نساؤنا في عهدهن -السيداوي-!



جواد البشيتي
2009 / 8 / 19

أخيراً، رفع الأردن تحفظه عن بند في اتفاقية دولية تساوي بين الرجل والمرأة، فأسرع قادة من "الإخوان المسلمين"، عندنا، إلى إصدار فتوى تُحرِّم العمل بتلك الاتفاقية، التي تستهدف القضاء على كل تمييز ضد المرأة، معتبرين الأمر (البند ورفع التحفُّظ عنه) مخالِفاً للدستور ودين الدولة معاً.

البند من المادة 15، من تلك الاتفاقية للأمم المتحدة، والمعروفة اختصاراً باسم "سيداو"، يسمح للمرأة (الأردنية) بأن تكون مساوية للرجل في حقوق قانونية تخصُّ السفر والسكن والإقامة.

أوَّلاً، لا تجزعوا، ولا تفزعوا، فـ "سيداو"، التي تُلْزِم كل دولة (عضو في الأمم المتحدة) وقَّعتها أنْ تلغي، من الوجهة القانونية، كل تمييز ضد المرأة، لن تنزل على مجتمعنا الأردني (والعربي والإسلامي) وعلى "خصوصيته (الثقافية والاجتماعية..)"، والتي يكاد كل عام، أو عالمي، أو مشتَرَك، أن يختفي منها، بفضل سيادة المصلحة في تضخيمها، إلاَّ برداً وسلاماً، فالواقع يعلو ولا يُعْلى عليه، ولن تنال من قوَّة حقائقه، وفي مقدَّمها ما اصفرَّ منها وازداد اصفراراً، "وريقة"، تشتمل على 30 مادة، ولو وقَّعها معظم دول العالم.

هل تَذْكرون الآن، حيث لا صوت يعلو صوت الحرب على "سيداو"، التي لا يمكنني أن أقف معها إلاَّ إذا كنت من ذوي النفوس العظيمة والعقول الصغيرة، اتفاقية، أو معاهدة، وادي عربة، بما دعت إليه من "تطبيع" للعلاقة بين الأردن وإسرائيل؟

"المعاهدة"، وعلى جبروتها القانوني والسياسي، إنَّما كانت، ولجهة "تطبيع" العلاقة بين "الشعبين"، أو "المجتمعين"، الجبل الذي تمخَّض فولد فأراً، فلا إكراه في هذا "التطبيع"؛ لأنَّه يشبه الدين من حيث استحالة قيامه على الإكراه.

و"سيداو" التي يراد لها أن تسبغ "نعمة الحرِّية" على المرأة عندنا، كغيرنا، وتساوي بينها وبين الرجل، على افتراض أننا نحن معشر الرجال ننعم بـ "المساواة"، و"تُطبِّع" العلاقة بينها وبين الرجل، لن تكون لجهة تأثيرها في واقع العلاقة (التاريخية) بين الرجل والمرأة في مجتمعنا إلاَّ ريحاً (إذا ما كانت بقوَّة ريح) تُصارِع جلمود صخرٍ.

أمَّا "السبب"، الذي ينبغي له أن يُثْلِج صدور الرجال في مجتمعنا، والذين "يعبدون" المرأة ما ظلَّت "مُسْتَعْبَدة"، فيكمن في الضحية ذاتها، أي في "المرأة"، فإنَّ الغالبية العظمى من نسائنا لا يَشْعُرْن بالحاجة إلى كثيرٍ من الحقوق التي تناضل "سيداو" من أجل أن يتمتَّعن بها؛ وإنني لا أغالي إذا ما قُلت إنَّهن يناصبن تلك "الاتفاقية" عداءً لا يقل، إنْ لم يزد، عن عداء الرجال لها.

