السيدة خديجة الإسوة الحسنة



يامنة كريمي
2010 / 3 / 1

يامنة كريمي
باحثة في المرأة و الثقافات
اسم الشهرة :ثمالوت

السيدة خديجة الإسوة الحسنة
أود قبل الدخول في صلب الموضوع الوقوف على بعض النقط المرتبطة به و المكملة له, و هي تعريفه و أهميته و أهدافه.
التعريف بالموضوع و أهميته :
لا يختلف إثنان في كون المرأة في معظم المجتمعات الكونية - و إن كان ذلك بشكل متفاوت- تعيش في ظروف لا إنسانية و لا تتمتع بأدنى مبادئ العزة و الكرامة , إنها تعاني من مآسي التمييز و التهميش و التحقير والاستغلال و الاهانة , بحجة الدين أو العادات و التقاليد أو النوع,في الوقت الذي نجدها تشكل نصف المجتمع أو أكثر و هي أساس الأسرة و المجتمع و أحد أصول الوجود البشري ككل .و أمام هذا الواقع النسائي المتناقض مع الحقيقة , تدور مجموعة نقاشات و حوارات في جميع المجالات و على مختلف المستويات , كلها تسعى إلى اكتشاف العوامل التي أنتجت لنا هذا الوضع المأساوي و المتناقض .و هذه المحاولة تدخل ضمن تلك الأنشطة النضالية .
أما عن أهمية الموضوع فتتجلى فيما يلي:
- المرأة تشكل نصف المجتمع أو أكثر و أحد علل الوجود البشري كما سلف الذكر.و هي كذلك أحد أسباب نمائه وتقدمه. و لذلك فمن دون امرأة متعلمة ,حرة ,مستقلة ,لها مثل ما عليها, لن يتحقق النجاح لأي مخطط ولا أي برنامج من مخططات أو برامج التنمية و التطور
- الموضوع عبارة عن مقاربة تاريخية اجتماعية و خاصة دينية مما يجعل محاولة الخوض فيه تستحق العناء و المغامرة و التضحية حتى و إن كان الدرب محاط بالأشواك و محفوف بالمخاطر .
_ الموضوع يشكل أرضية جد خصبة لطرح مجموعة من القضايا المرتبطة بالدين و المرأة بصفة عامة و المرأة و الإسلام بصفة خاصة و لا يخفى على أحد مدى أهمية هذه الإشكالية خاصة في السنوات الأخيرة حيث استغل الدين بشكل واسع و مكثف في الدعاية السياسية .
أهداف الموضوع
من ضمن ما يهدف له الموضوع ما يلي:
- محاولة إعادة الثقة إلى نفس المرأة المغربية بعدما فقدتها بسبب الضغوط التي خضعت لها على مر الأزمنة و العصور التي تلت تاريخ سيادة النظام الأموسي خاصة الضغوط الدينية .فلا يخفى على أحد, أن المرأة المغربية امرأة مكافحة و مناضلة و قوية الشخصية, و بالتالي فخضوعها و تحملها لهذا الواقع و لو على مضض, لم يتم إلا لأن هناك حضور أو استحضار لأمر تهابه و تقدسه ألا و هو الدين.و هدفنا هو أن تعرف هذه المرأة التي نكن كل التبجيل و التعظيم على ما بدلته و تبذله, أن ما تعانيه لا يد لله أو للدين فيه فالله عادل و يحب العدل و رحيم يحب الرحمة."من عمل صالحا من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فلنحييه حياة طيبة و لنجزينه أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون"سورة النحل الآية 97
"...إني لا أضيع عمل عمل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض..."آل عمران ص,194
- تحسيس الرجل بأن تمتع المرأة بحقوقها لا يخالف مقاصد الدين و لا غايات الشريعة الإسلامية في شيء ,كما لا يمس مصالحه و رجولته لا من بعيد و لا من قريب لأن الديمقراطية و العدالة و المساواة و العزة و الكرامة تتسع للجميع و لا تقصي أحدا بحضور الآخر.و أن الحياة في أرقى معانيها و أجمل أشكالها, تتطلب التكامل ما بين المرأة و الرجل في إطار الاحترام و المساواة دون وصاية و لا قوامة و لا ثلث مقابل الثلثين و لا نصف الشهادة و نصف الإرث و نقصان العقل و الدين و النحس و الشؤم و إفساد الوضوء , و ما يشبه هذا كثير في الذاكرة العربية الإسلامية
- خلخلة التراث الفكري العربي و الإسلامي كإحدى المرجعيات الثقافية المغربية و التي تعتبر من أسباب تأزم وضعية المرأة المغربية إن لم تكن السبب الرئيسي.
