استرجل...أصل الرجولة مش سهلة



امال قرامي
2010 / 8 / 31

من العسير أن يكتفي الدارس/ة بوضع المشاهد السلبيّ ذاك الذي يستهلك ما يعرض عليه من مواد إعلامية مختلفة دون أن يعمل فيها النظر وينزّلها في إطارها العامّ ذلك أنّ السياق الثقافيّ الذي نعيشه يحتّم علينا التفاعل مع مختلف النصوص المكتوبة والشفوية والمرئية . من هذا المنطلق رأينا أن نتوقّف عند وصلة إشهارية بثّتها بعض الفضائيات المصرية في شهر رمضان محاولين الحفر في ما وراء الكلمات والصور ومختلف العلامات السيميائية واستيعاب الخلفيات التي تكمن وراء صياغتها.
تروّج وصلة الإشهار لمنتوج بيريل"Birell الذي يعرّف بأنّه مشروب من الشعير الطبيعي الخالي من الكحول. وينصح الذكور وحدهم بتناول هذا المنتج حتى يسترجلوا" ، دليلنا على ذلك أنّ السياق الذي ترد فيه الومضة الإشهارية يرتكز على جلسة علاجية مخصّصة للرجال وفيها يتقدّم أحد الأعضاء صائحا: أنا راجل فيؤكّد له بقية الأعضاء راجل يا حسام ثمّ نراه يجهش بالبكاء معترفا بأنّه أخلّ بواجبه تّجاه جنسه ولم يتمسّك بقيم الرجولة كالقوة والإقدام والمواجهة. لقد فرّ مذعورا ولم يكن قادرا على مواجهة رجال بطشوا به. وأمام هذا الوضع المزري والقادح في الرجولة ينصحه المختصّ العالم بأحوال الرجال وطرق علاجهم بالتفريج عن الهمّ الذي ألمّ به بشرب بيريل مردّدا : استرجل...أصل الرجولة مش سهلة ثمّ يبيّن له فوائد هذا المنتوج السحري فهو ينسيك طعم المرّ اللي بنشوفو . وتختم الومضة الإشهارية بعرض علبة بيريل ترافقها عبارة كده أرجل".
لقد استوقفنا هذا النّص الاشهاري وأغرانا بالبحث في دلالاته واستكناه بعض الجوانب الخفيّة التي تقف وراء هذا النوع من الخطاب البصري، لاسيما وأنّ هذه الصورة تنفتح على إمكانات لا حصر لها للقراءة والتفكيك وفق منهج تحليل المحتوى الذي يزعم العلم بنوايا منتجي الإرسالية الإشهارية ومقاصدهم الأيديولوجية،بل بما يدور في أذهانهم. ومن هنا تعيّن على المتلقّي الحصيف أن ينظر في مكوّنات الخطاب باعتبار أنّ اللغة أداة للتواصل ونقل الأفكار وأن يشيح بوجهه عن المعنى المباشر لصورة المنتوج ليتأمّل في كلّ ما تسرّب إلى الرسالة من دلالات .
1-مشروب بيريل Birell للرجال فقط
يذكّرنا هذا المشروب البارد بحاجتنا إلى تحقيق الارتواء لكنّ الرسالة التي ترافقه استرجل تحملنا إلى عالم الحارّ وتفضح استيهامات الرجال . فالمتلقّي تستهويه الرسالة فيقبل على استهلاك المنتوج الحلال والإبحار في عوالم رمزيّة تحيل عليها ثنائيات مختلفة البارد/الحارّ والأنوثة/الذكورة ،والطبيعة/الثقافة، والحلال /الحرام... المشروب يذكّرك بجنّة الخلد يغريك بالدخول إلى عالم الفحول يصل اللذّة بالرجولة يحفز المتلقّي ويهيج ويحرّك ويحيل على رمزية الساخن... ولكن ألا يحيل البارد على الأنوثة والحارّ على الذكورة!
انطلاقا من رؤية منتجي الإرسالية الإشهارية لقواعد الاستهلاك والجمهور المستهدف يكون الاستمتاع بهذا المشروب بعيدا عن الآخر /المرأة، وهو أمر غير مستغرب في ثقافة عالمة تأسّست على يد الرجال ووجّهت لقرّاء ...يذكّرنا هذا التخصيص بما كتب حول وصفات تقوية الباه التي تشدّ أزر الرجال ساعة يكونون في أمس الحاجة إليها ، فيتناقلون منافعها وينصحون خلاّنهم بتجربتها . كما أنّه يذكّرنا بنصوص تمحورت حول مجالس المجون واللهو حيث الأكل والشرب والغناء والفحش وسائر اللذات ...
