دعوة لعدم التضامن مع نوال السعداوي!



شاكر النابلسي
2004 / 6 / 2

-1-

عادت نوال السعداوي من جديد إلى الأضواء عندما منع الأزهر بالأمس روايتها(سقوط الإمام) التي سبق وصدرت منذ عشرين عاماً، والتي كتبتها عن عهد أنور السادات. ورغم أن الرواية لا علاقة لها بالدين، وليس فيها ما يُسيء إلى الإسلام إلا أن الأزهر بشيوخه المفزوعين المذعورين، أصبح وهو المقروص من الثعابين العَلمانيين – كما يردد الأشياخ - يخاف من الحبال.

فالملدوغ يخاف من الحبل، كما يقولون.

من الواضح أن عنوان الرواية (سقوط الإمام) عنوان مثير، جاء للإثارة وليس للفهم، كما هي عادة نوال السعداوي في معظم ما كتبت. وعندما سُئلت السعداوي عن سبب اختيار هذا العنوان المثير، أجابت بأن السادات كان يعتبر نفسه إماماً للمسلمين، ومن هنا جاء عنوان هذه الرواية (سقوط الإمام). ولكن المعروف عن السادات عكس ذلك. فالسادات لم يعلن عن نفسه في مرة من المرات بأنه إمام للمسلمين، أو أمير للمؤمنين، ولم يدعُ إلى تنصيبه خليفة للمسلمين كما فعل الملك فؤاد الأول في 1924 بعد سقوط الخلافة العثمانية. بل كان السادات حاكماً علمانياً منفتحاً على العلمانية. وكان قليل التدين في داخله وحياته الخاصة كما يقول عنه حسنين هيكل في (خريف الغضب) رغم أنه أعلن عن جمهورية "العلم والإيمان" لأغراض سياسية معينة، ولدحر انصار الناصرية في مصر الذين كانوا يهددون مستقبل حكمه، ويحولوا بينه وبين عقد معاهدة السلام في 1979 التي جلبت لمصر الخير، وأعادت لها الأرض، ووفرت لها الاستقرار، ودرّت عليها المساعدات الأجنبية، والاستثمارات العربية والغربية.. الخ.



-2-

لقد تعوّد بعض الشعراء العرب وبعض الروائيين العرب إلى اقحام الدين بشكل بذيء وغير مُبرر في أعمالهم الابداعية، ليس عن موقف ما ضد الدين، وليس دفاعاً عن قضية ما، ولكن سعياً لإثارة رجال الدين والمؤسسات الدينية التي بإثارتها يُثار الإعلام العربي، وتنتشر الفضائح، وتشتهر هذه الأسماء، وهذه الأعمال الأدبية.

وأصبح اقحام الدين بشكل أو بآخر في الأعمال الأدبية هو جواز السفر، وبطاقة المرور إلى أضواء الشهرة. ولقد كانت نوال السعداوي واحدة من الروائيات العربيات الفاشلات روائياً من الناحية الفنية، المشهورات من خلال تعرضهن المبتذل لعدة رموز دينية في كتاباتها. وتعرُّض السعداوي للدين ليس عن علم ومعرفة، ولكنه عن جهل، إلى درجة أنني شاهدت لها مقابلة تلفزيونية، لم تستطع فيها قراءة آية قرآنية واحدة قراءة سليمة، مما ينمُّ عن جهل فيما تقول وفيما تدّعي.



-3-

ومن خلال هذا المنظور، فأنا ضد دعوة التضامن مع نوال السعداوي، التي اقحمت كلمة (الإمام) في عنوان روايتها. وبدلاً من يكون عنوان الرواية (سقوط الرئيس) أو (سقوط السادات) قالت (سقوط الإمام) لكي تستدرج الأزهر وأشياخه إلى ساحة الفضائح الثقافية والدينية. وقد نجحت السعداوي في ذلك، وهي التي تُوصف بسيدة الاثارة والكتابة الفضحائية.

رواية (سقوط الإمام) – لمن قرأها – رواية تافهة في مبناها ومعناها. ولا تختلف عن روايات السعداوي المليئة بالشعارات السياسية والاجتماعية المهيّجة والمثيرة اثارة رخيصة. والتي هي بحد ذاتها خطب منبرية، تُنبيء عن ضحالة ثقافة السعداوي وسطحيتها، سواء في السياسة، أو في الدين، أو في التاريخ، أو في الاجتماع.