- الدعوة إلى تجديد الفقه الإسلامي الذي ليس بوحي يوحى و إنما هو نتاج مجهود قام به أناس في فترة زمنية لها خصوصياتها البشرية و الطبيعية و الاقتصادية و الفكرية التي تختلف عما هو سائد بعد مدة تناهز خمسة عشر قرنا. خاصة إذا كانت كل العلوم الاجتماعية تصر على أن تغير الظروف المادية لدى مجتمع معين يؤدي بطريق الحتم و اللزوم إلى تغير أنساقه الاجتماعية و عاداته و أعرافه و أفكاره بل و عقائده و على أحسن الفروض تفسير تلك العقائد تفسيرا مخالفا و جديدا. و يبقى الإسلام دائما هو الشريعة الإطار.
- محاولة إزالة القدسية عن بعض الحقول المعرفية التي يعتبرها الأوصياء على الإسلام حكرا عليهم و مجالا ملغما بالنسبة لغيرهم مهما وصلت درجة ذلك الغير من الثقافة و العلم و التجربة .مما يسمح لهم باستعمال تلك المعارف و الحقائق لخدمة مصالحهم و أهوائهم.
- فتح المجال أمام المرأة المغربية من أجل التعلم و العمل و الاجتهاد و الإبداع والابتكار دون خوف من الأرض و لا من السماء لأن القيد و الاستعباد و الخوف و الاضطهاد نهايتهما الموت أو التمرد و ربما الانحراف و الانزلاق بأشكال مختلفة و الواقع أصدق شاهد على ذلك و خاصة وا قع المرأة المغربية الذي هو جوهر الموضوع أو النقاش. و لا يخفى على أحد بأن الضغط لا ينجم عنه إلا الانفجار و الدمار و ليس الخضوع و الخنوع و تماسك الأسر و استمرارية المجتمعات كما يظن أهل الفكر الذكوري .
- من خلال هذا العمل و غيره أسعى إلى زرع و لو بدرة صغيرة في حقل العزة و الكرامة و حقوق الإنسان الذي هناك الملايين من المناضلين الذين قدموا أعز و أغلى ما لديهم لكي يعطي ينقدوا ما لا يحصى من المخلوقات و البشر من براتين العبودية و الاستغلال.
لتعريف بالسيدة خديجة .
هي خديجة بنت خويلد من بني أسد بن عبد العزي بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنان .ولدت في سنة 556 م أي 15 سنة قبل عام الفيل 571 تاريخ ميلاد محمد صلى الله عليه سلم. تشير معظم المراجع إلى وفاة والدها خلال حرب الفجار أو قبلها. تكلم فيها ابن عمها ورقة بن نوفل في البداية لكن لم يتم بينهم الزواج .و مما جاء في سيرة ابن إسحاق ج 1 ص 153 في هذا الباب " خديجة بنت خويلد تسمى الطاهرة في الجاهلية و الإسلام و كذلك سيدة قريش ,و كانت متزوجة قبل رسول الله من هند بن زرارة ,و كانت قبله متزوجة عتيق بن عائد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم ,ولدت له عبد مناف بن عتيق ,و لخديجة من هالة ابنان اسم أحدهما الطاهر و الآخر هالة . و من زوجيها اكتسبت ثروتها التي كانت تتاجر بها .و السيدة خديجة عرفت بين قومها على أنها تتمتع بملكات نفسية مهمة مثل استشراف المستقبل و الفراسة و قوة غريزة الاختيار و الرهان عليه, و شدة الصبر لتحقيق الهدف و المراد.كما أنها كانت سيدة عاقلة و رزينة ,شجاعة وقوية الشخصية وذات تجربة واسعة ,عركت الحياة و عركتها الحياة لمدة أربعين أو خمسة وأربعين سنة تاريخ زواجها من محمد.و سيرة السيدة خديجة تشهد على ذلك .