رحم الله ماركس، فقد كان أعلم بـ "الحرِّية" من أرباب "سيداو"، ومن "مؤسسات المجتمع المدني"، و"منظمات حقوق الإنسان"، في مجتمعنا، والتي لا تقل عن الحكومة والبرلمان عندنا لجهة اغترابها عن مجتمعنا، فلقد حذَّر من مغبة "فَرْض الحرِّية" على "ضحايا الاستبداد والاضطهاد"، قائلاً: إنَّكَ لا تستطيع أن تَفْرِض الحرِّية على غيركَ من غير أن تقوِّض حرِّيتكَ بيديكَ.

وكأنَّه كان يخاطب معشر الرجال عندنا، المستمتعين بعبادة المُسْتعبدات من نسائنا، حين قال: إنَّ مَنْ يَسْتَعْبِد غيره لا يمكن أن يكون حرَّاً.

الحكومة عندنا، وفي موقفها من "سيداو"، وبعد رفعها تحفظها عن ذلك البند، لم تقُلْ، ولم تفعل، إلاَّ بما يقيم الدليل على أنَّها لم تؤمن بإلغاء مبدأ "قوامة الرجال على النساء" إلاَّ لتؤكِّد استمرار وثبات ورسوخ إيمانها بمبدأ "القوامة (والوصاية) الحكومية على المجتمع"، وكأنَّها سادن الحقيقة المطلقة، ورأس الحكمة، والأعلم دائما من المجتمع بمصالحه وحاجاته، والدرجة العليا في "سُلَّم التطوُّر الدارويني".

أمَّا "خصومها"، في الموقف من "سيداو"، وفي مقدَّمهم "حزب جبهة العمل الإسلامي"، ومنظمته النسائية، و"المنتدى العالمي للوسطية"، وآخرون من "حُرَّاس الشريعة" كأولئك "العلماء" من الجامعات، فمارسوا "القيادة"، بصفة كونها "عِلْم وفن" التذيُّل لبنية ثقافية تُثقِّف المجتمع بما يحجب عن أبصاره وبصائره مصالحه وحاجاته الحقيقية والواقعية والأساسية، فنغدو بفضلها فارساً لا يُشقُّ له غبار في صراعنا ضد أنفسنا.

هؤلاء "الخصوم"، الذين يخاصمون الحكومة بما يؤكِّد أنَّهم أبناءٌ شرعيون، أو غير شرعيين، لها، هاجوا وماجوا، أرغوا وأزبدوا، أرعدوا وأبرقوا، محرِّضين الأمَّة، علماء ونواب وأعيان ورجال عشائر، على أن يهبوا هبَّة رجل واحد للدفاع عن "أعراض الأمَّة وشرفها والأسرة وقيمها وهوية الأمَّة وحضارتها"، فـ "الاتفاقية"، على ما أفتى أحدهم، هي إعلان حرب على الله ونبيه؛ وكل من يدعو إليها، ويعمل بها، ويساعد في تذليل العقبات (البرلمانية) من طريقها، إنَّما هو "مرتدٌ خَرَج من جَمْع المسلمين".. وكأنَّ قَدَر مجتمعنا أن يظل إلى الأبد بين مطرقة حكومة قلبها شديد البرودة، ومعارضة رأسها شديد السخونة!

أهو "الإفراط في التديُّن" أم "الجاهلية" الحيَّة في النفوس والعقول؟!

كلاَّ، إنَّها "الجاهلية" بعينها، فالأمَّة التي لم تنتصر قط لـ "شرفها القومي"، ولـ "شرفها الديمقراطي (والحضاري والإنساني)"، يأبى رجالها إلاَّ أن يختزنوا في المرأة جُل، إنْ لم يكن كل، معاني الشرف، فقيام إسرائيل العظمى أهون عليهم من أن تعيش المرأة حرَّةً من وصاية رجلٍ يعاني من القصور السياسي والديمقراطي والحضاري ما ينبغي له أن يجعله مُفرِّطاً في حُبِّ الوصاية على المرأة.

انْسوا "الاتفاقية"، وتذَّكروا بعضاً من حقائق الواقع في مستهل القرن الحادي والعشرين.

