موقعة ذات النقاب .. أهم من حرب 6 أكتوبر



سعد هجرس
2009 / 10 / 12

عندما تكون المعركة الأساسية – إن لم تكن الوحيدة – التى تهرول الأمة بأسرها لخوض غمارها بحماس منقطع النظير هى معركة "النقاب"، وهل هو "فرض" أم "فضيلة" أم "عادة" حسنة أو سيئة، مستحبة أو مرفوضة .. فهذه علامة على أننا أمة فاقدة الاتجاه والإرادة والعقل.
وهى كلها مؤشرات على أننا نعيش عصر الانحطاط الحضارى والتحلل الفكرى والتفسخ الاجتماعى والعدمية السياسية.
فبينما لا تهتز شعرة واحدة فى رءوسنا أمام التحديات الخارجية والداخلية الخطيرة التى تهدد وجودنا وبقاءنا وهويتنا وحاضرنا ومستقبلنا..
وبينما لا تستفزنا الأمراض القاتلة التى تهاجم مجتمعنا وتطعن عقله وقلبه وتزيده فقرا وبؤسا وأمية وجهلا وفسادا وظلما واستبداداً وتخلفا ..
ثم تغلى الدماء فى عروقنا اليوم و"نثور" ونغضب وندق طبول الحرب ونستأسد على بعضنا البعض، وليس على عدو خارجى، من أجل شيئين لا ثالث لهما هما كرة القدم والنقاب.. فلابد أن نفزع ونجزع ونضع أيدينا على قلوبنا ونعترف بأننا "أمة فى خطر".
وليس فى هذا أى مبالغة.. وإلا فليدنى أحد على مناسبة أخرى اجتمع فيها ملايين المصريين على قلب رجل واحد غير مباريات منتخبنا الوطنى فى كرة الكرم! وليدلنى أحد على قضية أخرى خلعت فيها النخبة المصرية رداء السلبية والخمول واللامبالاة والعزوف عن المشاركة غير قضية الحجاب أمس والنقاب اليوم؟!
حتى هذا الانشغال الجمعى بقضية مثل قضية النقاب، لا يتميز فقط بفقدان الحد الأدنى من الإدراك الصحيح للأولويات، وإنما يتميز أيضاً بالتعامل المتخلف مع هذه القضية القابعة فى ذيل الأولويات الحقيقية للأمة.
ونعنى بالتعامل المتخلف إهمال المعلومات الموثقة، وتشوشها، بل و"تزويرها" فى بعض الأحيان، ثم التعامل معها بصورة منافية للعلم والعقلانية.
وعلى سبيل المثال.. فإن مسألة النقاب – التى أصبحت حديث الساعة وموضوع النميمة فى المحافل العامة والخاصة بعد واقعة "ذات النقاب" تلميذة المدرسة الأزهرية مع فضيلة الأمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر محمد سيد طنطاوى – يتم تصويرها من جانب خصوم الشيخ طنطاوى باعتبارها مسألة تنتمى إلى جوهر الإسلام وصميم العقيدة الإسلامية. وحيث النقاب – وفقاً لهذا التصور – "زى إسلامى" يمثل "فرضاً" من فروض الإسلام، لا ينبغى الجدل بشأنه. ومن تسول له نفسه التجرؤ على هذه "الفريضة" فإنه يصبح فى زمرة الكفار والعياذ بالله!
ولست من أنصار الدخول فى جدل دينى من أى نوع، وبالذات حول مسائل "دنيوية" بحتة لا علاقة لها بأى دين سماوى أوغير سماوى، مثل كرافتة إسلامية، أو جورب بوذى، أو حذاء هندوسى، أو حزام بهائى.. فهذه كلها أشياء تصنعها الشعوب وتشكل جزءاً من ثقافتها المادية وتتطور مع الزمن وتتغير بتغير العصور وتناثر بالاحتكاك والتفاعل مع الثقافات والشعوب الأخرى. ولا علاقة للأديان بها.
