضورها إلى مزايا تصب في صالحها. وفي آخر مرحلة من زيارتها للرئيس غورباتشيف، ذهبت معه إلى جورجيا التي كانت ما تزال في حينه، جمهورية سوفيتية، واجتمع يومها أكثر من مليوني إنسان لمشاهدة موكبها وهو يمر من أمامهم.

وفي الأيام الأولى من زعامتها لحزب المحافظين، كان هناك مزيداً من الهواجس حول فيما إذا كانت ستقدر أبداً على الولوج إلى داونينغ ستريت، ناهيك عن النصر في أية انتخابات تالية. وحين كانت السيدة تاتشر في أول أيامها في المنصب، فقد كانت فاتحة زياراتها إلى بلجيكا. وزيارة مقر الناتو كان واحداً من أهم أولوياتها، وبالنسبة لها، فالأمر ليس عملاً روتينياً، أو انشغالاً أقل جاذبية مع المفوضية الأوروبية في بروكسل. وكان السؤال المتوقع سيبدو محرجاً جداً فيما لو كنا سنسأل حين ستجتمع مع الجنرالات: " ماذا ستفعلين بحقيبتك اليدوية (النسائية)"؟

وعندما جرت حملة انتخابات عام 1979 فإن بعض عناصر شخصية تاتشر كانت ماثلة على الدوام. فكانت تؤكد، كامرأة، بأنها اعتادت أن تكون مدبرة منزل من الطراز الجيد، ومن هنا، فإن ميزانية الحكومة ستضبط بعناية فائقة. ولكن في الواقع، فقد كانت هناك إشارات قليلة، جداً، عما بدا لاحقاً كأجندة طموحة لها. فلم يكن هناك، مثلاً، أي ذكر لعمليات الخصخصة الـPrivatization . لقد كان أمراً غاية في الإفراط، وبما فيه الكفاية بالنسبة لها، أن تكون أول رئيسة للوزراء، ومن دون تقديم أية تفاصيل، وتمضي في كافة الاتجاهات. لم يكن هذا نهج بلير مطلقاً. فهي لم تـُدر حملتها الانتخابية كما عزمت أن تحكم، وربما كان في هذا درس لدافيد كاميرون. فهي لم تكن تشعر بأية حاجة لتوضيح برنامج التاتشرية، ولم تكن مستعدة لذلك، ولم تكن تعلم فيما إذا كان ممكنا لها أن تسيطر على الحكومة. غير أن النجاح هو ما وجهت قلبها نحوه، ولذلك فلقد صنعت التاريخ في ذلك اليوم.

عن التلغراف
ترجمة وإعداد نضال نعيسة