ففيما يخص شجاعة السيدة خديجة و قوة شخصيتها, فتكمن في طريقة زواجها من محمد, فهي التي تقدمت بدعوته للزواج غير مكترثة لا بفارق السن, حيث كانت في سن الأربعين أو الخمسة و أربعين و هو في العشرين أو الخامسة و العشرين و لا بالمال ,حيث كانت تملك ثروة واسعة على عكس محمد الذي كان يتيما و عمه أبو طالب الذي كان يرعاه أصبح يعاني من الحاجة و الفقر لكثرة عياله و كذلك لتغير الأوضاع الاقتصادية في مكة. لكن البيت الهاشمي قد احتفظ بعزته و هبته و شرفه بين القوم مما كان عزوة و شد أزر لمحمد في زواجه من خديجة و في دعوته الإسلامية فيما بعد . و خديجة من جهتها , ضربت عرض الحائط بعادات قريش و تقاليدها و أعرافها و بذلك تكون قد أعلنت ثورة سسيوثقافية بكل ما في الكلمة من معنى . لكن محمد لم يستجيب لرغبة بنت خويلد إلا بعد مشقة كبيرة و إلحاح طويل و كان عذره هو الحاجة و ذات البين .لكن السيدة خديجة كانت قد اتخذت قرارها و صممت على تحقيقه مهما كلفها ذلك من تضحيات مادية و معنوية لأنها قد انتظرت هذه اللحظة لما يقارب خمسة و عشرين سنة كما يشير إلى ذلك المؤرخون و أهل السيرة و التفسير و بعض علماء الأزهر المتفتحون. لكن لا يمكن أن نتجاهل سؤالا مهما يطرح نفسه و بإلحاح, و هو لماذا طلبت خديجة الزواج من محمد من دون أغنياء قريش و أعيانهم شبابهم وكهولهم ؟
إن الإجابة عن هذا السؤال هو نفسه توضيح خاصية استشراف المستقبل و الفراسة الصادقة........................
إن سعي خديجة للزواج من محمد لم يكن نتيجة الصدفة كما أنه ليس بالأمر الطارئ و إنما حسب المؤرخين يرجع إلى سنين خلت . فخديجة لم تكن حديثة المعرفة أو التعرف على محمد وإنما هي من بنات عمومته عايشت زواج والده عبد الله من أمينة و تتبعت مسيرة حياته من ولادته فطفولته فشبابه. و سمعت ما كان يقال بأمره من خوارق و معجزات و مدهشات_ تلك الخوارق و المعجزات و الكرامات التي كانت تشكل مكونا أساسيا من مكونات الشخصية القرشية و التي ارتبطت بمحمد ابن عبد الله من حتى قبل أن يولد .و نبدأ هنا الإشارة إلى قصة عبد الله ابن عبد المطلب والد محمد
مع قتيلة التي عرضت عليه نفسها عندما كان ذاهبا للزواج من آمنة لما رأت نور النبوة على جبهته .
