حكم تولي المرأة لمنصب القضاء



منذر الفضل
2010 / 3 / 10


من المعلوم ان لقواعد القانون الدولي ولنصوص الاتفاقيات الدولية التي توقع وتصادق عليها الدول علوية على القانون الوطني , فلا يجوز مخالفتها أو خرقها لأنها تمثل قواعد أساسية للسلوك العام في المجتمع الدولي , واذا خالف الدستور او القانون الوطني هذه القواعد فأنه يمكن الطعن بهذه الانتهاكات , كما انها تكون موضعا للاستهجان في ظل المجتمع الدولي . وعلى سبيل المثال , لا يجوز لدولة ما ان تنص في دستورها او قوانينها على التمييز بين البشر على اساس القومية او الدين او الجنس او المذهب او اللون في تولي المناصب السيادية او غير السيادية لأن هذا يتناقض مع الاعلان العالمي لحقوق الانسان ومع قواعد القانون الدولي ومع نصوص الاتفاقيات الدولية ذات الصلة . ولهذا فان حكم التعارض هذا بين القانون الدولي والقانون الوطني أصبح من بديهيات علم القانون , وعلى الدول ومؤسساتها ان تحترم ذلك وإلا عدت الدولة منتهكة للشرعة الدولية ولا ينطبق عليها وصف دولة قانون .
وللاسف ما تزال هناك العديد من القوانين في دول عربية واسلامية مختلفة , ومنها العراق ومصر والاردن ودول الخليج وغيرها من البلدان تتبنى وتكرس التفاوت وسياسة التمييز بين الرجل والمرأة في كثير من القضايا والحقوق ومنها موضوع الحماية الجنائية وقضايا الاحوال الشخصية والشهادة في المحاكم , بل وحتى ان قوانينها العقابية تجيز تأديب الزوج للزوجة بضربها بحجة استعمال الحق ..! ( انظر مثلا نص المادة 41 فقرة 1 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل ).
لم يكن الدافع الرئيسي لكتابة هذا المقال هو تأكيد موقفنا السابق المعلن والمنشور في مناسبات متعددة من شجب حرمان المرأة من تولي منصب القضاء وانما لسبب إضافي أخر هو ما صدر عن الجمعية العمومية لمجلس الدولة المصري من قرار غريب منع بموجبه المرأة من تولي منصب القضاء والذي صدر يوم 15 شباط 2010 , وقد اثار القرار ضجة كبيرة في الوسط المصري وغير المصري لما يمثله من تراجع خطير في ميدان حقوق الانسان في دولة لها مكانتها الثقافية والعلمية مثل مصر , وكذلك لتسليط الضوء على فتوى شيخ الازهر حول تولي المراة لمنصب الرئاسة التي اثارت اعتراضات كثيرة بين اصحاب العقول المنغلقة من رجال الدين وغيرهم . ولهذا سنتناول هذا الموضوع على النحو التالي :
-1-
وضع المرأة في الاعلان العالمي و الاتفاقيات الدولية
حين اصدرت الجمعية العامة للامم المتحدة الاعلان العالمي لحقوق الانسان في عام 1948 , أعتبرهذا الاعلان خطوة هامة نحو وضع اسس لوثيقة دولية لحقوق الانسان يكون لها قوة قانونية ملزمة وجانب معنوي ايضا بحيث يكون اي خرق لها يوجب المسؤولية بأعتبارها وثيقة دولية أقرها المجتمع الدولي بإرادته من أجل السلام , ولا سلام بدون عدالة ومساواة بين البشر . ومن هنا جاءت المادة الاولى من هذه الوثيقة مؤكدة على مايلي : ( يولد جميع الناس احرارا متساوين في الكرامة والحقوق , وقد وهبوا عقلا وضميرا , وعليهم ان يعامل بعضهم بعضا بروح الاخاء).
كما اضافت المادة الثانية بكل وضوح مايلي : ( لكل انسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الاعلان , دون تمييز , كالتمييز بسبب العنصر او اللون او الجنس او اللغة او الدين او الرأي السياسي او اي رأي أخر , او الاصل الوطني او الاجتماعي او الثروة او الميلاد او اي وضع أخر , دون تفرقة بين الرجال والنساء ....).