غير أنّ لذّة الاستمتاع المزعومة التي تدّعي الفرادة والتفرّد تبدو مزيّفة غارقة في عالم الوهم ذلك أنّ المتعة تستدعي الآخر وتشتهيه. فالمجالس لم تخل يوما من نساء مستمتع بهنّ ومستمتعات ، والجلسات الرجالية الخاصّة للعلاج أو للإمتاع والمؤانسة تحضر فيها النّساء بالقوّة موضوعا للكلام أو استيهاما فلمن يسترجل الرجال وعلى من يسترجل هؤلاء، إن لم يكن على النسوان!
إنّ كل نقيض يستحضر نقيضه. فالصلب يستدعي الرخو، والحارّ يستدعي البارد، والحلال يذكّرنا بالحرام... وعلى هذا الأساس فإنّ الخطاب الإشهاري، وإن جرّد مشروب الشعير ممّا يُعيق استهلاكه في رمضان، وفي بلد ٌتُدين الأغلبيّة فيه بدين الإسلام، ونعني بذلك نسبة الكحول إلاّ أنّ هذا المشروب يُحيل عن قصد أو عن غير قصد، إلى مشروب الشعير المعروف والمتداول والمرغوب فيه لاحتوائه نسبة من الكحول، وكلّ ممنوع مرغوب فيه!.
2-الرجولة مش سهلة
هناك إقرار يكاد يحظى بالإجماع بأنّ الرجولة مسار عسير يتطلّب المكابدة والجهد وتقديم التضحيات الجسام. والمطّلع على كتب التراث يتفطّن إلى أنّها تزخر بنّصوص توضّح كيفيّة بناء الرجولة وتصف معاناة الذكور منذ الصبا حتى يكونوا وفق التأملات الاجتماعية التي ميّزت بين تنشئة الولد وتنشئة البنت. فحبت الرجال بصفات وفضائل جعلتهم في صدارة التراتب الاجتماعي. وينتبه المتأمّل في وصايا الآباء والأمهات والمؤدّبين والمعلّمين والشيوخ إلى أنّ صناعة الرجال ليست بالأمر الهيّن. وبالفعل، ما أصعب أن يكون الرجل رجلا!.
أمّا كتابات المعاصرين المنضوين تحت التيّار الإسلامي التقليديّ أو التيّار الإسلاميّ المتشدّد فإنّها لا تخلو من استعادة خطاب طالما هيمن على البنية النفسيّة للرجل والمرأة على حدّ سواء. فالرجولة تقوم على القوة والشجاعة والمروءة والنجدة والرعاية والمسئولية والاحتواء والصبر ونصرة المظلوم والشرف والغيرة على العرض والبذل والاحترام والوفاء والحماية والأنفة والترفع عن توافه الأمور والصدق والتضحية بالمال والنفس والعفة والطهارة والعطاء والكرم والتواضع النبيل وضبط النفس والعدل والكرامة والإنصاف وإغاثة الملهوف والإيثار والعزة والإقدام واحترام الذات والعفو عند المقدرة والتسامح، والبعد عن الدنايا... إلخ. (محمد المهدي، الرجولة في خطر،موقع إسلام أون لاين )وفق هذا الطرح يغدو اكتساب كلّ هذه الصفات أمرا صعب المنال في عصرنا الحاضر الذي شهد تحوّلات في السلوك والهيئة والمنظومة القيمية.فهل نحن إزاء أزمة رجولة؟
لئن كابر أغلبهم معتبرين أنّ أزمة الرجولة أزمة مفتعلة ومن البدع التي يروّجها الغرب حتى تهتزّ صورة المسلم فإنّ من الكتّاب والدارسين من أشار إلى بوادر أزمة إن لم نقل تجلّيات واضحة . فيتساءل هؤلاء عن الأسباب التي أودت بالرجال الفطاحل وجعلت أشباه النساء يسودون. فيعزوها البعض إلى لاستبداد السياسي الذي قهر الرجل وأذله فتعلم الناس مع الوقت أن يخففوا رجولتهم أو يتخلصوا منها خوفا من الخصاء على يد السلطات الفرعونية التي قررت أن تقتل (أو تخصي) كل رجل يوجد في البلاد حتى لا يهدد الاستقرار؟ هل هي طريقة التربية التي تولتها الأمهات غالبا نظرًا لسفر الأب أو انشغاله في عمله أو مع أصدقائه أو أمام التليفزيون والنت؟...هل هو الزحف الأنثوي على جوانب الحياة المختلفة والانتقال من مرحلة تحرير المرأة إلى مرحلة تمكين المرأة؛ وهو ما أدى إلى انسحاب الرجل من كثير من مواقعه كيدا أو عنادا أو مقاومة سلبية ردا على تهديد عقدة التفوق الذكوري لديه؟. (محمد المهدي، الرجولة في خطر)
