العنف ضدّ النّساء في العالم العربيّ



رجاء بن سلامة
2004 / 7 / 9

عندما تكون "الخصوصيّات" قاتلة عندما نسمّي قوانين الغاب "ثوابت ومقدّسات"

"في دورة "اللّجنة المعنيّة بوضع المرأة" التّابعة للأمم المتّحدة، التي عقدت في مارس/آذار 2003 (الدّورة السّابعة والأربعون)، لم يتمكّن مندوبو الحكومات لأوّل مرّة من الوصول إلى الإجماع على "النّتائج المتّفق عليها" لهذا التّجمّع الحكوميّ. وكانت المسألة التي عرقلت الوصول إلى هذا الإجماع هي الخلاف على الصّيغة المستخدمة في التّعبير عن التزام الهيئات الحكوميّة الدّوليّة بوضع نهاية للعنف ضدّ المرأة. ووصف أحد المراقبين الاجتماع قائلا: قبل نصف ساعة فقط من انتهاء الدّورة التي استمرّت 15 يوما وقف ممثّل إيران، يؤيّده مندوبا مصر والسّودان، ليسجّل اعتراض حكومته على الفقرة (صفر) التي تنصّ على أنّه ينبغي للدّول أن تدين العنف ضدّ المرأة وأن لا تتذرّع بأيّ عرف أو تقليد أو اعتبارات دينيّة للتّنصّل من التزامها بالقضاء عليه."(1)

هذا التّحفّظ على إدانة العنف صدّ المرأة انفردت به إذن بعض الدّول الإسلاميّة والعربيّة، غيرة منها على الأعراف والتّقاليد والاعتبارات الدّينيّة التي تعدّ "ثوابت" و"خصوصيّات" حتّى وإن كانت تبرّر أقسى مظاهر العنف ضدّ النّساء. فهل سنكون، بحبّنا للعنف ورفضنا إدانته، هل سنكون همج العالم في القرن الحادي والعشرين؟ أيّ خصوصيّات ثقافيّة يمكن أن نتمسّك بها إذا كانت هذه الخصوصيّات تشدّنا إلى الظّلم والقسوة وتحول دون إسهامنا في الحركة الإنسانيّة نحو المزيد من المساواة، والمزيد من الرّحمة، والمزيد من الحرّيّة؟



لا شكّ أنّ العنف الجسميّ والنّفسيّ والجنسيّ ضدّ المرأة منتشر في كلّ أنحاء العالم، تستوي في ذلك البلدان المتقدّمة والبلدان النّامية، ولكنّ ما تختلف فيه المجتمعات والحكومات هو:
- مدى وعيها وتوعيتها بالظّاهرة ومدى فكّها لجدار الصّمت حولها؛
- مدى إنشائها للسّياسات والممارسات ومدى سنّها للقوانين التي تحمي النّساء من العنف أو تنتصف للنّساء المعنّفات وتقاضي معنّفيهنّ؛
- مدى إيجادها للهياكل التي تؤطّر ضحايا العنف، وتعيد إليهم القدرة على الكلام والتّفكير، وتعيد تأهيلهم وتجبر خسائرهم.