يضاف الى ذلك , ان اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة ( سيداو CEDAW ) لعام 1979والتي دخلت حيز التنفيذ في 3 إيلول من عام 1981 نصت بصورة لا لبس فيها على منع التمييز ضد المرأة لأنه يشكل انتهاكا لمبدأي المساواة في الحقوق واحترام كرامة الانسان , لاسيما وإن المبادئ الاساسية للامم المتحدة تتضمن الايمان بالحقوق الاساسية للانسان وبالحقوق المتساوية للرجال والنساء على حد سواء .
-2-
موقف بعض الدساتير العربية
نصت المادة 40 من دستور جمهورية مصر العربية لعام 1971 المعدل على مايلي : ( المواطنون لدى القانون سواء , وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة , لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس او الاصل او اللغة او الدين او العقيدة ) . كما نصت المادة 14 من الدستور العراقي لعام 2005 على ذات المبدأ اذ جاء فيها مايلي ( العراقيون متساوون امام القانون دون تمييز بسبب الجنس او العرق او القومية او الاصل او اللون او المذهب او المعتقد او الرأي او الوضع الاقتصادي او الاجتماعي ) والى هذا ذهب دستور المملكة الاردنية الهاشمية لعام 1952 المعدل ايضا في المادة 6 الفقرة 1.
وهذه الأسس كلها تنسجم مع الاعلان العالمي لحقوق الانسان ومع قواعد حقوق الانسان في الاتفاقيات الدولية ومنها اتفاقية سيداو وبالتالي فان أي قرار أو فتوى في حرمان المرأة من تولي منصب رئاسي او منصب القضاء هو مخالفة دولية وقانونية وشرعية , كما لم يثبت علميا ان كفاءة الرجل افضل من كفاءة المرأة . لذلك فان أي تمييز بين المواطنين بسبب الاصل او الجنس او اللون او القومية او اللغة باطل و لا يمكن القبول به , كما إن اي قانون او قرار يصدر مخالفا للدستور يعد باطلا ايضا لأن للدستور علوية على القانون وللقانون علوية على القرار وفقا لمبدأ التدرج التشريعي المعروف , ومن هنا فان قرار الجمعية العمومية لمجلس الدولة في مصر بحرمان المرأة من تولي منصب القضاء هو قرار باطل لمخالفته لنص الدستور المصري.
وبهذه المناسبة طالب شيخ الأزهر المرحوم الدكتور محمد سيد طنطاوي بأصدار فتوى رسمية تجيز تولي المرأة منصب الرئاسة في الدول الاسلامية مما أثار ازمة داخل مجمع البحوث الاسلامية , وقد وافقه في الرأي الدكتور علي جمعة , غير ان هذه الدعوة واجهت – مع الاسف – معارضة من آخرين . ومن المعارضين لها الدكتور عبد الفتاح الشيخ رئيس جامعة الأزهر سابقا والدكتور عبد الغني محمود , وهي معارضة مبنية على أسس قديمة لا تصلح للعصر الحديث.



-3-
موقف الفقة الاسلامي
إبتداء نقول بكل وضوح , لا يوجد نص صريح وقطعي في القرآن والسنة النبوية يمنع المرأة من تولي منصب القضاء أو أي منصب سيادي او غير سيادي , واذا كان لا يوجد نص صحيح قطعي الثبوت والدلالة يمنع المرأة من تولي القضاء ، فنرجع إلى الأصل ، وهو الجواز والإباحة . ومن هنا جاءت آراء فقهاء المسلمين مختلفة ومتباينة في هذا الأمر , فتعددت الآراء والاجتهادات وتباينت التفسيرات وصارت قضية خلافية . ولما كان الأمر كذلك فان قواعد العدل والعدالة والمصلحة توجب أن لا تحرم المرأة من أي منصب كان , فضلا عن عدم جواز التمييز بسبب الجنس , لأن هذا يهدر من انسانية المرأة ويخالف القواعد الانسانية التي توجب المساواة بين البشر لاسيما وإن الحجج التي ساقها المعارضون لتولي المرأة لمنصب سيادي مثل رئاسة مجلس النواب او رئاسة الوزراء او غيرها او لمنصب القضاء تقوم على وجهة نظر او تفسير شخصي وهو ليس بملزم ولا يعد دستورا توجب طاعته وتنفيذه . فالأجتهاد يقابلة اجتهاد آخر وبحجج اقوى وأدل , كما إن للتفسير قواعد وإصول لا مجال للدخول بتفاصيلها هنا.