كما أن خديجة قد عايشت والدة محمد, أمينة و سمعت كل ما كانت تحكيه عن المعجزات أو الكرامات التي عاشتها عندما كانت حاملا بمحمد و عند ولادته و التي نذكر منها ما يلي :
_ روي عن عثمان بن أبي العاص عن أمه أم عثمان الثقفية ,و اسمها فاطمة بنت عبد الله قالت : "حضرت ولادة رسول الله فرأيت البيت حين وضع , قد امتلأ نورا و رأيت النجوم تدنوا حتى ظننت أنها ستقع علي ,و ولد الرسول معذورا مسرورا ,و تقول أمه أنها لم تجد حين حملت به ما تجده الحوامل من ثقل و لا وحم ...و حين وقع في الأرض مقبوضة أصابع يده مشيرا بالسبابة كالمسبح بها". السيرة النبوية ابن هشام ج 1:/295. و حتى فترة إرضاعه لدى حليمة السعدية قد أحيطت بالكثير من الروايات عن الخير و البركات التي شملت السعدية و أسرتها بمجرد ما أخذت محمد لترضعه بعدما رفضته كل صواحبها لأنه كان يتيما. كما أن خديجة كغيرها من أهل مكة قد سمعت عن معجزة شق الصدر التي خضع لها محمد حوالي خمس مرات و كذلك و صية الراهب بحيري لأبي طالب بالشام عندما رأي محمد رفقة عمه ,أضف إلى ذلك رواية الشجرة التي لا يجلس تحتها إلا الأنبياء و البابة التي ظللت محمد في طريقه إلى الشام مع ميسرة غلام خديجة عندما خرج مع محمد في تجارة لها(و في رواية أخرى الملاكين) .ناهيك عن ما قاله لها شخص مجهول في أحد أعياد قريش عندما كانت هي و صواحبها عند قدم الوثن ( أخبرنا على بن محمد بن عبد الله القرشي عن أبي عمرو المديني قال أخبرنا طلحة بن عبد الله التيمي عن أبي البحتري الخزاعي و عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن بن عباس أن نساء أهل مكة احتفلن في عيد كان لهن في رجب فلم يتركن شيئا من إكبار ذلك العيد إلا أتينه . وبينما هن عكوف عند وثن, مثل لهن كرجل في هيأة رجل حتى صار منهن قريبا ثم نادى بأعلى صوته يا نساء تيماء إ..نه سيكون في بلدتكن نبي يقال له أحمد يبعث برسالة الله أيما امرأة استطاعت أن تكون له زوجا فلتفعل. فحصبته النساء و قبحنه و أغلطن له و أغضت خديجة على قوله و لم تعترض له فيما عرض على النساء ) و خديجة كغيرها من القرشيين كانت تسمع الكثير عن محمد و أخلاقه الكريمة و خصاله الحميدة و شهامته و صدقه و أمانته إلى ان اشتهر في وسطه و محيطه بالصادق الأمين.إضافة إلى أنه كان يفيض شبابا وقوة وحيوية( وسيما قسيما). و من باب التأكيد على صحة ما سبق ,جاء عند ابن إسحاق "و كانت الأحبار من اليهود و الرهبان من النصارى و الكهان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول الله قبل مبعثه لما تقارب زمانه فيما وجدوه في كتبهم من صفته وصفة زمانه " .كما ورد في السيرة النبوية لابن كثير ج1 ص 410/407
أن خديجة قالت مرة لمحمد و هي تخفف عنه هول صدمة ما كان يسمعه من أصوات: "أبشر فو الله لقد كنت أعلم أن الله لن يفعل بك إلا الخير و أشهد أنك نبي هذه الأمة التي تنتظره اليهود .فقد أخبرني ناصح غلامي و بحيري الراهب و أمرني أن أتزوجك منذ عشرين سنة "
النشاط الاقتصادي للسيدة خديجة