ولكنّ المجتمعات تختلف أيضا في نقطة أساسيّة هي مدى إدانتها للعنف أو تبريرها إيّاه باسم مبادئ رمزيّة مستمدّة من الدّين أو من العادات والتّقاليد، كما تختلف في الأشكال الثّقافيّة التي يتّخذها هذا العنف. فالعنف يشتدّ عندما يمارس باسم مبدأ رمزيّ يعتبر أسمى من ممارس العنف ومن ضحيّته معا، وعندما يفرض نفسه على الجميع. ولعلّ أدبيّات حقوق الإنسان لا تميّز بما فيه الكفاية بين عنف تلقائيّ يمارسه المعتدي لأنّه يستسلم إلى الغضب أو يلبّي حاجته الجنسيّة أو يعتبر نفسه في وضعيّة تمكّنه من استعمال القوّة الجسديّة لردّ الفعل، وبين عنف ثقافيّ يمارس باسم مبدإ ما، وله مبرّراته الآتية من عمق التّاريخ. هناك فارق مثلا بين الاغتصاب وبين تشويه الأعضاء الجنسيّة للمرأة الذي يسمّى "ختان البنات" أو "الخفاض". فالمغتصب يرتكب جريمة عمياء ربّما اعتذر عنها إذا عاد إليه وعيه، أمّا المرأة الخاتنة أو "المطهّرة"، فهي لا تعدو أن تكون طرفا فاعلا في ثقافة تعتبر أنّ قطع جزء أو أجزاء من أعضاء المرأة الجنسيّة أمر ضروريّ لـ"تعديل الشّهوة"، وتظنّ أنّ هذا القطع من تعاليم الإسلام الضّروريّة. ليس الختان أكثر خطورة من الاغتصاب الذي تميل المجموعة الدّوليّة اليوم إلى اعتباره جريمة ضدّ الإنسانيّة (2) ، وليس أقلّ تسبّبا في الألم المستمرّ الطّويل الذي يعبّر عنه بـ"المعاناة" في الإعلان العالميّ للقضاء على العنف ضدّ المرأة (الذي تمّ تبنّيه سنة 1993)، ولكنّ المغتصب يمكن أن يعاقب كفرد، أمّا الفتاة المختونة التي ستجرّ وراءها آلام جرحها الرّمزيّ طيلة حياتها فلا أحد ينتصف لها في ظلّ أنظمة لا تجرّم فعل الختان ولا تمنعه أو لا تنجح في منعه نتيجة مجموعات الضّغط المحافظة. بل ربّما أعادت المختون إنتاج هذا العنف وأخضعت ابنتها إليه، ظنّا منها أن لا مفرّ من الختان.
هذا العنف الثّقافيّ هو الذي نجد له صدى في المادّة الرّابعة من "الإعلان العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة" بآليات القضاء عليه، وهي تنصّ على ما يلي: " على الدول إدانة العنف ضد المرأة ولا يجوز الاستشهاد بأي عادات أو تقاليد دينية لتجنب التزاماتها فيما يتعلق بالقضاء على العنف. وعلى الدول اتباع سياسة القضاء على العنف ضد المرأة مستعملة بذلك كل الطرق والوسائل المناسبة وبدون أي تأخير ... "
تتوقّع هذه المادّة العنف الذي يتمّ باسم مبدإ رمزيّ ما، وتدرك عنف هذا العنف ورسوخه، ولذلك فإنّها تؤسّس مبدأ عدم إمكان التّحفّظ على إدانة العنف ضدّ المرأة، ولكنّ مبدأ عدم التّحفّظ هذا، تتحفّظ عليه كما رأينا بعض الدّول العربيّة والإسلاميّة.
هذا العنف الثّقافيّ هو من باب العنف "الرّمزيّ" الهادئ اللامرئيّ اللامحسوس حتّى بالنّسبة إلى ضحاياه"، ويتمثّل في أن تشترك الضّحيّة وجلاّدها في نفس التّصوّرات عن العالم ونفس المقولات التّصنيفيّة، وأن يعتبرا معا بنى الهيمنة من المسلّمات والثّوابت كما يقول بورديو. أشدّ أنواع العنف ضدّ المرأة العنف الثّقافيّ المقنّن العتيق الذي تعود ممارساته إلى مئات السّنين إن لم نقل آلافها. أشدّ أنواع العنف الثّقافيّ هو ذلك العنف الرّمزيّ الذي يبدو بديهيّا ويفرض نفسه على الضّحيّة والجلاّد والقاضي، ويقول عن نفسه إنّه ليس عنفا.



1/ العنف والتّمييز
إنّ كلّ عنف ضدّ المرأة يتضمّن بالضّرورة تمييزا، وهذا ما تدلّ عليه عبارة "على أساس الجنس" الواردة في تعريف العنف بالإعلان العالميّ المذكور، فالعنف ضدّ المرأة هو "أي فعل عنيف قائم على أساس الجنس ينجم عنه أو يحتمل أن ينجم عنه أذى أو معاناة بدنية أو جنسية أو نفسية للمرأة بما في ذلك التهديد باقتراف مثل هذا الفعل أو الإكراه أو الحرمان التعسفي من الحرية سواء أوقع ذلك في الحياة العامة أم الخاصة."