وعلى سبيل المثال فإن المسلمين والكفار فى صدر الإسلام كانوا يلبسون نفس الزى، ونفس ما كان يرتديه بلال مؤذن الرسول كان يرتديه عدو الإسلام أبو لهب. ونساء قريش اللائى دخلن الإسلام كن يرتدين نفس الملابس التى ترتديها نساء قريش غير المسلمات. كما أن المسلمين والكفار فى ذلك العصر كانوا يرتدون نفس الملابس التى يرتديها يهود خيبر ويهود بنى قينقاع الذين يسكنون الجزيرة العربية.
يعنى .. الملبس مسألة دنيوية بحتة لا علاقة لها بالأديان.
والنقاب ليس استثناء من ذلك. فهو بالقطع ليس "اختراعا" إسلامياً وإنما هو هو زى تقود أصوله إلى ثقافات قديمة. وهناك دراسات عديدة مهمة – منها دراسة منجية السوائحى بجامعة الزيتونة – تؤكد بالدليل والبرهان أن ظاهرة حجب المرأة عن العيون حتى لا يراها إلا زوجها وأولادها وجدت منذ القديم عند اليونانيين، فمنعوها من ارتياد الأماكن العامة واعتبروها عورة. وهكذا ظهرت فكرة الحريم وحجب الزوجة عن العيون لأنها ملكية خاصة للزوج فلا تسوى بالملكية العامة من الجوارى والغوانى والبغايا منذ عصر هوميروس وهزيود. ووفقاً لتحليل عالم الانتروبولوجيا الأمريكى لويس مورجان فإن حجاب المرأة ونقابها فى العصر الأغريقى ؟؟ إلى أسباب اقتصادية صرف بدأت مع شيوع الملكية الخاصة، وعندما فكر الرجل فى أهمية عفة المرأة/ الزوجة ليضمن نقاوة سلالته من الأبناء. ولن يصل إلى هذا الهدف إلا بحجب الدماء الذى يلد النسل، وهى الزوجة، وعندها فقط يتأكد أن الأبناء من صلبه فيطمئن على من يرث من بعده. ولذلك أوجبوا عليه كعلامة على المرأة الحرة المتزوجة ملكية الرجل الخاصة. ولهذا كانت نساء اليونان تستعمل الخمار والنقاب إذا خرجت لتخفى وجهها من المارة.
وتمضى أستاذة جامعة الزيتونة لترصد قصة النقاب فى الديانة اليهودية لتؤكد أن العبرانيين عرفوا الحجاب والنقاب منذ عهد إبراهيم عليه السلام وانتشر بينهم فى أيام أنبيائهم جميعا وتواصل إلى ما بعد ظهور المسيحية. وهناك بالفعل مواضع كثيرة فى التوراه يأتى فيها ذكر النقابن منها مثلاً ما ورد فى نشيد الانشاد "ها أنت جميلة يا حبيبتى، ها أنت جميلة.. عيناك حمامتان تحت نقابك.. خدك كفلقة رمان تحت نقابك".
وإنطلاقاً من مثل هذه الآيات التوراتية الكثيرة فرضت الشريعة اليهودية على الزوجة قديماً أن تغطى رأسها وتستر كامل جسدها بملاءة عدا ثقبا واحدا تنظر من خلاله لترى الطريق . والأفضل لها أن لا تخرج من البيت أصلا.
كما أن المسيحيين القدماء منعوا المرأة من الخروج حاسرة الرأس دون نقاب. وإذا خالفت ذلك ذهبت إلى الكنيسة عارية الرأس تعاقب بقص شعرها حسبما جاء فى رسالة القديس بولس إلى أهل كورنثوس الذى يرى أن النقاب "شرف المرأة".
ومما سبق تخلص عالمة جامعة الزيتونة إلى أن اللباس الذى تفرضه جماعة معينة وتضع له مواصفات حسب هواها لتحجب المرأة جسداً وعقلاً وروحاً لا أصول له فى الإسلام وتعود أصوله إلى الثقافات القديمة كما أشرنا فى السطور السابقة.
***
وحتى فى الإسلام فإن هناك دراسات كثيرة تؤكد أن الحجاب لم يفرض على الجميع، بل قيل أن الخليفة عمر بن الخطاب رأى "أمة" – أى سيدة غير حرة – ترتدى الحجاب فضربها قائلاً " أوتتشبهين بالحرائر؟
بما يعنى أنه كان زيا "طبقياً" المقصود به تمييز "الحرائر" عن الإماء والجوارى.