وبالرجوع إلى الومضة الإشهارية ننتبه إلى أنّ الكلام قد رُتّب بطريقة قصدية تضيء جوانب من الأزمة التي يعيشها الرجال منها الفرّ بدل الكرّ ، ومنها البكاء بدل رباطة الجأش وضبط النفس، ومنها الخور والهشاشة والضعف بدل القوّة والاستئساد، ومنها الانفعال والعاطفية بدل الرصانة والتعقّل وحسن التدبير.وهو ما يجعل قيم الذكورة تتزحزح عن مكانها لتفسح المجال لبروز صفات كانت في العادة، من صفات النساء. ولعلّ ما يزيد الأمر حدّة ، من منظور كثيرين ، الحراك المسجّل في عالم النساء .فالتاريخ المعاصر يشهد انبثاق وعي نسائيّ دفع فئات إلى التمرّد والمقاومة في سبيل فضح بنى البطريكية وتفكيك ميكانزماتها والمطالبة بمزيد من الحقوق. فإزاء انكسار الرجال بعد استفحال القمع السياسي والبطالة والبؤس والاستلاب وكثرة الهزائم...، تظهر نساء يكابدن من أجل البقاء، يقفن بوجه المارد يصغن مصيرهن بكلّ إصرار.
من البيّن أنّ الغاية التجارية واضحة ومباشرة من وراء صياغة هذه الإرسالية الإشهارية إلاّ أنّ البيع يرتبط بسقف ثقافي تنتج ضمنه الارساليات وتستهلك ويستحضر واقعا اجتماعيا تتوتّر فيه العلاقات بين الجنسين.فالمقارنات التي يبرع البعض في عقدها بين ما حقّقته النّساء من مكاسب وما آل إليه أمر الرجال بعد أن تقلّصت هيمنتهم وضاعت هيبتهم وحدّت قيمومتهم ساهمت في تحويل الحياة إلى ساحة وغى .
وهكذا بات طعم الحياة مرّا. ولكن ما دلالات المرّ؟
3-المرّ اللي بنشوفو
نفترض أن المرّ يحيل أوّلا على الأوضاع التي يعيشها الرجال (والنساء حتى وإن غيّبت الوصلة الإشهارية حضورهن )، في المجتمعات العربية المعاصرة. فنحن إزاء أزمات متعاقبة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا ودينيا وفكريا تفقد المرء الإحساس بالأمان والراحة وتشعره بأنّ السعادة مطلب عزيز المنال.وعلى هذا الأساس فلا مفرّ من البحث عن وسيلة تُنسي الفرد التراجعات والانتكاسات وسلسلة الإخفاقات. قد تكون في اللهث وراء الدعاة وقد تكون في اختيار العمليات الانتحارية وسيلة للخلاص، وقد تكون في الإدمان على المخدرات إلى غير ذلك ....وما أكثر وسائل الهروب !
وما دامت الإرسالية موجّهة إلى الرجال فإنّنا نميل إلى افتراض ثان أنّ طعم المرّ الذي يذوقه الرجال ناجم عن التحوّلات الطارئة على وضعيّة النساء والتي كان لها انعكاس على مكانة الرجال إذ لا يخفى أنّ مركزية الأب داخل الأسرة بدأت تفقد مكانتها لفائدة الأمّ وأنّ نهوض النساء بواجب الإنفاق تسبّب في إذلال الرجال وخلخلة هويّتهم الجنسية .
ويتّضح أنّ الرسالة المبثوثة عبر هذه الومضة الإشهارية تنبثق من نسق ثقافي تخلخلت قواعده بسبب اكتساح الأنثوي الساحة وشعور أغلب الرجال بأنّ اختراق النساء معظم مجالات الحياة يهدّد الرجولة بالإبادة ويحدث فوضى في النظام/ نظام الهويات والعلاقات بين الجنسين.