ميزة السعداوي الأولى والأخيرة، ولا ميزة غيرها، هي شجاعتها على فضح المسكوت عنه من موقعها كطبيبة. ولكن ليس المهم هنا أن نفضح المسكوت عنه، ولكن المهم كيف نفضحه، وكيف نقدمه للناس. أما فن الإثارة وفن الفضائح الثقافية، فهو أقرب إلى الرقص الشرقي وهزِّ البطون، منه إلى الحكمة وهزِّ العقول، كما هزها لطفي السيد وقاسم أمين وطه حسين وجيل التنويريين في النصف الأول من القرن العشرين.



-4-

المفكر العلماني والناقد الأدبي السوري جورج طرابيشي كتب عن نوال السعداوي كتابه المهم (انثى ضد الأنوثة) قال فيه إن السعداوي أنثى تعادي الأنوثة في كتاباتها. وأنها امرأة مثيرة أكثر منها امرأة تستدعي التفكير والتأمل فيما تقوله. وهذا صحيح.

فالسعداوي في كتبها العربية وفي كتبها المترجمة إلى لغات عدة، سعت وراء الإثارة أكثر من سعيها إلى بناء خطاب عربي فكري نسوي واضح المعالم. وما قالته في كتبها المختلفة مثل: (المرأة والجنس) ، و (الأنثى هي الأصل) ، و (الرجل والجنس) ، و (والمرأة والصراع النفسي) و (الوجه العاري للمرأة العربية) وغيرها من الكتب والروايات، يندرج تحت عنوان الاثارة أكثر ما يندرج تحت تأسيس خطاب عربي نسوي عقلاني واضح. والدليل على ذلك، أن هناك كتباً فكرية مهمة صدرت عن المرأة العربية، ولم تُمنع من قبل أشياخ الأزهر، أو من قبل أية مؤسسة دينية أخرى، ما عدا المؤسسات الدينية المتشددة إلى درجة التزمت غير المعقول في الخليج العربي.

ومن هذه الكتب المهمة التي لم تُثر عواصف التشنج والشهرة الرخيصة، وإنما دعت العقل إلى التفكير والتأمل والعمل الجاد من أجل خلاص المرأة من الطغيان الذي هي فيه والاستبداد الذكوري الذي تعاني منه، كتاب نصر حامد أبو زيد (المرأة في خطاب الأزمة) وهو كتاب على صغره (135 صفحة) يعد أهم بكثير من معظم ما كتبته نوال السعداوي عبر ألف صفحة من مجلدها الضخم الذي صدر عام 1986 تحت عنوان (دراسات عن المرأة والرجل في المجتمع العربي).

كذلك، فإن كتاب خليل أحمد خليل (المرأة العربية وقضايا التغيير، لحث اجتماعي في تاريخ القهر النسائي، 1972) يُعد من الكتب المهمة، والأكثر أهمية من معظم ما كتبته نوال السعداوي. وكتاب حياة الريس (جسد المرأة: من سلطة الانس إلى سلطة الجان) وهو كتاب صغير أيضاً (140 صفحة) يلخص بموضوعية هادئة دون اثارة أو تشنج، كتشنج المشاهدين للرقص الشرقي والطبلة المصاحبة له، معظم ما قالته نوال السعداوي في كتاباتها وفي رواياتها الراقصة المُطبّلة المُزمرة.

وكتاب فاطمة المرنيسي (الجنس كهندسة اجتماعية، 1996) كان أكثر أهمية من معظم ما كتبته نوال السعداوي كذلك، من حيث شرحه التاريخي الهاديء للتصوّر الإسلامي لحياة جنسية فعالة لدى المرأة. ومن حيث حديثه عن الرقابة على حياة المرأة الجنسية في الهندسة الاجتماعية، وتاريخ الحياة الجنسية العربية في الجاهلية والإسلام والعصر الحديث.. الخ.

وكتاب محمد اللبواني (الحب والجنس عند السلفية والامبرالية، 1994) من الكتب العلمية الهادئة المفضلة على معظم كتب نوال السعداوي. وهو كتاب صغير ايضاً (110 صفحات) ويتحدث عن التكنولوجيا الجنسية والثقافة الجنسية المعاصرة، وعن الفيزيولوجيا النفسية والعقلية.