فالمرأة تستهدف بالعنف باعتبارها أنثى لا باعتبارها إنسانا أو مواطنة أو غير ذلك. يتمّ تعنيف المرأة على أساس أنّها كائن من نوع خاصّ، أو كائن مؤذ أو مصدر فتنة للرّجل، وهناك شتيمة شائعة تكون موضوع عنف لفظيّ أو تكون مصاحبة للعنف الجسديّ تدلّ على هذا، وتتمثّل في نعت المرأة بأنّها مومس تبيع جسدها. بل إنّ الشّتائم الموجّهة للرّجال هي نفسها تحمل نفس التّمييز ضدّ النّساء، فالرّجل في مجتمعاتنا يشتم بأنّه "مخنّث" ونسوانيّ ومأبون...
فالصّلة بين العنف والتّمييز أساسيّة، ولها وجوه تراكب وتراتب نجملها في ما يلي:
-أفعال العنف ضدّ المرأة تتضمّن تمييزا واحتقارا للمرأة.
-التّمييز يؤدّي إلى العنف، ففي مبدأ طاعة الزّوجة زوجها الذي تنصّ عليه الكثير من القوانين العربيّة ما يسوّغ العنف الزّوجيّ ويزيد في تأجيجه، وفي تخفيف العقاب على مرتكب "جريمة الشّرف" ما يبرّر للعنف القاتل المسلّط على الفتيات والنّساء ويشجّع على ارتكابه.
-العنف يدعم التّمييز، فالكثير من الرّجال ارباب الأسر يستعملون العنف الجسديّ لفرض الأدوار التّقليديّة النّمطيّة على النّساء ولتقييد حركاتهنّ وعلاقاتهنّ.
فكما تتحفّظ بعض الدّول العربيّة على إدانة العنف ضدّ المرأة، تتحفّظ كلّ الدّول العربيّة كما هو معلوم، وبدرجات متفاوتة على "اتّفاقيّة مناهضة جميع أشكال التّمييز ضدّ المرأة" على نحو يلغي أحيانا محتوى الاتّفاقيّة، وهو ما يدلّ على أنّ هذه البلدان لا تتوفّر فيها المساواة في القانون. ويمكن اعتبار التّمييز ذاته عنفا يتمّ باسم مبادئ رمزيّة أيضا، وهو عنف بنيويّ لا ينبع من أفراد بل من بنى اجتماعيّة وقانونيّة تتبنّاها الأفراد والمجموعات، وهو عنف هادئ يعمل في صمت، ولكنّه يعمل باستمرار، فهو كالطّاحونة التي تسحق الأفراد وتحدّ من مجال توقها وآفاق حرّيّتها. فالعنف ضدّ النّساء، وخلافا لبعض التّعريفات المعتمدة لدى بعض النّاشطين، ليس فقط فعلا لااجتماعيّا منافيا للأخلاق السّائدة، بل قد يكون فعلا مغرقا في الاجتماعيّة وفي الانسجام مع الأخلاق السّائدة.
فجعل الطّلاق أمرا يقرّره الرّجل وحده عنف بنيويّ، وهو عنف أساسيّ ينفي حقّ المرأة في أن يكون لها حقّ في تقرير مصيرها، وهو عنف لا يعدّ اعتداء على الأخلاق السّائدة، ومع ذلك فإنّه يمكن أن يحوّل حياة بعض النّساء إلى انتظار طويل ودوران في حلقة مفرغة، بين زواج آسر لا يحتمل وقضاء لا ينصف ولا ينصت.