ليس للمرأة في مجتمعنا الحق في أن تختار أين تسكن أو تقيم، فكم من نسائنا لم يحصلن على التعليم الجامعي؛ لأنَّ الأب أو الأخ يأبى أن تذهب ابنته، أو أخته، إلى جامعة بعيدة عن منزله، أو مدينته، أو بلده، وأن تسكن، بالتالي، بعيداً عن عينه البوليسية؟!

وكم منهن فَقَدْن عملاً كان في متناولهن؛ لأنَّه كان يلزمهن السكن، أو الإقامة، بعيداً عن تلك العين، أو لأنَّه كان يقتضي أن يُكْثِرن من السفر؟!

لقد مارس الرجل، أي الأب والأخ والزوج..، "حقُّه" في التحكُّم في المرأة، سكناً وإقامةً وسفراً، فلم تحصل فئة واسعة من نسائنا على تعليم، أو عمل، كان متاحاً لهن، وفي متناولهن، فعاني اقتصادنا كثيراً من عواقب هذا "الحق الجاهلي".

المرأة الحُرَّة، أي التي تفهم الحرِّية على أنَّها وعي "الضرورة الإنسانية والحضارية"، لا خوف عليها، فهي تستطيع السفر مع كل قبائل العرب من غير أن تفقد عذريتها.

ولا خوف من أن يرتفع منسوب الطلاق مع ارتفاع منسوب الحرِّية عند المرأة، فالزواج الذي تحوَّل إلى سجن، تُسْجن فيه الزوجة مع حقوقها، هو النبع للطلاق؛ وبئس مجتمع قلَّ فيه الطلاق لعجز الزوجات المضطهدات عن الطلاق، الذي هو أبغض الحلال عند الله. أمَّا خوفهم على ما يسمُّونه "التكامل" في العلاقة بين الرجل والمرأة، والذي ينعم به مجتمعنا، وخوفهم من اشتعال فتيل حرب دائمة بين الجنسين، تأتي نيرانها على الأخضر واليابس من حياتنا الأسرية، فلا نفهمهما، ولا يمكننا فهمهما، إلاَّ على أنَّهما خوف من تحوُّل "الحرب الكامنة المستترة" إلى "حرب ظاهرة معلنة"، فنحن نفضِّل دائماً أن نرى صورتنا في المرآة ليلاً، وبعد إطفاء كل الأنوار!

"الاتفاقية" تدعو إلى "المساواة المطلقة"، فلا تفزعوا، ولا تجزعوا، فالمساواة إنَّما هي علاقة قانونية بين طرفين غير متساويين واقعياً، فهل المساواة (القانونية) بين الغني والفقير تلغي الفقر والفقراء، أو الغنى والأغنياء؟!

لقد احتد الجدل وعنف؛ وعلى تصحُّر محتواه ومعانيه ومراميه، أفاد في إظهار وإبراز سمة جديدة لدولنا في عصر العولمة، فحكوماتنا ما عادت تحكم إلاَّ بما يُظْهِر ويؤكِّد أنَّ كفَّة الضغط الخارجي الذي تتعرَّض له تَرْجَح أكثر فأكثر على كفَّة الضغط الداخلي، فها هي الأمم المتحدة، التي لا تملك من أمرها شيئاً، تقرِّر أنَّ من يقف ضد "سيداو" يُعرِّض نفسه للغضبة المالية للمجتمع الدولي، فكيف لحكومات ما عادت قادرة على العيش بـ "الضرائب" وحدها أن تقول "نعم" لـ "تمرُّد لا"، وأن تقول "لا" لـ "خنوع نعم"؟!

زمن حرِّية الاختيار ولَّى، فما عاد لدى حكوماتنا من خيار إلاَّ خيار أن تُلْبِس "الاضطِّرار"، أي ما اضطُّرت اضطِّراراً إلى الأخذ به، لبوس "الفضيلة"، وكأن الفضيلة بِنت الاضطِّرار!