فتاة المراثي ..



امنة محمد باقر
2009 / 10 / 14

هذه القصة قد تكونوا رأيتم وسمعتم الالاف من امثالها بعدد الالاف من الارامل والثكالى في بلاد مابين النهرين ...
ان المسؤولية الانسانية ، تقتضي ان يكتب من كان له القابلية من امثالي على الوصول الى وسائل الاعلام ، الالكترونية على الاقل ، وان يؤرخ ويسجل ... تلك المعاناة التي اقترنت بالمرأة العراقية منذ حرب الثمانين او ما قبلها .. تحت ظل الانظمة الدكتاتورية .. يوم كان الشباب يساقون الى المشانق او الى المقابر .. وساحات الحرب ..والابتعاد عن واقع الحياة الى الخدمة العسكرية وحياة الجيش العراقي البائسة ...
كانت النساء ضحية غير مباشرة لتلك الخدمة الاجبارية .. تنتظر كل ام ابنها ليعود في اجازة .. الكل كان ينتظر .. حتى الاطفال الصغار ... كان التسريح قبل حرب الثمانين جميلا جدا .. في عام 79 على سبيل المثال..... يأتي الشاب الذي يتسرح بهدايا مختلفة للاطفال من ابناء العم والجيران .. ويكثر الملبس والجكليت .. والعصير ... وتكثر الاهازيج ويموج الناس في غمرة الفرح .. خلصوا من الجيش .. الله يخلصهم الى الابد .. ولكن خاب ظنهم ... شباب في عمر الورد 20 سنة .. ولكن جاءتهم حرب الغول .. حرب ايران .. الغول عادة لايتركهم في حالهم ..
وان كان الغول قد رحل عنا هذه الايام الى غير رجعة وشنق بمشنقته .. الا ان الاثار التي تركها لاتخمد نارها الى يوم يبعثون ... ترملت نساء واثكلت نساء .. واخريات في حالة نفسية يرثى لها ... قتله الله الف قتلة بمشانق جهنم واذاقه الموت غصة بعد غصة ... بعد تلكم الشنقة الشنيعة ...
من فتيات الموت قصة فتاة من مواليد 1966 على ما اذكر .. تسرح اخاها عام 79 .. ليزف الى الموت عام 82 بدلا من ان يتزوج .. كانت امه تعد لزواجه .. عمرها اليوم تقريبا هو ثلاث واربعون سنة .. ساعدها الله على معاناة ما بعد الاربعين ، كيف تكون المرأة وهي في تلكم السن ، وحيدة ترعى عائلة قتل 6 من ابناءها وعاش 6 .. فهي من العوائل الكبيرة التي دأب العراق على زخ نصفها الى الحروب .... تسمع تلك الفتاة الاف الكلمات القبيحة القاتلة ممن هم اترابها عن الزوج والاولاد .. الخ من خزعبلات وتفاهات تتفوه بها بعض النساء بطريقة تخالف الادب الرفيع ومكارم الاخلاق ، بل بخلاف المروءة التي لا يعرفنها ...ولسن من اهلها لكي نعاتبهن على عدم مراعاتها .. وتألف تلك الفتاة مجالس الرثاء .. أي شاب يموت يهيج فيها الحنين الى اخوانها الذين قتلوا في ما يسمى بالقادسية ... واهلها الذين ماتوا هما وغما بعد مقتل اولادهم ... او ما يسمى بالشهداء ..
انما اذكر امثال هذه القصص لكي اؤرخ لحقبة عاشتها نساءنا ولا من مجير يجيرهن ... ولا من مغيث يغيثهن .. وان يد الاله الطولى لا تستطيع لهن شئ .. سوى الرحمة .. التي لابد انها كانت هنالك .. على الاقل لازالت تملك عقلها ولم تجن .. وتلك حكمة كبيرة في محن كهذه .. وان الاله ليس له بعمل ايدينا من شئ .. وهو رب الاختيار .. حين جعلنا بين الامرين .. لا مسيرين تماما ولامخيرين في كل ما نريد .. ومنها حكمة الموت التي قهر بها عباده .. ولكن ليس كالموت الشنيع الذي حصد الالاف من الابرياء في ما يسمى بوادي الرافدين ....
وكذلك لكي اميز هذه النساء ، ولكي يكون لهن مكان بين الاخريات اللواتي يكتبون عنهن .. يكتبون قصص النساء السجينات مثلا .. وهم محقون .. في بلدن الكثير من القصص ... ولكن هذه فئة اخرى .. علينا ان نميزها ...