2/ العنف والمسّ بالكرامة:
في كلّ حالة عنف ضدّ المرأة هناك عنف أساسيّ يقوم على إنكار حقّ المرأة في أن تكون لها حقوق. ولكنّ العنف ليس قائما فحسب على إنكار ضمنيّ أو معلن لمبدإ المساواة بين الرّجال والنّساء، إنّه قائم أيضا على إنكار لمبدإ الكرامة. فما الكرامة؟
الكرامة قاعدة أخلاقيّة وفلسفيّة لحقوق الإنسان الأساسيّة، غائمة وغير قابلة للتّرجمة القانونيّة المحدّدة، ولكنّها أساسيّة، ويرد ذكرها، دون تعريف، في الفصل الأوّل من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان لسنة 1948: "يولد جميع النّاس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق، وهم قد وهبوا العقل والوجدان، وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء."
ومفهوم الكرامة قديم قدم الفلسفة اليونانيّة، وله صياغات خاصّة في الأديان، ولكنّه جديد من حيث كونيّته، ومن حيث اعتبار الكرامة صفة تتوفّر في كلّ النّاس، لا نثبتها بل نقرّرها. هذه الصّياغة الكونيّة الجديدة تعني أنّ لكلّ ذات بشريّة قيمة في حدّ ذاتها، وبقطع النّظر عن المحدّدات الاجتماعيّة والدّينيّة والعرقيّة. ولا بدّ أن نستفيد من الصّياغة الكانطيّة لمبدإ الكرامة لنقول إنّها تعني على وجه التّحديد أنّ من حقّ كلّ شخص أن يعامل في علاقاته بالأشخاص الآخرين أو بالدّولة على أساس أنّه غاية لا وسيلة، وعلى أنّه أغلى من كلّ شيء، وأنّ له قيمة قصوى. (3)
وما يدعو إلى احترام الإنسان هو العقل والوجدان الذي قد يعني بالأساس شعوره بوجود الآخرين وميله إلى رحمتهم، وقدرته على تسيير حياته حسب مبادئ، وتوقه إلى القيم المطلقة وإلى مصير يتجاوز الزّمن.
ومفهوم الكرامة هو الذي يجعلنا لا نقدّم تصوّرا للعنف يقصره في التّعدّي على حرمة الجسد فحسب، وهو الذي يجعلنا لا ندين الاغتصاب فحسب، بل ندين التّحرّش الجنسيّ أيضا. فالمتحرّش بالمرأة لا يؤذي جسدها، بل يؤذي "معيش جسدها"، لا يعتدي على الجسد-الموضوع بل يعتدي على الجسد-الذّات. وهو يخلّ بكرامتها لأنّه لا يبالي برغبتها وبعدم رغبتها، فيعتبرها وسيلة لتحقيق رغبته.
ومفهوم الكرامة في ارتباطه بالعقل وبالطّبيعة الأخلاقيّة للعلاقات بين النّاس، هو الذي يجعلنا نعي مدى المسّ بكرامة المرأة في شعارات نقرأها في كلّ مكان، هي من قبيل: "الحجاب حصانة ضدّ الزّنا والإباحيّة، فلا تكون المرأة إناء لكلّ والغ" (4) فمثل هذه الشّعارات تعتبر الرّجل كائنا عاجزا عن التّحكّم في غرائزه وتعتبر المرأة كائنا متسبّبا في إثارة الغرائز، يجب اتّخذ التّدابير اللاّزمة لإحكام حجبه، وإذا لم يحكم حجبه فإنّ "تبرّجه" يتسبّب في كلّ الكوارث. وليست المرأة أقلّ عقلا من الرّجل ولا الرّجل أقلّ جسدانيّة من المرأة، واحترام الذّات البشريّة يقتضي منّا افتراض تحمّل النّاس مسؤوليّة رغباتهم، وافتراض قدرتهم على الاختيار ووضع الحدود لرغباتهم ورغبات الآخرين دون حاجة إلى الحواجز المادّيّة المفتعلة.