ونفترض ثالثا أنّ المر اللي بنشوفو له صلة بما طرأ على الأدوار من تغيير أو ما حلّ بالهيئات من تبديل: نساء بسراويل يزاحمن الرجال ورجال بشعر طويل يحرصون على زينتهم ويمشون في الشوارع بتكسّر وغنج ودلال...ورجال يرغبون في تحويل جنسهم فضلا عن انتشار البغاء الرجالي والمثلية .... وقد ترتّب على ذلك ظهور نصوص بكائية "تنعى إختفاء الرجال و نقص الرجال ....فما الحلّ؟
3- استرجل"
من الواضح أنّ المنتوج يَعد الرجال بوصفة سحرية يحثّهم على تغيير ما بأنفسهم حتى يستعيدوا مجدا تليدا. فيكون بيريل هو الحلّ . أمّا الاستراتيجية المعتمدة فإنّها تقول: لنُعد لمساحة الاختلاف بين الجنسين حجمها إذ كلّما كان الاختلاف كبيرا أحسّ الرجل بتوازنه وشعر أنّه أكثر فحولة ، ولننتصر للصور النمطية المحرّكة للمتخيّل ولنتجنّب النساء حتى نستردّ الرجولة الضائعة .
نلمح من وراء هذا الخطاب الإشهاري صورة تقريبية عن المجتمع العربي الذي تفاقمت أزماته لتشمل أزمة الهوية الجنسية فبات ما يشغل البعض هو الحديث عن أزمة رجولة. وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا الخطاب ينهل من معين الثقافة السائدة وفي الوقت نفسهن يساهم في تشكيلها . فقد شهدنا بروز بعض الجمعيّات للدفاع عن حقوق الرجال وسمعنا مدى تركيز عدد من الدعاة على تحميل النساء وزر ما يعيشه العرب من ضعف وذلّ وأدركنا مدى تنشيط بعض الكتّاب للذاكرة.إنّ كلّ هذه العوامل تتفاعل لتقف حصنا عتيدا أمام تحقيق مكاسب جديدة للنساء، ولتنادي بضرورة رجوع النساء إلى مؤسسة الحريم.
إنّ الوصلة الإشهارية التي تبدو للعيان ساذجة و تافهة ذات شحنة دلالية هامّة. فمن خلال إرسالية تروّج لقيم ذكورية من أجل البيع نتبيّن أنّ الخطاب يروم التحكّم في البنى الذهنية للمتفرّج متوسّلا بالعلامة حتى يستثير رجولة خاملة تعاني فشلا وانكسارا ويفعّل الايديولوجيات البطريكية المهترئة . إنّها دعوة إلى الخروج من حالة الضعف والاسترخاء .
ونزعم أنّ الرسالة الثاوية في هذا الخطاب ،تسعى إلى تأنيب النساء حتى يتملّكهن الشعور بالذنب وإلى تنبيههن إلى ما يلقى على كاهلهن من أعباء: أوّلها التنازل عن مكتسباتهن، وثانيهما التوقّف عن المطالبة بمزيد من الحقوق مادامت هذه الحقوق تخلّ بمشاعر الطمأنينة والأمان والإحساس بالتفوّق التي يشعر بها الرجال حين تستقر هويتهم الجنسية على حالها دون خلخلة تحدثها النساء المناضلات والنسويات والناشطات الحقوقيات ... لتكفّ النساء عن المقاومة وليؤمنّ بأن لا مخرج ممّا نحن فيه إلاّ ب البيتوتة وتحجيب النساء وخضوعهنّ للرجال وقبولهن بالأمر الواقع. إنّه مطلب حيويّ يروم استعادة بريق الرجولة المهيمنة، حتى وإن اقتضى الأمر أن تكون النساء كبش الفداء. فما ضرّ لو تنازلت النساء عن حقوقهن ومطالبهن في سبيل أن يستعيد الرجال مجدهم. !
والواقع أنّ البحث عن طرق استعادة السلطة وهوامات البحث عن حضن الأمّ الحنون والدافئ، هي أشكال من التعويض عمّا يجري للرجال في العالم الخارجي من هزّات وصدمات. وهذا المطلب لا يخصّ العرب فقط .فمنذ 1970 بدأت تتشكّل في الغرب، حركات رجالية وجمعيات أكاديمية ذات توجّه سياسي اجتماعي تُندّد بما ترتّب على الحركات النسوية من نتائج خلخلت مكانة الرجل.
لقد قرأنا مقترحات عديدة تخصّ وسائل إنقاذ الرجولة منها التماهي مع الشخصيات الفذّة الممثّلة للرجولة المهيمنة منهم جيل الصحابة ومنهم من المعاصرين الشيخ حسن نصر الله، والشيخ يوسف القرضاوي والكاتب والإعلامي حمدي قنديل ...فهؤلاء رجال والرجال قليل .
علّمتنا الحياة أنّ هناك ألف طريقة وطريقة يثبت بها الرجل/المرأة وإنسانيته/ها ولكنّها المرّة الأولى التي نسمع فيها أنّ استهلاك منتوج ماء شعير بارد وطبيعي له كلّ هذه الفضائل. ولكن أنّى للرجولة أن ترمّم بمشروب بيريل .