كانت خديجة بنت خويلد تتمتع بشخصية قوية و متميزة و قد حصلت على ثروة كبيرة من زيجاتها السابقة. مما جعلها تكتسب مكانة رفيعة في المجتمع إلى جانب كونها تاجرة ناجحة تتصرف في رأس مال كبير يشمل النقد و العروض و العبدان و الإماء و العقارات . و كما جاء في معظم المراجع التاريخية فإن القوافل التجارية التي كانت تدخل أو تخرج من مكة نصف بعيرها لخديجة و النصف الآخر لباقي قريش .و خديجة كما تم الوقوف على ذلك , لم يكن يتولى أمر تجارتها أخ أو أب و إنما كانت تتعامل مع أجيريها و مستخدميها و مواليها, مباشرة و دون وسيط ,فهي التي تحدد و تناقش الأجور و المهام , و هي التي تتكلف بتوفير البضائع و تسهر على صحة و قوة بعيرها و تسير عقاراتها ....هذا دون أن يسجل عليها التاريخ بأنها كانت تنسى أو تخطأ , كحجة على نقصان عقل المرأة أو ذاكرتها كما تدعي الثقافة المشرقية و بعض الكتب التراثية . و إلا ما كانت تجارتها رابحة و واسعة.و من باب العلم بالشيء فالسيدة خديجة لم تكن لوحدها الممارسة للتجارة من ضمن النساء و إن كانت أغناهم .فالكتب التراثية تشير إلى أن النساء كن حاضرات في كل أسواق قريش يعرضن بضائعهن من المواد الغدائية و مواد الزينة و الملابس . كما أنهن كن يمارسن بعض المهن مثل الماشطة و المزينة و المولدة و المرضعة و الخاطبة و الكاهنة و العرافة و الشاعرة.و مفاد هذا وغيره كثير, هو أن المرأة لم تكن معزولة بشكل كلي عن الحياة اليومية و لم تكن مشيئة بالمعنى الذي تنص عليه معظم المقررات المدرسية و الكتب الرائجة و بعض الفقهاء و رجال الدين و ذلك لغرض في نفس يعقوب .و قد لا يتسع لها الوقت للوقوف على كل نقط قوة المرأة و مواقفها الجريئة و الشجاعة و المسؤولة و الذكية و الواعية و لكن نتمنى أن نتطرق لها في موضع أو مقام آخر.
لكن الأمر الذي يتوجب علينا عدم القفز عليه في هذا العرض, هو مدى مساهمة خديجة في تدبير أمور بيتها و أسرتها على المستوى المالي أو النفقة . هذه المسؤولية قد تحملتها خديجة منذ أن قررت الزواج من محمد لأنها غنية و هو فقير و قد ورد ذلك في حديث مراسيل خديجة لمحمد .ففي كل مرة كانوا يدعونه إلى الزواج كان يجيبهم: "ليس بيدي ما أتزوج به" فكانوا يردون عليه :" يا محمد إنك دعيت إلى المال و الجمال و الشرف و الكفاءة و كفيت " أي لا مؤونة عليك بأي نوع من الأنواع التكوين في حياة الصادق الأمين ,خليل عبد الكريم ص. كما, كانوا يتعهدون له بأن ذلك الزواج سوف يذلل له العقبات و يسهل عليه الصعوبات و يرفع عنه كل الموانع ...و ما إن تم القبول حتى أقامت خديجة, وليمة العرس متكفلة بجميع المصاريف و قد جعلتها وليمة كبيرة و احتفالا واسعا يليق بسيدة نساء قريش و الصادق الأمين اللقب الذي كان يعرف به محمد بين عشيرته.و خلال مدة زواجهما التي دامت زهاء ربع قرن كانت هي المسؤولة عن كل المصاريف و عن طيب خاطر,لأنها لما سعت للزواج من محمد كانت تعلم بأنه لا يملك المال ورغم ذلك تزوجت به لأنه يملك أمورا أخرى هي في عين خديجة أهم من المال , قد أفصحت له عنها من خلال قولها:" رغبت فيك لأمانتك و حسن خلقك و صدق حديثك". و لا يفوتني هنا أن أستشهد بما قاله محمد عندما تزوج من خديجة :"الحمد لله الذي أطعمني الخمير و ألبسني الحرير و زوجني من خديجة و كنت لها عاشقا" المستدرك للحاكم النيسابوري الحديث 484 المجلد الثالث.
الجانب الاجتماعي و الثقافي من شخصية السيدة خديجة.