وقيمة الكرامة باعتبارها احتراما لمعيش الجسد هي التي تجعلنا نعي العنف في فرض لباس تقليديّ على المرأة يغطّي كامل وجهها، فيجعلها كتلة جسديّة لا تكاد ترى ولا تكاد تعرف وترى، وتجعلنا نطالب بحقّ المرأة في أن يكون لها وجه تظهر به في الفضاء العموميّ وتعرف به، بحيث يكون النّقاب بمثابة المعاملة المهينة واللاّإنسانيّة. وقيمة الكرامة هي التي تجعلنا نحجم عن اعتبار المرأة وسيلة للإنجاب وحفظ النّسل والأسرة، ونحجم تبعا لذلك عن احتقار فئات النّساء اللاّتي لا يقمن بهذا الدّور أو اللاّتي انقطع قيامهنّ به، أقصد: المرأة التي لا تنجب، والمرأة التي اختارت العزوبة، والمرأة العانس، والمرأة المطلّقة، والمرأة الأرملة، والمرأة التي تجاوزت مرحلة الإنجاب...



3/ البؤر المولّدة للعنف الثّقافيّ ولخطاب العنف ضدّ المرأة:
لن نتعرّض إلى مظاهر العنف ضدّ المرأة وإلى مظاهر التّمييز في المنظومات القانونيّة العربيّة، إنّما نكتفي بالإشارة إلى البنى الثّقافيّة التي تنتج هذا العنف وتنتج الخطاب الذي يبرّره وهي إجمالا:
-الصّيغ العلائقيّة العتيقة التي تجعل جسد المرأة ملكا للزّوج أو للأسرة، وهي صيغ مترسّبة من البنى المجتمعيّة التي كانت فيها المرأة موضوع تبادل بين الرّجال لا ذاتا داخل عمليّات التّبادل الاجتماعيّ. وتؤدّي هذه الصّيغة إلى تكريس تصوّرات عتيقة للشّرف، تربطه بالحياة الجنسيّة وتقصره عليها، وتجعل جسد المرأة مجال رأسمال رمزيّ للرّجل، بحيث أنّ شرفه لا يتلوّث بما يعقده هو من علاقات، بل يتلوّث بعلاقات قريباته الحقيقيّة أو المتخيّلة برجال آخرين. كما تعيد بعض القوانين العربيّة إنتاج هذه الصّيغ، فتدين المرأة التي تخلّ بقواعد التّبادل القديمة، فتختار قرينا خارج الدّائرة القريبة المعهودة، أي تتزوّج بأجنبيّ فتعاقبها الدّولة بحرمان أبنائها من جنسيّتها.
-الصّيغ العلائقيّة الأبويّة التي تفرض واجب الطّاعة على المرأة وتمنح حقّ التّأديب للرّجل في المجال البيتيّ. وهذه الصّيغ تحدّ من إمكانيّات التّقاضي يالنّسبة إلى المرأة وتحدّ من فاعليّة هيئات التّثليث، أي الهيئات التي يظهر فيها طرف ثالث يفصل النّزاع. فهيئات التّثليث هي التي تجعل الخصم غير القاضي، وتجعل الإنسان لا يأخذ حقّه بيده كما في قانون الغاب. هذه البنى الأبويّة لا تساعد على الخروج من عنف قانون الغاب لأنّها تصهر وظيفة الأب في وظيفة السّيّد، فتنتج صورة "الشّيخ" أو الباطريارك، وتصهر وظيفة الزّوج في وظيفة السّيّد، فتنتج صورة "البعل". وهذا ما يفسّر رضوخ الكثير من النّساء إلى العنف الزّوجيّ، وميل الأنظمة القانونيّة إلى عدم إنصافهنّ، على اعتبار أنّ الأسرة مجال خاص، وأنّ المرأة التي لا تطيع زوجها ناشز متملّصة من واجباتها الزّوجيّة.
-الخلط المتواصل في العالم العربيّ بين سجلّين مختلفين هما سجلّ الدّين باعتباره تجربة روحيّة تربط بين المخلوق والخالق وسجلّ المواطنة باعتبارها انتماء للدّولة. ومن نتائج هذا الخلط التّمسّك بالقوانين التّمييزيّة في مجال الأحوال الشّخصيّة خاصّة، ومن نتائجه أيضا تهميش فئات من النّساء منهنّ الزّوجات الأجنبيّات غير المسلمات، فهنّ لا يرثن أزواجهنّ وإن حصلن على الجنسيّة، والمتزوّجات المسلمات من رجال غير مسلمين، فلا يعترف بزواجهنّ...