فإذا كان الحجاب لم يفرض دينيا فما بالك بالنقاب؟
وفى هذا السياق يصبح الربط بين النقاب (والحجاب) وبين الدين ربطا متعسفاً بدليل ماسبق، كما يصبح الربط بينه وبين الفضيلة ربطا متعسفاً هو الأخر بدليل أن البلدان التى تفرض النقاب حالياً – بدعوى أنه فريضة دينية – لا تخلو من آفات اجتماعية منتشرة ومتفشية مثل زنى المحارم والأطفاء اللقطاء. بل إن مدينة مثل ظهران توجد بها وحدها ما يقرب من نصف مليون من بنات الليل!!
وبالمقابل فإن مجتمعنا المصرى يعتنقوا أغلبيته الإسلام منذ قرون طويلة ولم تكن امهاتنا وجداتنا يلبسن النقاب، ولم تكن بلدنا مرتعا للانحلال الخلقى بل تؤكد الدراسات الاجتماعية أن الاخلاق العامة كانت أفضل مما هى عليه الأن،وكانت العلاقة بين الطلبة والطالبات فى الجامعات التى لا تعرف الحجاب والنقاب أفضل مما هى عليه الآن رغم القشور التى تتسمح بالإسلام وفى ظلها تفشى الزواج العرفى وزواج "الفرند" فى هذه الجامعات المتأسلمة!!
وفى العقود والقرون السابقة التى عاش فيها المجتمع المصرى دون أن تملؤه هذه الهواجس عن النقاب والحجاب لم يكن أجدادنا وآباؤنا وجداتنا وأمهاتنا كفاراً أو منحرفات.
ولم يظهر هذا الزى إلا مؤخراً، بالتزامن مع ظواهر اجتماعية إقليمية ومحلية، ارتبطت من ناحية بالفورة النفطية الأولى والثانية، وموجات الهجرة المصرية إلى بلدان النفط، وعودة هؤلاء المصريين المهاجرين بالنترودولار والثقافة والعادات الخليجية، فى مناخ اجتماعى اختلف كثيراً بعد سياسة الانفتاح وانحسار الخطاب القومى والخطاب الليبرالى والخطاب اليسارى وتشجيع الدولة – فى عصر السادات بالذات – لخطاب الإسلام السياسى.
منذ ذلك الحين دأب تيار الإسلام السياسى على "أسلمة" المجتمع، ومحاولة هدم الثقافة السائدة واستبدالها بثقافة صحراوية حاول تسويقها باعتبارها ثقافة إسلامية. وكان الحجاب من مفرداتها الأساسية. وبعد نجاحه الكبير فى "تحجيب" مصر انتقل إلى النقاب خطوة خطوة، فبعد الحجاب البسيط جاء الحجاب المركب ثم الإسدال ثم الخمار.. ثم النقلة الكبرى إلى النقاب. حتى النقاب لم يكن الخطوة الخيرة. فبعد النقاب البسيط جاء النقاب المصحوب بالجوانتى، ثم النقاب المصحوب الجوانتى والنظارات التى تخفى العينين ثم جاء النقاب ذى العين الواحدة. وبعد أن تصور الجميع أن هذا النقاب ذات العين الواحدة هو نهاية المطاف ظهر الحجاب "الأعمى"، أى المصمت تماماً، والذى يلزم معه سحب المرأة من يدها حتى تتحسس طريقها بعد أن دخلت عصر الإظلام التام.
ومع هذا فإن من حق المرأة أن ترتدى ما تشاء، مادام ذلك بكامل حريتها ودون فرض من أحد.
لكن الخطورة هى أن تيار الإسلام السياسى استخدم هذه القشور بصورة مضرة ومؤذية جداً.
فهو – أولاً – يقوم بترويع المجتمع وإرهابى، فلا يكتفى بفرض الحجاب والنقاب على جزء متزايد من المصريات، وإنما يقوم بإرهاب غير المحجبات وغير المنقبات متهماً إياهن بمخالفة فرض من فروض الإسلام، ويتمادى فيتهم غير المحجبات وغير المنقبات بالانحراف والانحلال.
أى أنه يضرب الحرية الشخصية فى مقتل.