وسنتعرض لبعض مواقف الفقهاء المسلمين من موضوع تولي المرأة للقضاء وللحكم قبل مئات السنين مستذكرين القاعدة التي تقضي بأنه ( لا ينكر تغير الاحكام بتغير الازمان ) , فالحياة في تطور وليس في تراجع والمصلحة العامة تقضي بتجديد الأفكار والأراء حتى في ميدان الفقه الأسلامي .
لم يتفق فقهاء الشريعة الأسلامية على موقف واحد من شرط الذكورة لتولي منصب القضاء , فمنهم من أوجب ذلك ومنهم من لم يشترط هذا الشرط , لأن اهلية منصب القضاء جائزة للرجل وللمرأة معا وإن كلا منهما هو مؤهل للجلوس و الفصل في المنازعات بين الناس .
• الموقف المتشدد وهو موقف أغلب فقهاء الشيعة و الحنابلة والشافعية والامام زفر بن الهذيل من تلاميذ أبو حنيفة وجمهورالمالكية الذين يرفضون بصورة مطلقة تولي المرأة لمنصب القضاء في جميع القضايا بحجة ان الحكم لا يكتمل الا اذا توافرت اربعة شروط وهي: ( البلوغ والعقل وان يكون من الذكور وشخصا حرا ) . ونعتقد بأن هذا الرأي لا يصلح للعصر الحديث ولا ينسجم مع تطور الحياة ويتناقض مع المعايير الدولية في هذا الزمان .
وهنا نشير الى قضية حصلت في العراق عام 2005 حيث رفض السيد علي السيستاني تولي السيدة نضال جريو منصب القضاء في مدينة النجف بموجب فتوى اطلعت عليها شخصيا , بينما صارت السيدة المذكورة بعد ذلك عضوا في الجمعية الوطنية العراقية وهو منصب أخطر من منصب القضاء .
• الموقف الوسط وهو رأي المذهب الحنفي ويرى بجواز تولي المرأة منصب القضاء فيما عدا في قضايا الحدود والقصاص . وهو أيضا – في اعتقادنا - يتعارض مع مبدأ العدل والعدالة بين البشر .
• الموقف المطلق وهو رأي مذهب الظاهرية الذي يرى بأن المرأة مثل الرجل ولا يجوز أن يقتصر منصب القضاء على الذكور فقط وانما للمرأة الحق الكامل في تولى هذا المنصب أيضا. وهذا المذهب يعد من المذاهب المندرسة التى تنسب الى داوود الظاهري الذي ولد عام 200 هجرية ومات عام 270 هجرية . إلا أن ظهور الفقيه ابن حزم الاندلسي عام 456 هجرية يعد إحياء جديدا لهذا المذهب حين ألف كتابا بعنوان ( المحلى ) , وقد أجاز ابن حزم تولي المرأة للقضاء ويؤيده في هذا الموقف إبن جرير الطبري الذي يرى بجواز أن تكون المرأة حاكما في كل شئ بشكل مطلق ودون قيود . وتقوم حجتهم على ان الأصل في الاشياء الإباحة ولم يرد دليل صريح بالمنع , وهذا الموقف ينسجم مع دليل العقل ويمثل موقفا صائبا ومتجددا .

ونحن نعتقد بوجوب تجديد الفقة الاسلامي وتقع هذه المهمة على كاهل فقهاء الشريعة الاسلامية وضرورة جعل المبادئ والأسس الواردة فيه تنسجم مع قضايا العصر لكي لا تكون هناك ثغرة ينفذ من خلالها المتشددون من المتطرفين او المتعصبين , كما نعتقد بوجوب فصل الدين عن السياسة حيث لا يجوز لرجل الدين ممارسة الدور السياسي تحت عباءة الدين ولا يجوز ايضا اقحام الدين في تشريع القوانين الوضعية . ففي العراق مثلا فأن جميع القوانين الوضعية النافذة لا علاقة لها بالشريعة الاسلامية وبالفقة الاسلامي عدا قانون الاحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 المعدل وبعض نصوص القانون المدني العراقي رقم 40 لسنة 1951 الذي صار نافذ المفعول عام 1953 ولا يوجد في النظام القانوني العراقي والمصري ما يمنع من تولي المرأة للقضاء وللمناصب أيا كانت .
-4-
موقف الفقة القانوني
من المصادر التفسيرية للقانون في كثير من الانظمة القانونية هو رأي الفقه , لا بل إن آراء فقهاء القانون كانت من المصادر الرسمية في القوانين القديمة . والفقه في النظام القانوني المصري والعراقي وغيرها من الأنظمة القانونية يشكل مصدرا تفسيريا مهما ولا يمكن الاستغناء عنه , فكثيرا ما تستند المحاكم في أحكامها على آراء فقهاء القانون .
ومن أهم فقهاء القانون المعروفين في البلاد العربية وغيرها المرحوم الاستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري . وبقدر تعلق الامر بموضوع بطلان أي قرار يمنع المرأة من منصب سيادي ومنصب القضاء فقد أصدر المرحوم السنهوري حكما تاريخيا حين كان مستشارا في مجلس الدولة المصري نص على عدم وجود مانع في الشريعة الإسلامية من تولي المرأة للمناصب ومنها منصب القضاء . ومما يعزز هذا المنحى هو قرار المجلس الأعلى للهيئات القضائية في مصر الصادر عام 2002 الذي فتح باب التعيين للمرأة في سلك القضاء .
إن الاحتجاجات الكبيرة في مصر ضد قرار الجمعية العامة لمجلس الدولة المصري الذي صدر في 15 شباط 2010 والذي منع المرأة من تولي منصب القضاء ترك أثرا كبيرا في الرأي العام . ولهذا حسنا فعل المستشار محمد الحسيني رئيس المجلس حين اصدر قرارا بتعيين قاضيات , رافضا بذلك قرار الجمعية العامة مستندا على أن توصية هذه الجمعية بمنع تعيين المرأة قاضية غير ملزم لرئيس المجلس وبأن قرار التعيين هو قرار وظيفي من حق رئيس المجلس وحده ويقع ضمن سلطاته القانونية , وقال أيضا أنه ليس هناك ما يمنع من تعيين المرأة قاضية ,لا شرعا ولا قانونا , فضلا عن إنه انتهاك لنص المادة 40 من الدستور المصري . وهو موقف سليم نال إستحسان الرأي العام أيضا .
استنادا الى ما تقدم , فإننا نعتقد ببطلان سياسة التمييز ضد المرأة في تولي أي منصب , سيادي أو غير سيادي , وبخاصة منصب القضاء, لأنه لا يوجد دليل شرعي يمنع ذلك ولأن هذا التمييز ينتهك حقوق الانسان المنصوص عليها في الاعلان العالمي وفي الاتفاقيات الدولية ويخالف الدستور في كثير من البلدان ومنها العراق ومصر والاردن ودول اخرى غيرها .
وما تزال المرأة محرومة في كثير من حقوقها في العراق ومصر ودول عربية واسلامية اخرى كثيرة من تولي المناصب السيادية ومحرومة أيضا من تولي منصب قاضية في نطاق محاكم الاستئناف و محكمة التمييز والمحكمة الاتحادية بينما توجب قواعد العدل عدم التمييز في شغل الوظائف لأي سبب كان وإعتماد الكفاءة واحترام الدستور والقواعد الدولية والانسانية ذات الصلة .