-وجود خطاب ثقافويّ دينيّ رائج يكرّس العنف ضدّ المرأة، ووجود هيئات وأفراد يديرون المقدّس وينتجون قضاء موازيا للقضاء المدنيّ، متناقضا معه أو مستغلاّ لفراغاته. يستغلّ هؤلاء المديرون للمقدّس سلطتهم المعنويّة وقدرتهم على التّأثير في القطاعات العريضة من النّاس للقيام بما يلي:
• ينتجون إيديولوجيا جنسيّة تعتبر الفوارق بين الرّجال والنّساء طبيعيّة فطريّة، وتعتبر تحرّر المرأة من الأدوار النّمطيّة خروجا على النّظام الإلهيّ.
• يشيّؤون القرآن ويختزلون رسالته الأخلاقيّة في مجموعة من الأحكام، ويرفضون دعوات الفصل بين مجال العبادات والمعاملات التي يجب أن تخضع إلى سنّة التّطوّر والتّحوّل، ويرفضون دعوات إعادة التّفكير في علاقتنا اليوم بالنّصوص المقدّسة.
• يتشدّدون في الأحكام الخاصّة بالمرأة أكثر من الفقهاء القدامى أنفسهم، فيضفون طابع القداسة على العادات التي لم يرد ذكرها في القرآن، والخفاص أحسن مثال عليها. كما يحرّمون موانع الحمل والحقوق الإنجابيّة للمرأة والكثير ممّا لم يرد فيه حكم في القرآن.
ومن مظاهر هذا التّشدّد ما له علاقة مباشرة بالعنف الدّموي داخل الأسرة، فبعض هؤلاء المفتين يبرّر ضرب الزّوج زوجته استنادا إلى الآية القرآنيّة "واللاّتي تخافون نشوزهنّ فعظوهنّ واهجروهنّ في المضاجع واضربوهنّ، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلا" (النّساء 34). ففيما يذهب بعض المجتهدين المعاصرين إلى أنّ الآية جاءت للحدّ من ضرب الزّوجة وتقنينه، وإلى أنّ هذا الضّرب رخصة لها علاقة بالمجتمع الذي ظهرت فيه الدّعوة الإسلاميّة ولا داعي إليها في عصرنا،(5) يذهب بعض رافضي الاجتهاد المعاصرين الذين يتميّزون بشعبيّة كبيرة إلى اعتبار هذا الضّرب قاعدة من القواعد التي تنظّم عمليّة تأديب الزّوجة. إلاّ أنّه يشعر مع ذلك بالحرج، نتيجة صعوبة إقناع الجميع بجواز هذا العنف الجسديّ، فيشرّع لأمر غريب لم نجد له أيّ صدى لدى المفسّرين القدامى لهذه الآية، وهو "الضّرب المشوب بالحنان": "والمرأة عندما تجد الضّرب مشوبا بحنان الضّارب فهي تطيع من نفسها."(6) "حنان الضّارب" زوجته تذكّرني برحمة القساة: بمن يقتل العصفورة، ثمّ يقتل فراخها رأفة بهم، وخوفا عليهم من عذاب اليتم. فرحمة القساة تظلّ قاسية كما قيل.
• ولا يكتفي هؤلاء المديرون للمقدّس بإنتاج الخطابات المرّرة للعنف والتّمييز، بل ينصّبون أنفسهم سلطا تراقب الخطابات الأخرى المغايرة للحدّ من فاعليّتها وإقصائها، وتستخدم لذلك آليّة التّكفير المعهودة. فهناك على سيبل المثال فتوى صادرة من هيئة دينيّة رسميّة بإحدى الدّول العربيّة تعتبر القول بالمساواة بين النّساء والرّجال "كفرا صريحا" (7)، وهناك فتوى أخرى تكفّر المنظّمات التي تدعو إلى إلغاء عادة الختان. (8)
ثقافة العنف ضدّ المرأة تستند إذن إلى عنف التّكفير والتّأثيم.

