المرأة العربية في المخيال الجمعي



مهدي بندق
2009 / 9 / 1

أزعم أنني واحد ممن يتابعون ما يصدر عن الباحثين الجدد من مصنفات – خاصة في الحقل السوسيولوجي، وبالذات فيما يتعلق بقضايا الجنوسة – إيماناً مني بأن هذه المصنفات لا ريب تشكل جانباً هاماً من الوعي الثقافي بالواقع المعيش من ناحية، ومن أخرى تشير إلى ما سوف يتبدى من ملامح ثقافية في المستقبل.
والحق أنني لا أكتم قلقاً، كثيراً ما ينتابني وأنا أرى الأغلب الأعم من هذه المصنفات دائراً في فلك "الوضعية" Positivism (الأولى ترجمتها بالإيجابية لقبولها الوجود دون نقد لنقائصه) وهى الفلسفة الوحيدة منذ أفلاطون وحتى هيجل وماركس، التي أعطت ظهرها لمبدأ النفي negation الفلسفيّ الخلاق، وحجتها في ذلك أنها بمبدأ الإيجاب إنما تحقق الحياد بين الأيديولوجيات، والمذاهب والعقائد والطبقات. وهكذا تصور لأمثال هؤلاء الباحثين أنهم بهذا الحياد (المزعوم) بالغون قمة الموضوعية التي تتمتع بها العلوم الطبيعية. ولكنْ ثمة فارق بين ما هو طبيعي وما هو إنساني، فالظواهر الطبيعية كالجاذبية والضغط والحرارة والكهرومغناطيسية .. الخ يمكن – بل يجب – أن تُدرس دون اهتمام برغبات وأماني ومخاوف الذات الدارسة ؛ بينما الأمر على العكس تماماً فيما يتعلق بالعلوم الإنسانية مثل الاقتصاد بنظرياته ، وعلم الاجتماع بفروعه، وعلم النفس بتقسيماته، علاوة على التاريخ، والأدب والنقد ؛ فلقد ثبت أن استبعاد الذات عن تلك الحقول إنما يكشف عن نزعة تلفيقية، تهدر عنصراً أصيلاً من عناصر بنيتها ( التي هي إنسانية في مبتداها ومبتغاها) والأكثر أن هذا الاستبعاد الفظ لابد مؤد في النهاية إلى الغطرشة على الموضوعية (الحقة) التي تسعى فيما تسعى إلى الكشف عن الوظيفة الأيديولوجية للنص اجتماعياً وسياسياً.
وهكذا يقع أمثال هؤلاء، الباحثين في براثن فلسفة همها اختزال الوعي الإنساني وتسطيحه، ليقبل بالواقع المعيش دون نقد، ودون إصدار أية حكام على عواره، وقبحه ، ودمامته الروحية ،وهم بهذا القبول الإيجابي Positive للواقع لا غرو يثبتونه، مبررين للقوى المستفيدة من بقائه، مغلقين باب الأمل في وجه الطامح إلى التغيير.
لحسن الحظ فإن أحمد عبد الحميد النجار ليس واحداً من هؤلاء. فهو باحث قد حدد لمصنفه غاية (إنسانية) تسعى لا للارتقاء بوضع المرأة في الحاضر والمستقبل حسبُ، بل هي تمضى إلى الكشف عن ملامح المنظومة التي تشكلت في الماضي مغترضة تجريف إنسانية النساء، زجاً بهن في غرف
(أو قصور) تتولى الشياطين إدارتها، حسبما كان المجتمع الذكوريّ التراتبيّ يقول، تبريراً للقهر الواقع على جنس المرأة جنباً إلى جنب سائر الطبقات والفئات المقهورة.
ولأن الباحث منتم إلى تيار الحداثة الرافض لكل أشكال التمييز العنصريّ Discrimination وفي مقدمتها التمييز ضداً على النساء، فلقد اختار لبحثه منهجاً محدداً من مناهج العلوم الإنسانية المعاصرة، ذلك هو منهج التفكيك Deconstructive method الذي أسس له بول دى مان، وتوسع فيه بقوة جاك دريدا، بغرض الكشف عن آليات الخطاب Discourse وعلى رأسها ما أطلق عليه محمد أركون "المخيال" Fictionalization موضحاً أن المخيال الاجتماعي ليس ميداناً لتحصيل المعرفة "العلمية" بل هو محض مجال لاكتساب القناعات، حيث تسود حالة الإيمان الغيبي المسبق بما يساير نوازع الجماعة. ولعلنا نذكر في هذا السياق توظيف صَّدام حسين لذلك المخيال لإقناع الناس بأنه التجسيم المعاصر لصلاح الدين وسعد بن أبي وقاص، معتمداً في ذلك لا على الأصول التاريخية لهاتين الشخصيتين، بل على ما ترسب في الذاكرة الجمعية من "صور" لهما في فضاءات البطولة الأسطورية.