في مكة كانت السيدة خديجة من الطبقة الأرستقراطية ذات الحسب العريق و النسب الرفيع بنت أحد صناديد قريش سليل بني أسد الدين عرفوا في مكة بالمال و العزة و اشتهروا بالعلم والثقافة و الذكاء .و في بيوت هذه الأسرة كانت تتم مجموعة من للقاءات و الحوارات والسهرات,التي تدور في معظمها حول الكتب السماوية و قصص الأنبياء و الرسل و الأمم السالفة و حول مواضيع للاهوت و والخوارق و للامرئيات مثل الجن و الملائكة و الشياطين و الخير و الشر و النبوة و الوحي.و لدلك كان بنو أسد من أكثر أهل مكة تشبعا بفكرة القادم الجديد أو النبي المنتظر و أعظمهم تشوقا إلي ظهوره.و في مقدمة هذه الأسرة المتطلعة للنبي الجديد السيدة خديجة التي كانت تجيد القراءة و الكتابة مثل أبناء عمومتها: القس ورقة بن نوفل و البطرك عثمان بن الحويرث و الكاهنة قتيلة بنت نوفل. كما كانت لا تتغيب عن اللقاءات و السهرات التي تعقد في بيوت أهلها وأحيانا في بيتها لأنها كانت برزة تقابل الرجال و تحاورهم وتستفيد من تجاربهم و معارفهم التي اكتسبوها عن طريق الأسفار و التجارة وقراءة بعض الصحف التي كان يترجمها ورقة بن نوفل من العبرية إلى العربية .مما جعل السيدة خديجة تتمتع بخصال قلما توفرت لدى نساء عصرها . فقد كانت أكثرهن ثقافة و فطنة و ذكاء و مهارة ولباقة وحنكة و تجربة .و من خلال هذه الجلسات التكوينة ترسبت لدى سيدة قريش أحدوثة الموعود المأمول ظهوره . فانطلقت تبحث بين فتيان قريش عن النبي الجديد و بعد طول البحث و التنقيب , تبين لها من خلال ما يعرف عن محمد من معجزات و كرامات , بأنه النبي القادم. و بعد تفكير طويل و عميق قررت السيدة خديجة الزواج من محمد لكنها قبل أن تمر للتنفيذ استشارت معلمها و ساعدها الأيمن ورقة بن نوفل الذي فرح للقرار كما يتضح من النص التالي "و ما إن ألمحت سيدة نساء قريش للقس ورقة ابن نوفل بعزمها على الزواج من محمد حتى هرول إلى الموافقة قائلا "أقدمي يا ابنة العم على ما تدبرين في نفسك لا تحجمي و لا تترددي فأنت أسعد نساء قريش بل أسعد نساء الأرض إن أتم الله لك ذلك ...و تلطفي في تدبير أمرك فإن أحببت توفيقا فآذنني بذلك فإني أتمنى أن تكون لي يد في هذا الزواج الذي سيكون له في حياة الناس أسعد الأثر و أبقاه(107) على هامش السيرة لطه حسين ج الثاني ص..177
دور السيدة خديجة في نجاح الدعوة الإسلامية
كما اتضح مما سلف عرضه, فإن السيدة خديجة قد سعت إلى الزواج من محمد بعد تفكير عميق و رغبة منها للارتباط برجل تتوفر فيه كل مواصفات النبي المنتظر.و لعب ابن نوفل دورا رئيسيا في توجيه خديجة للزواج من محمد أولا ثم استمر في تنويرها و تعليمها بخبايا الأمور الدينية كالوحي و الملائكة و علامات النبوة الأمر الذي ساعدها على تشجيع محمد و تثبيته, و في هذا الصدد يقول خليل عبد الكريم في كتابه التكوين في حياة الصادق الأمين ص:84 " كانت الأم الرؤوم و الوالدة الحنون و الزوجة الحبيبة التي آزرته و عضدته و ثبتته و التي لولاها لما أكمل التجربة حتى نهايتها و هي التي أتاحت له التماس بالقس ورقة بن نوفل و غيره مثل عداس و بحيري و قضاء الليالي الطوال مع ابن نوفل في المدارسة و المذاكرة و المحاورة ....