أقسى أنواع العنف العنف الثّقافيّ، وأقسى أنواع العنف الثّقافيّ ذاك الذي يضطلع به أشخاص يتكلّمون باسم الرّحمان الرّحيم ليشيعوا دعوات القسوة، وليكفّروا دعاة المساواة والحرّيّة، أو ليبثّوا في أحسن الأحوال دعوات الرّحمة القاسية كما في الفتوى الدّاعية إلى ضرب الزّوجة ضربا "مشوبا بالحنان"، أو في الفتاوى الدّاعية إلى ختان البنات دون قطع كلّ أعضائهنّ الجنسيّة.
ويزداد هذا العنف عنفا عندما تجد رجع الصّدى لهذه الدّعوات القاسية لدى المشرّعين المدنيّين ولدى من بيدهم القرار السّياسيّ، تجدها في شكل دنيويّ ملطّف، وفي شكل تحفّظات تردّد ترانيم الهويّة والخصوصيّة، وترى في قوانين الغاب وفي العنف واللامساواة الموحشة مقدّسات أليفة وثوابت متحدّية للزّمن.



هوامش:
1- مصائرنا بأيدينا، فلنضع حدّا للعنف ضدّ المرأة: تقرير منظّمة العفو الدّوليّة، 2004، ص ص 36-37.
2 - هذا ما يقرّره النّظام الأساسيّ للمحكمة الجنائيّة الدّوليّة المعتمد في روما والذي اكتمـل سنة 1998. انظر: مصائرنا بأيدينا، فلنضع حدّا للعنف ضدّ المرأة: تقرير منظّمة العفو الدّوليّة، 2004، ص 70.
3 -انظر توضيحا لمفهوم الكرامة لدى كانط ولقوله المشهور في "أسس ميتافيزيقا الأخلاق": "تصرّف بحيث تعامل الإنسان في شخصك وفي أيّ شخـص آخر على أنّه دائما وفي الوقت نفسه غاية وليس مجرّد وسيلة" في:Revue du droit public, n°1-1999, p 162.
ولكن من المهمّ أن ننتبه إلى مناقشة الفيلسوف كيس للتّعريف الكانطيّ لهذا المفهوم واقتراحه لصيغة علائقيّة له في كتابه عن "المساواة في الكرامة"، فالكرامة حسب رأيه هي ما يجعل العلاقة بين النّاس معياريّة اجتماعيّة:
Janos Kis: L’Egale dignité, trad du hongrois par G. Kassai, Seuil1987, pp 120- 127.

-مقال "فوائد الحجاب" في موقع: 4 www. Almydan . com
5 - يقول الشّيخ محمّد الطّاهر بن عاشور في تفسير التّحرير والتّنوير، ج3، 41، تونس، دار سحنون للنّشر والتّوزيع:: "وجعلوا الإذن بالموعظة والهجر والضّرب مرتّبا على هذا العصيان، واحتجّوا بما ورد عن بعض الصّحابة أنّهم فعلوا ذلك في غير ظهور الفاحشة. وعندي أنّ تلك الآثار والأخبار محمل الإباحة فيها أنّها قد روعي فيها عرف بعض الطّبقات من النّاس، أو بعض القبائل، فإنّ النّاس متفاوتون في ذلك، وأهل البدو منهم لا يعدّون ضرب المرأة اعتداء، ولا تعدّه النّساء أيضا اعتداء..."
6 -شعراوي محمّد متولّي الشّيخ: 100 سؤال وجواب للمرأة المسلمة، مكتبة التّراث الإسلاميّ، ص 82.
7-انظر على سبيل المثال لا الحصر فتوى المفتي السّعوديّ السّابق عبد العزيز بن باز "الرّدّ على من ينادون بالمساواة بين الرّجل والمرأة" في موقعه: www. Ibnbaz.org. sa
8 -انظر مقال "ختان الأنثى واجب رغم أنف الرُّوَيبضة" في موقع www.islamadvice.com