المخيال إذن، كما يعرّفه الباحث في التمهيد (الإطار النظري) أداة لتوسيع عدسة رؤية التاريخ، بحيث لا تقتصر الرؤية للأحداث على الرصد المادي (الاقتصادي) الذي لجأ إليه المتطرفون الماركسيون ممن نسوا تحذير ماركس نفسه من مغبة الاكتفاء بالعوامل الاقتصادية (رغم كونها العنصر الحاسم في النهاية) فالتاريخ عند ماركس تحركه البنى التحتية بجانب الأبنية الفوقية (الأفكار – الأخلاق – القوانين – الأعراف .... الخ) وذلك في تكامل ديايكتيكي لا انفصام فيه.
غير أن باحثنا النجار لم يلتفت إلى هذا المنهج الديالكتيكي الخصب، مكتفياً بتوظيف آلية "المخيال" للكشف – كما أشرنا – عن خصائص الخطاب الذكوريّ ، وليس عليه من بأس في هذا، فلكل باحث حقه في اختيار منهجه، وقد تأتي محاسبته نقدياً فيما بعد صدور الكتاب.
لا أريد أن استطرد في تلخيص هذا البحث الممتع، فليس هذا مجالَ تلخيصه، لكن يكفي أن أشير إلى حسن اختياره إلى نموذجيه الرئيسين: الخطاب الوعظي الهامشي في الثقافة الشعبية المعاصرة خاصة موضوعة الحجاب عند الشيوخ السعوديين، وتابعهم المصري عمرو خالد. ثم النموذج الثاني الذي هو قراءة نقدية لا غش فيها لكتاب الفقيه الشافعي (المصريّ أيضاً) بهاء الدين بن الشهاب الإبشيهي (ت 1446 ميلادي) ذلك الكتاب المعنون "المستطرف في كل فن مستظرف" الذي جمع فيه صاحبه موضوعات شتى ما بين آداب وعلوم لغوية، وأحاديث نبوية، وأمثال شعبية، فضلاً عن الحِكم والمواعظ والحكايات ... الخ
أما باحثنا فقد راح يستخلص من هذا الكتاب – العُمْدة في بابه – كل ما ضمنه الإبشيهي بين دفتيه من ظلم لجنس المرأة، ومن تحذير من طبيعتها السيئة!! انظر مثلاً إلى الحكاية التي أوردها الإبشيهي عن العابد الذي لم يعص ربه إلا مع امرأة، هي أيضاً لم تعص ربها إلا مع ذلك العابد ، بيد أن ملائكة الرحمة تستنقذ الرجل من غشيان جهنم لفعلة حسنة قام بها في حياته، بينما تصمت الحكاية عن مصير المرأة، وكأنها لم تأت فعلاً واحداً طيباً في حياتها يشفع لها عند الملائكة، فجهنم مآلها في المسكوت عنه، مثلها في ذلك مثل بنات جنسها الملعون!
وباحثنا هنا يعي أن اختيار الإبشيهي لقصص تدين النساء من ألف ليلة وليلة ومن العهد القديم، وحكايات الأعراب، ومرويات المؤرخين إنما كان اختياراً محكوماً بأيديولوجية الجماعة العربية – التي اخترقت عقول المصريين ذوى الحضارة وحولتهم إلى بدو أعراب – مما شوه صورة الأنثى في المخيال الاجتماعي لسبعة قرون تالية، وهو ما يلفتنا إلى ما يحدث الآن من إعادة إنتاج هذا الاختراق لمصر بواسطة الوهابيين الجدد.
هذا بحث لاشك في نبل غايته نجاعة وسائله، ولعلي لا أكون مغالياً حين أصفه بأنه واحد من الكتب العلمية القليلة التي تملك أن تغير أفكاراً خاطئة طالما رسخت، وطالما أضرت بالثقافة الوطنية سواء في عمقها التاريخي أو في تجلياتها المعاصرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