وغادة السمّان – الصنو الشامي لنوال السعداوي - في كتاباتها الجادة والرزينة عن المرأة، كانت أكثر جدارة من نوال السعداوي بالشهرة، لو أنها استعملت طريقة نوال السعداوي في الكتابة على ايقاع الطبلة الشعبية الصارخ المثير للعواطف، أكثر من استنهاضه للعقل والتفكير.

ورغم صدور كل هذا الكتب وكتب أخرى كثيرة عن المرأة العربية وموقف الدين منها، لم يقم الأزهر وأشياخه بمنع أي كتاب منها، وهذا لا يعني دفاعنا عن الأزهر وأشياخه ورجال المؤسسات الدينية الأخرى في العالم العربي والإسلامي الذين يقومون بمنع الكتب، ولعب دور البوليس الثقافي الكريه. فنحن ضد الرقابة بكافة صورها وأشكالها، وضد الوصاية على عقل وذوق وفهم القارئ والمتلقي العربي عموماً. ولعلي كنت واحداً من الكتاب الذين اكتووا بنار الرقابة. فمُنعت كثير من كتبي في كثير من البلاد العربية. وكان آخرها كتاب (الشارع العربي) و (صعود المجتمع العسكري العربي) .



-5-

لقد كان كل هؤلاء الكتاب الذين كتبوا عن مشاكل المرأة العربية، يكتبون عن المرأة العربية على ايقاع الناي والقيثار والعود الهادئ الداعي إلى التأمل والتفكر. في حين أن نوال السعداوي كانت تكتب على ايقاع الطبلة المصرية المشهورة بالإثارة والضجيج والتشنج إلى حد صمِّ الآذان والعقول.

ولقد كان في الغرب نساء دافعن عن حقوق المرأة، وكشفن المستور والمسكوت عنه في اضطهاد المرأة وطغيان المجتمع الأبوي الذكور عليها وحرمانها من العلم والعمل والكثير من حقوقها، وكتبن الكتب الكثيرة والدراسات العلمية العميقة كجزيل حلمي، وجرمن غرير، وكيت ميليت، وشولاميت فايرستون، وآني وآن، وسيمون دي بوفوار وغيرهن، فلم يُثرن زوابع وتشنجات ورقص على الطبلة، كما فعلت نوال السعداوي في الماضي والحاضر.



-6-

الأزهر وأشياخ الأزهر يرتكبون كل يوم أخطاء فادحة في حق الأزهر، وفي حق أنفسهم، وفي حق الحرية الفكرية والسياسية في الإسلام، وفي حق الثقافة العربية، عندما يقومون بمنع كتاب ما، أو رواية ما، أو ديوان شعر ما. في الوقت الذي كان فيه الإسلام وما زال، دين الحرية الفكرية، والحرية السياسية (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) و (قد تبين الرُشد من الغيّ) .. الخ. ولكن يبدو أن رجال الدين في المشرق والمغرب العربي، قد تحولوا إلى ساسة دينيين يقيسون الثقافة بمقاييس سياسية، قبل قياسها بالمقاييس الدينية الخالصة.

ولعل هذا ما تمَّ مع رواية السعداوي (سقوط الإمام) ، التي لم تُمنع لأسباب دينية، بقدر ما مُنعت لأسباب سياسية. وتلك حال تنساق على كثير من الأعمال الثقافية، ومنها المثال البارز في منع أغاني الشيخ إمام عيسى حتى الآن، والتي هاجمت عهد السادات وسياسته. وكان الأزهر في معظم أيامه هو العصا الدينية التي تستخدمها السلطة السياسية لجلد معارضيها باسم الدين، وباسم رجاله الموظفين.

ودعوة عدم التضامن هذه مع نوال السعداوي، هي دعوة عدم التضامن مع الكتابة الرخيصة، والكتابة المتشنّجة، والكتابة الصارخة صراخ الطبلات العربية المزعجة، والكتابة التي لا تريد الافهام، بقدر ما تريد الاثارة، والكتابة التي هي أشبه بالرقص الشرقي وهزِّ البطون المثير لاعصاب المراهقين والمحرومين.

وهذه الدعوة لعدم التضامن مع نوال السعداوي، ليست دعوة تأييد للأزهر ولأشياخ الأزهر الذين هم على باطل كبير وعظيم، في منعهم لرواية (سقوط الإمام) ، وفي منعهم لأية كلمة عربية واحدة من أن تقال، حتى ولو كانت كفراً.

[email protected]