و هي التي هيأت له الاختلاط بكافة أصحاب الملل و النحل و العقائد و الأديان الذين كانوا يأتون مكة للموعظة أو التجارة أو الأدب و الشعر و الحج " فعلا لا يمكن أن يتنكر أحد للدور الذي لعبته خديجة في بداية الوحي ,فهي التي دفعت محمد للسير في طريق تلقي الرسالة و تبليغها. حيث كان يأتيها خائفا مرتعشا يتصبب عرقا فتحتضنه و تدثره وتخفف من روعه و تفسر له أن ما يراه و يسمعه ليس من الجن أو الشياطين كما يظن و إنما هي الملائكة حيث تقول له: "كلا يا ابن العم ,ما كان الله ليفعل ذلك بك ,فو الله أنك لتؤدي الأمانة و تصل الرحم و تصدق الحديث" و هي تريد من قولها أن الشيطان ليس له سلطان على محمد ذو الخصال الحميدة و الأخلاق العالية . و في بعض الأحيان كانت تصطحبه إلى ابن عمها ورقة ابن نوفل ليوضح له أن ما يسمعه من أصوات و ما ينتابه من إغماء أو رعشة أو احمرار الوجه و العينان إنما هو من إمارات النبوة و الوحي كما تنص على ذلك الكتب السماوية. و انطلاقا من هذا التوجيه و التأطير الذي قامت به كل من خديجة و ورقة بن نوفل يرى الكثير من المهتمين بهذا الشأن بأن خديجة تمثل دعامة أساسية لنجاح الدعوة المحمدية.و للتأكيد على أهمية الدور الذي لعبته خديجة نجد من الباحثين من ذهب للمقارنة بين زيد بن عمر بن نفيل و محمد لأن كلاهما كان إبراهيميا حنيفيا رافضا عبادة آلهة قريش بمكة. إلا أن الأول كان زوجا لصفية بنت الحضرمي التي سلطها الخطاب بن نوفل عليه لتراقبه و تخبر الخطاب بما يفعله و ذلك من أجل ردعه و الحيلولة بينه و بين رغبته في تدمير عبادة الأصنام . في حين كانت خديجة زوجة محمد هي أول من آمن به و آزره و دلل الصعاب أمامه حتى يتمكن من تبليغ الرسالة التي حمله الله تعالى إياها. و لم تنحصر مؤازرة خديجة لمحمد على المستوى المعنوي و الاجتماعي بل ساندته ماليا و لقد ذهبت خديجة في هذا الأمر أبعد مما يمكن أن يتصوره عقل مجتمع مكة أنذاك و هو أنها أعفت محمد من الخروج في تجارتها عند بداية الاستعداد للوحي و ذلك ليتفرغ للرسالة و التبليغ, تلك الرسالة التي سهرت على تمويلها من مالها الخاص. و هنا أستحضر ما قاله خليل عبد الكريم أحد علماء الأزهر بهذا الصدد: "هي التي فتحت له خزائنها يغرف منها كيفما شاء و التي وضعت بين يديه كل ما تملك و رفعت عن كاهله هم الرزق و خوف الخلق و فرغته كي يجتاز المراحل مرحلة وراء الأخرى...." فقد كافحت خديجة فعلا و ناضلت بقوتها و مالها و بكل ما تملك لنصرة النبي و أتباعه ,إلى درجة أنها كانت تشتري الطعام و ترسله سرا للمسلمين المحاصرين’كما كانت تشتري العبيد الدين أسلموا و عذبوا بسبب إسلامهم و تعتقهم لوجه الله و الإسلام. و بقيت تمول الدعوة الإسلامية إلى أن نفد مالها كله.
.و في الختام لا يسعنا إلا أن نشهد كما شهد من سبقونا, بأن خديجة كانت سببا عظيما من أسباب النهضة الإسلامية التي أحدثها محمد و لذلك كان يذكر فضلها دائما و يعدد مكارمها. و في هذا الباب نورد ما قاله محمد بشأن خديجة في
حديث له مع عائشة حيث قال:"آمنت بي إذ كفر الناس بي ...و صدقتني إذ كذبني الناس و واستني بمالها إذ حرمني الناس,و رزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء".