من قاع الحياة



حامد حمودي عباس
2010 / 6 / 14

الكتابة من القاع ، تبدو لي أكثر طعما مما لو وضعت لنفسي موقعا آخر ، قد اختاره احيانا لتقصي ومتابعة حيثيات ما نعيشه من أحداث .. فأنا ومنذ فترة قد لا تمتد بعيدا ، وجدتني تواق لأن أكون في موقع الرصد المرتبط باللحظة بعينها ، كي انقل الحدث ، مشفوعا بما يختلجني من أحاسيس شخصية حياله ، ليكون هدفي في النهاية ، هو تأصيل الفكرة المبنية على قناعاتي ، والعمل على دعم هذه القناعات .
على أن تكون عملية الرصد هذه ، تتخذموقعا لها وفي اغلب الحالات ، غير بعيد عن قاع الحياة .. انه موقع يرتبط بأولئك الحرافيش ، ممن تمر فوق رؤوسهم مصائب لا يعرفها القابعون فوق قمم قد تحجب عنهم ما يجري بالفعل في ثنايا نفوس الملايين من البؤساء .. فالقمم في غالب الاحيان ، لا تتيح لمن يتربع فوقها ، أن يمتلك حدقة نسر جارح ، كي يستطيع بواسطتها ان يلمح وبوضوح ما يجري في قعر الوادي .
من هنا ، من القاع ، أقول لمن تشغلهم جدا ، أمور البحث في بطون التاريخ والسياسة والفلسفه ، ضمن مناكفات لا يفهمها اولئك المحسوبين على أنصاف البشر ، والذين تخطتهم قوانين الحكومات والطبيعة معا ، لتجعل منهم أسرى لأحلامهم ، يقتاتون على آمال سوف لن تتحقق ، فركنوا أمرهم الى سماء حلمها في تحمل الظلم المسلط على العباد قد يمتد الى ملايين السنين دون ان تكترث .. من هنا ، من قاع الحياة ، أقول وبكل ثقة ، بأنني سوف أبقى ملتصق وبشده بحركات الناس وأحاسيسهم الفطرية البسيطه ، التقط ما تنفثه أنفاسهم ، وأحيا إرهاصات تفكيرهم المجرده ، وأدخل بكل بساطة الى عوالمهم المكشوفة دون أدنى عناء .
من القاع .. سوف أكتب ، دون أن تصيبني نشوة إلتقاط الانفاس في كازينوهات المطارات الدولية الكبيره ، ودون أن تزاحمني تلك المشاعر الممقوتة بالكبرياء ..
وفاء ، هي إبنة لعائلة زحف الفقر على كيانها ليجعل منها مهددة بالضياع ، لولا ان اختار الشباب من ابنائها الهجرة من العراق الى هولندا هربا من ضغوط الحصار وويلات الحروب .. حيث لم يتسنى لوفاء ، وهي الانثى الوحيدة من بين ثلاثة اخوة ، ماتت امهم لتترك لهم أبا ينازع عوامل الشيخوخة .. أن تهاجر مع اخوتها لكونها كانت تقوم برعاية ابيها المسن .. حتى جاءت لحظة وفاة الوالد ، لتبدأ مساعي الاخوة في توفير أسباب التحاق اختهم بهم ..
لم يكن هينا أن تتم إجراءات سفر وفاء وبالسرعة المطلوبه .. وفي ذات الوقت ، كانت هناك فرص سهلة عن طريق زواجها بأحد اللاجئين أو المهاجرين ممن اكتسبوا حق الاقامة او التجنس .. ولم يكن بد آخر أمام الاخوة الثلاثه ، إلا ان يجربوا حضهم بسلوك هذا السبيل .
حينها دخلت حسابات انقاذ وفاء ضمن دائرة لا تحمل بشائر الخير ، ولا تتوفر فيها ضمانات تجعل من هجرتها أفضل حتى من بقائها في وطنها مع ما يحمله ذلك من احتمالات سيئه .
إنني ولحد هذه اللحظه ، لم يتحقق لي إدراك الحقيقة التي يقول بها أساتذة علم الاجتماع ، حين يرغموننا على الايمان بفكرة أن الانسان إبن لطبيعته التي يعيشها ، يعكس بأمانة ، ما يتلقاه من تلك الطبيعة من ارتدادات تتكون من خلالها عموميات سلوكه .. فاذا كان ذلك صحيحا ، فكيف يمكن أن تفسر ، تلك الملامح الاكثر عدوانية وأوضح همجية ، والتي تكتسي بها نفوس وشخصيات المئات من المهاجرين واللاجئين من بلداننا الى دول العالم الاول ؟ .. كيف يمكن لعاقل متمكن من السيطرة على عواطفه البدائية أن يتحمل الاحساس بمشاعر الغضب والقرف معا ، حينما يرى مجاميع من المهووسين والمتخلفين والمرتبطين بعلائق السحر والشعوذة رغم انهم يعيشون في اوروبا المتطورة لأكثر من عشرين عام ؟ ..
في دائرة الهوس هذه قدر لوفاء أن يكون لها مصير .. فاضطر الاخوة المساكين أن يزفوها لدعي بالعفة والشرف ، من اخواننا المؤمنين ، وهم في ذلك لم يقصدوا ان يجعلوا من الرجل وسيلة لنقل اختهم فحسب ، وانما ارادوا منه ان يكون لها زوجا صالحا يحميها من عاديات الزمن .
سافرت وفاء الى ألمانيا حيث يقيم زوجها المرتقب ، وتلقفتها زفة أبناء الدين الواحد والمذهب الواحد ، ليكمل صاحبنا دينه في نفس الاسبوع بعد وصول الفتاة .. ولم يكن لها إلا أن تخضع لتعاليم بعلها وولي نعمتها المملوء بالفضيلة ورجاحة العقل ، حيث كان في مقدمة من يحييون العزاء في شهر عاشوراء ، ومن أنشط الراعين لاقامة الاحتفالات الدينية وعلى مرور أشهر السنه .. فخلعت عنها ملامح الصبى ، وارتدت السواد ، ليكتسي بها جسدها بالكامل ، ولم يفتها ان تحافظ على نصيبها في ان تكون في عداد المؤمنات المحصنات ، حيث كانت تسير خلف ولي نعمتها وهم في طريقهم الى ( الجامع ) .. مطرقة على الدوام ، لا تستطيع التطلع لما حولها من روائع الحياة المتفتحه .
وخلال زمن حرص الزوج المؤمن على اختصاره ، أنجبت وفاء ثلاثة ابناء ، جميعهم من الذكور .. ولم يشفع لها ذلك في أن تبلغ موقعا محترما في نفس الرجل .. فكان يهينها لأتفه الاسباب ، ويشتمها بسخاء وسادية تفرضهما عليه تعاليم وضوابط القيمومة البذيئة .
لقد بلغت حدود عنجهيته الى أنه كان يحاول إغاضتها بتلويع ابنهما الاصغر بجمر سيكارته ، ليثبت لها بأنه حنش ، ولابد للعائلة من أطاعته بلا حدود .. وكان يتعمد بدعوة القطيع من رفاقه مرتين او ثلاثه لتناول طعام العشاء في بيته ، دون ان يدرك مدى معاناة زوجته المتعبة جراء رعاية صغارها ليل نهار .. لقد سقطت هنا جميع فرضيات علم الاجتماع وانكسرت جل معطياته حينما بقيت مجاميع من فارغي العقول ، يمخرون عباب ما منحتهم المجتمعات الراقية من حرية لا يستحقونها ، لتسرح وتمرح في غياهب الجهل ، عصية على التغيير بفعل القوانين والاعراف الراقية الجديده .. فكان ( زوج ) وفاء ، كغيره من أبناء الجاليات الوافدة من الشرق ، وفيا لاخلاق العشيرة وتعاليم منابر الوعظ الديني المتخلفة ، أكثر بكثير من الالتصاق بعوامل التحضر في المجتمعات الجديده .
مرت الايام مثقلة بهموم الدنيا على المسكينة واطفالها ، غير ان اشقائها ، والمقيمين في هولندا لم يكن لديهم علم بذلك .. لم يبلغهم أحد بأن لهم أخت يأكل جسدها حصار ظالم فرضه عليها وحش يسير على قدمين ، راح يأنس بالبصق على وجهها كل صباح ، ويعيرها بأنه تورط بجلبها من بيت أهلها المنحدرين من سلالة لا تليق به وهو يعيش في اوروبا .. لقد نسي هذا الدعي ، بأنه سليل مجتمع لفضه ليحل ضيفا على دولة لها الفضل في تعليمه كيف يمكن للمرء عبور الشارع العام ، وكيف عليه احترام مقدرات الاخرين دون منة ولا امتياز .. نسي بأن وراءه أصول لم ترقى الى مكامن الحضارة ولم تتفضل على البشرية بشيء عدا التفاخر الكاذب والمضحك .
وفي يوم أسود كئيب ، حاول هذا ( الزوج ) أن يطفيء ساديته في جسد وفاء الضعيف ، فقام وبحجة القيمومة على كيانها ، بقص جدائلها بمقص لكونها تجرأت بطلائه بالحناء .. لم تتمكن حينها من اقناعه بأن الحناء عربية المنشأ ، وأنها زرع من زروع الله على أرضه .. لقد كان وهو ينحني ليتلذذ بالقاء الجدائل المطلية باللون البنفسجي البراق على الارض ، وكأنه ضبع يفترس حياة ضبية جميلة .
يقول أحد أشقاء وفاء وهو يسرد علي تفاصيل هذه الحكاية المؤلمه ، بأن أخته أصرت رغم ما عانته من ظلم كبير، على أن لا تخبرهم بما يجري لها خوفا من ان يحدث ما يعكر صفوهم ويعرضهم للمشاكل .
بعد حين ، شاء القدر أن يقوم الاخوة الثلاثه ، بزيارة لاختهم في المانيا للاطمئنان على حالها بعد طول فراق .. إستقبلتهم وصدرها يضيق بشكوى لم تقوى على إطلاقها في بداية الامر ، وكوسيلة مشروعة لدى الزوج الحائز على حق القيمومة ، والحائز على واجب الطاعة المطلقة من قبل الزوجه .. وجه لها أمرا يحمل في ثناياه واسلوب طرحه صيغة مهينة كما تعود دائما لاعداد وجبة العشاء لاخوتها الضيوف ، تجاوز اشقاء وفاء الموضوع ضنا منهم بانها دعابة عابره .. ولم يمر وقت طويل حتى كرر الرجل شتيمته وزجره لها وبطريقة أكثر استهجانا وتحقيرا .. انبرى اصغر الاخوة للدفاع عن اخته مبديا استغرابه مما سمعه .. حينها إنفجر المرجل .. تحركت العاصفة .. تفتقت مكامن البخار ليفجر جدران الذل .. فانطلقت من وفاء صرخة الثوره مشفوعة بدموع امتد حبسها لسنين .
لقد هبت الضحية ولمرة واحده ، فحملت كل ما سهل حمله لتقذف به الوحش ، كانت مستعدة حينها لفعل كل شيء لتنتقم من ظالمها بدون وجه حق عندما أحست بتوفر الحماية لها .. انقلبت الى نمرة مقاتلة لا تردها قوه .. وكانت النهاية أن قام اخوتها بارغام المجرم على طلاقها في اليوم التالي .. ونشطوا فورا في انجاز معاملة نقلها للعيش معهم في هولندا مع اطفالها الثلاثه .
هكذا انتهت حكاية وفاء .. ولم تنتهي بعد أمنياتي بان تعمد الدول الاوروبية الى إطلاق يد شرطة الدرك ، لتهجم على تلك المجاميع المضرة من الوافدين الثقيلين على مجتمعاتها ، والعابثين بنظمها المتطوره ، وتقوم باستخدام الهراوات لطردهم وإعاداتهم الى حيث مستنقعاتهم الآسنه .