النخبة أمام المرآة II و III



أحمد الخمسي
2010 / 1 / 21

إن توجيه الاختيارات لتصويب الرصيد المتوفر نحو تحول في التراكم البدائي للمال والمعرفة وكل القيم المادية، بجدلية قلب التربة عبر المساءلة الهادفة إلى المصالحة، تصويب الاختيارات إما أن يكون في المحتوى الجوهري، أو يكون مجرد نقط مرتبة في جدول أعمال الدولة لربح الوقت من طرف ذوي النفوذ في المال والسلطة.
فقد احتقنت التجربة الخمسينية المنتهية بسبب مركزيتها الشديدة بل والزائدة عن اللزوم بل وبل الضاغطة على النفوس، في كيان ديمغرافي صغير جدا لا يزيد عن 35 مليون نسمة، نصف ما يوجد في مصر أو إيران أو تركيا. وفي كيان ترابي تقلص إلى أقل من الثلث من مساحته خلال الأجيال الستة الأخيرة (1830-2010) بالأحرى أن تنحدث عن هذه الأمثلة أو أن نتوق إلى الاحتكام إلى تجارب مثل أندونيسيا أو البرازيل أو المكسيك، أي البلدان الصاعدة التي يفوق عدد سكانها 100 مليون نسمة بل 250 مليون وآلاف الجزر والحركات الانفصالية المتعددة والاثنيات بالمآت واللغات والأديان. من هذه الزاوية يجب على نخبنا الحاكمة أن ترى نفسها في المرايا من كل جانب لتستعيد الفكرة الواقعية عن منجزاتها المتواضعة. إن الطبقة السياسية التي تتبجح بعراقتها وكلاسيكيتها في السلطة والجاه والخبرة والاطلاع بالضبط هي المسؤولة عن التناقض بين النرجسية المضاربة وحالة الضعف المخجل.
إن توزيع المسؤوليات حول الرصيد السابق المحصور، كما جاء في التقرير الخمسيني (1955- 2005)، ينحصر في طرفي النخبة العالمية الممثلة في النخبة الفرنسية التي ادعت أنها ذات رسالة حضارية تركت معها الكتلة الديمغرافية بعيدة عن التحديث وعن الدمقرطة. ثم النخبة المحلية التي استعادت السلطة السياسية والمالية والتي ركزت على الإمساك بكل تلابيب السلطة وإهمال ما تبقى من تعميم التعليم والصحة والشغل والبنيات التحتية الضرورية لاقتصاد منتج حد أدنى وثوابت ثقافة عصرية تحمي المجتمع من التقهقر والجمود.
وبسبب الانشغال من طرف النخب بصدد هدفين اثنين لا ثالث لهما: جمع المال والهيمنة على مراكز القرار، بقي الشعب بعد نصف قرن يتهجا الحروف الأولى للحداثة والديمقراطية والتنمية. يمكن القول ، إن مرحلة الحرب الباردة شكلت أرضية كونية لتركيز جهود النخب في الوحدات السياسية للدول على السلطة.
ولأن الثورة الروسية امتدت فوق أراضي ومجموعات بشرية فوق طاقتها، وبسبب السقف الاشتراكي الأعلى على المستوى الطموح والمهام، وبسبب تراكم المهام ما قبل الرأسمالية وما بعدها، وبسبب التقدم الهائل غير المقارن للرأسمالية الغربية على ما دونها، فقد كان الصراع حادا خلال مرحلة الحرب الباردة. تراجعت عبرها القيادة السياسية السوفياتية إلى نخبة شائخة بيروقراطية شديدة التمركز في نظام يدعي أنه فيدرالي ديمقراطي.
III
رغم ذلك، ومنذ العشرية الأخيرة، ولما دخل مصطلح الحقل، بدل الفضاء، في قاموس الثقافة السياسية، حط العقل السياسي المغربي رجليه على الأرض. وبدأ يميز بعينين فاحصتين ما كان لا يستطيع أن يراه سوى في السماء، نافرا كالحصان نحو السلطة دائما وأبدا، مضبّبا ًبلا انسجام بين المختبر العلمي ومركز القرار السياسي. فكانت الحركات الاجتماعية تفيض بالحماس لتتساقط من بعد في براثن الأخطاء.
أما اليوم، وانطلاقا من استحضار الذاكرة كمرآة خلفية، واعتبارا للأولويات التي تقضي ربط المغرب بصلاته الضرورية مع العصر. مع استعمال مبدأ الاعتراف المتبادل. ثم حصر أربعة حقول: الدين، النساء، الأمازيغية، الجهة أو التنوع من زاوية ترابية والمسافة بالقرب أو البعد مع النظام السياسي.
إن اللجنة الاستشارية للجهوية اليوم أمام مهام أكبر بكثير من رصيد كل عضو فيها بمفرده وببعد موجز سيرته كمهني. إن أعضاء اللجنة تحولوا بمجرد التعيين إلى نواة سياسية مسؤولة على وضع الحيوان المنوي للتاريخ في بويضة رحم الكينونة المغربية. أما إذا تصرفوا كأعوان في خدمة الأعيان. فلسوف يفشلوا الإرادة التي خطت الدولة الخطوة الأولى عبرها من خلال التصور الموجه الجاهز منذ 3 يناير 2010. وهم من خلال التجربة، كل واحد من زاوية مسيرته المهنية ذوي معادن أصيلة قوية الإرادة والمعرفة والمعاملة ومسالك الحلول في التضاريس الصعبة.
وبالنظر إلى التحلل الذي عرفته الحالة السياسية الراهنة، عبر الترحال والتحالفات وتجوف البرامج وتشابه الخطاب حد الاشمئزاز والذهول أيضا. لا بد أن تكون الدولة عازمة على إجراء تحول بنيوي نوعي في توزيع السلطات المالية والإدارية والتنظيمية والتشريعية والتنفيذية من المركز إلى الجهات. مع التفاوت والتنوع في مسالك وحجم الاختصاصات بين ثلاث أنواع من الجهات: الجهات البالغة من التذمر حد بروز الاتجاه السلبي النقيض نحو الانفصال، والجهات الناقمة المغبونة المتطلعة إلى رد اعتبار جماعي عبر التنظيم البنكي والجبائي والتعليمي والثقافي، والجهات المندمجة في تجربة السلطة والحكم. والأمثلة واضحة بين الصراء في الحالة الأولى والريف في الحالة الثانية والواصم التاريخية وأحوازها في الحالة الثالثة.
ألا يستحق تتويج التغيير المأمول تعديلا دستوريا, حتى نمارس السياسة أكثر من الكلام وندخل عتبة التحديث والدمقرطة؟