وهو – ثانيا – يستخدم هذه القشور المظهرية لتكريس الطائفية فى المجتمع إذ أصبح الحجاب، والنقاب، هوية تدل على المذهب والملة. أى أنه يضرب الوحدة الوطنية والهوية المصرية والدولة المدنية فى مقتل.
وهو – ثالثا – وبافتعاله المعارك حول هذه القشور المظهرية، وإنارته الجدل العقيم حولها، يشغل المجتمع ويشتت جهوده وطاقاته، ويحرف أنظاره عن التحديات الداخلية والخارجية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعرفية والاستراتيجية، التى تواجهنا.
أى أنه يضرب الأولويات الوطنية فى مقتل.
***
وأنا لا يعنينى أن ترتدى هذه السيدة أو تلك، حجاباً أو نقاباً، لهذا مجرد زى، وتلك حرية شخصية، نحترمها – بل وندافع عنها ضد أى عدوان بشرط عدم استخدامه كهوية طائفية او سلاحاً ضد حرية الآخرين – أو بالأحرى الأخريات – غير الراغبين فى ارتدائه، أو ستاراً للقيام بممارسات مضرة بالمجتمع.
ونحن نعلم أن "دفع المضرة مقدم على جلب المنفعة"، وإذا كان النقاب ليس "فرضاً من ناحية ولا "مرفوضاً" من الناحية الأخرى فإنه يجب على من ترتديه أن تطمئن المجتمع ولا تروعه. فمن حق الجهة الحكومية أو غير الحكومية التى تدخلها الأخت المنتقبة أن تعرف شخصيتها حفاظاً على الأمن، من حق الجامعة والمدرسة أن تكشف وجه الطالبة والأستاذ المنتقبة لتتأكد من هويتها، من حق المدينة الجامعية أن تفعل نفس الشئ.. حماية حتى للآداب العامة وعدم استخدام النقاب ستاراً لدخول مهاجع الفتيات لممارسة الرذيلة أو إقامة علاقات جنسية مع قاصرات.
وإذا كنا نرفض اعتداء أتباع تيار الإسلام السياسى على حرياتنا العامة والخاصة، فإنه من غير المنطق أن نعتدى نحن على حرية المناصرات لهذا التيار من المنتقبات، فالحرية لا تتجزأ.. لكن بشرط واحد هو : أنت حر ما لم تضر.
ورغم اننى لست من أنصار النقاب، ولا حتى الحجاب، ورغم أنى اعتقد أن هذه ليست مجرد أزياء برئية ومحتمشة، وإنما هى ملابس محملة برموز سياسية وفكرية تنطوى على قيم ذكورية سلبية وقمعية وعلى تكرمس لدونية المرأة وإرهاب المجتمع بأسره ومحاولة لتدمير الجولة المدنية ، رغم ذلك كله فإن النزاهة الفكرية تحول دون السقوط فى مستنقع خيانة مبادئ الحرية فيما يتعلق بقضية النقاب بالضوابط الأمنية المشار إليها.
فالحرية هى البوابة الرئيسية لمكافحة هذه الظاهرة السلبية.
لكن تبقى المواجهة الأهم.. هى إعادة تثقيف المجتمع الذى فشلت وزارة الثقافة ووزارة الإعلام والمؤسسات الدينية الرسمية وكافة مرافق التنشئة الاجتماعية – وفى مقدمتها المدرسة والجامعة – فى مواجهة وزارة ثقافة تيار الإسلام السياسى ورسبت أمامها فى الامتحان، نتيجة للفساد والتواطؤ والشيزوفرينيا الفكرية والجبن والتساند الوظيفى وربما أيضاً المصلحة المشتركة فى إيماء الناسى عن قضايا الاصلاح الدستورى والاقتصادى والاجتماعى ومسائل الحريات ومكافحة الفساد والفقر والتخلف.
فعندما تدور مجلة الاصلاح.. ويتحرك المجتمع إلى الامام.. ويعود الوعى إلى النخبة بالاولويات الصحيحة لجدول أعمال الأمة.. سيتراجع بالضرورة هذا الجدل العقيم حول النقاب وغيره من القضايا الوهمية التى لا تقدم.. وإنما تؤخر.