تعيش تلك المرأة لترى استشهاد اخويها الكبيرين في حرب الثمانين ، ترى جثث الشباب الحلوين واحدا تلو الاخر ، وترى موت امها وابيها حزنا عليهم ، ترى امها مريضة بين لحظة واخرى ، وهي التي دعت الله ان تتحول النقود التي يعطيها الغول المتوحش لعوائل الشهداء ، دعت ان تكون سما زعافا لها يقتلها بمرض ما ، ارادت بالحرف الواحد ان تكون تلك النقود مرضا لها ، وبالفعل لم تطل حياتها كثيرا ، فقد انتهت بنهاية الحرب ..
وتلك المرأة لم يكن ينقصها الجمال ، ولا المال ... كانت من اسرة في حالة اجتماعية جيدة قبل ان يهلكها الحصار .. وهي ذات قامة رشيقة وجميلة .. ووجه ذو ملامح متناسقة .. وانف دقيق .. وصاحبة ضحكة جميلة ... حاولت رغم كل مابها من اسى ان تستيعد بسمتها سنة بعد اخرى ... واخر سنة قبل ان يقف اخاها في باب الدار وتأتيه طلقة من الهواء ترديه صريعا .. قبل ذلك رأيتها ترتدي اساور ذهبية جميلة .. وتستعيد ضحكتها ... فقد بدأت تحضر مجالس الفرح .. وليس فقط مجالس العزاء .............. ولكن الدهر لا يهملها ولا يمهلها ابدا ... انها في عين القدر مذخورة لكافة مجالس العزاء ...
تعيش تلك الفتاة ليكون رد فعلها تجاه ماحولها ومن حولها ردا عنيفا صارخا ، تعيش لتطبخ وتكنس ، وترعى اسرة من رجال لم يطيقوا موت اربعة من اهلهم ، واختها الوحيدة التي تزوجت ماتت بالسرطان وتركت اربع ايتام ، ثم تزوج زوجها .. تعيش تلك البنت لترى مقتل الخيرة من اهلها واحدا تلو الاخر في فترة ثمان سنوات ، سبع سنين عجاف كسنين مصر قبل ان يحكمها يوسف ...
تعيش حالة نفسية من القهر والحرمان من فقد الام والاب والاخوة والاخت ، بيت تراه يذبل يوما بعد يوم، وقبل رحيل امها ، يقومون كعادتهم بزيارة النجف التي صارت دارا لهم ، واعتادوا كل عيد على زيارة قبور الاحبة ، لتتعرض لحادث سيارة يجعلها معوقة في فترة كان يجب ان تتزوج فيها ... وتصبح الازمة ازمتان .. لتعيش في دهاليز المستشفى وهي عز الشباب .. وبعدها تشفى بعد سنة لترى موت امها امام عينيها ...
اي نوع من الخرافات هذا ... هنالك خرافة ارى العن من هذه عن فتاة قتلوا اثنين من اخوتها ثم هجروا عائلتها ثم قتلوا زوجها في حادث ارهابي وقطعوه اوصالا اوصالا وارسلوه لها في بطانية ...لتعيش في مخيم النازحين .. ولديها طفلة عمرها سنتان .. تموت الطفلة ايضا ثم يطردها اقاربها من مخيم النازحين لانها معوقة ولايحتملون تكاليف معيشتها .. اي قدر اهوج هذا ........ولكنه القدر الذي يجب ان يأتي اليه الساكنون في المناطق الخضراوات .... لكي يروا الحقيقة التي لم تألفها اعينهم ..... ليس فيها اي لون اخضر ....
اعود الى قصة الفتاة الاولى لان الحديث ذو شجون ... تأتي الحكومة الخضراء لكي تقطع راتب التقاعد الذي كان مخصصا لوالديها ... وتعيش ازمة مالية لايعلم بها الا الله ... وذلك لان الحكومة الجديدة في الخضراء .. لاتريد ان تكون افضل من حكومة الغول .. فتقطع رواتب الايتام دون دراسة حالة ، دون معرفة بما جرى على كل عائلة ، وكيف ان تلك الفتاة هي بلا معيل ، ولازوج .. وبذلت شبابها في سبيل اخوتها .. وكان اختيارا اجباريا خاطئا لان اخوتها وهي لم يستطيعوا ان يتحملوا ازمة الحصار ولم يستطيعوا ... ان يحفظوا حتى ارواحهم في الحرب الاخيرة .. اخاهم يقف في باب الدار لكي يستلم طلقة ترديه قتيلا في الحال ... لايعلم من اين مصدرها ...
لازالت تلك الفتاة ترتاد مجالس الرثاء .. ومجالس العزاء .. لانها وحدها فتاة المراثي ..
كأن الله قد قدر ان يعيش بعض الناس في دنيانا هذه كي يلطموا ويحضروا المراثي ...
كأن عدد الجالسين في مجلس العزاء .. لايكتمل الا ان كملته بالعدد .. فتاة المراثي ...........