الصخرة لا تنزل يا كامو / إعتذار متأخّر لبشرى



جمال علي الحلاق
2010 / 10 / 18

لأنّه عصى أمرها عاقبت الآلهة الإغريقية ( سيزيف ) برفع صخرة كبيرة من قاع الوادي الى أعلى الجبل ، ومع نهاية كلّ محاولة كانت الصخرة تتدحرج من قمّة الجبل الى الأسفل ثانيةً ، كانت العقوبة أبدية ، وهذا يعني أنّ على ( سيزيف ) أن يبدأ برفع الصخرة في كلّ مرّة تنزل فيها الى الوادي .

وبمرور الوقت ، وبانفتاح الذهن البشري على التأويل ، أصبح وجود ( سيزيف ) مثلاً لكلِّ وجودٍ متكرّر وخالٍ من أيِّ معنى ، الرتابة والروتين اليومي ، شروق الشمس ومغيبها ، دولاب الليل والنهار ، إنفلاق العمل اليومي المتكرّر ، كما لو أنّ الإنسان يتفنّن في خلق روتينه الحياتي ، من أجل عبور أيامه ، وفق نسق من التكرار لا يطالب صاحبه بأيّ جهد فكري ، يقصي العقل جانبا ، تصبح حركة الجسد ميكانيكية ، تشبه تماما آلية التنفس وما سواها .

بقي هذا التأويل قائماً ، وخانقاً في الوقت نفسه إمكانية أيّ أمل في النجاة ، حتى ظهر ( إلبير كامو ) بإطروحته العظيمة " سعادة سيزيف " بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ، لقد فتح ( كامو ) نافذة السعادة ، وأعاد الأمل والبهجة ثانية الى قلب وذهن ( سيزيف ) ، مشيراً الى أنّ العالم يمكن قراءته بطريقة إيجابية .

ما فعله ( كامو ) أنّه كرّس النظر على النصف الملآن من الكأس ، فبينما كانت الأسطورة تكرّس النظر على العبيثّة الدائمة في حركة غير منتجة ، منحنا ( كامو ) - ولأوّل مرّة - القدرة على أن نقف أمام تحرّر ( سيزيف ) من عقوبة الآلهة الأبدي ، زرع الأرضة في خشب العقاب الإلهي ، حتى كادت أن تنخره الى أقصاه ، كان النظر مكرّساً على رفع الصخرة ، فجاء ( كامو ) وكرّس النظر على انحدار الصخرة الى أسفل الوادي ، رأى أنّ نافذة الأمل هي في انحدار الصخرة ، بل أنّ الأمل يزداد سعة ، وأنّ ( سيزيف ) يزداد بهجة وسعادة كلّما انحدرت الصخرة عميقاً .

لقد كرّس النظر على انفلات ( سيزيف ) من قدرة الآلهة على جعل العقاب أبديّاً ، لأنّ طول مسافة انحدار الصخرة - سواء على صعيد المكان أو الزمان – هو نفسه طول مسافة تحرّر ( سيزيف ) من هيمنة الآلهة ومن نطاق عقابها . سيكون ( سيزيف ) – من الآن فصاعداً – حرّاً أثناء نزوله ، وهنا ، في هذه اللحظة سيشعر بعدم قدرة الآلهة على تكبيله ، إنّه ينزل فرحاً سعيداً أمام مرآى الآلهة جميعا . لقد انتبه ( كامو ) الى النصف الذي لا تستيطع الآلهة أن تفعل فيه شيئا ، فالعقوبة قائمة ، و( سيزيف ) خاضع لأمرها ، لكنّه أثناء النزول - ولأنّ العقوبة لا تكتمل إلا بالنزول - فإنّه ينزل حرّاً ، ينزل كإله ، وبدلاً من أن يكون القيد عقاباً على ممارسة الذات ، يكون بذرة تخرج منها الحريّة الشخصية .

هذه القراءة أعادت الحياة ليس داخل الأسطورة ، بل داخل حياة الطبقة العاملة ، منحتها الشعور بامتلاكها زمام أمور نفسها ، ف ( العمل / الصخرة ) محدود بوقت ، يشبه تماما المقايضة بالحريّة التي تعقبه ، العمل هنا ضريبة لا بدّ منها لكي يمارس العامل حياته التي يُحِبُّ أو يريد ، فإذا ما كانت ساعات العمل تتطابق مع عملية رفع الصخرة ، فإنّ الإنتهاء منها يتطابق مع نزول الصخرة حتماً ، وبهذا فإنّ سعادة ( سيزيف ) ستملأ وجه العامل حيثما كان الأرض ، ومهما كان مستوى أو شكل مهنته .

لقد كانت قراءة ( كامو ) علاجاً نفسيّاً - لي بالتحديد - دائماً ، ففي نهايات عام 1987 كنت أذهبُ الى معسكر الحلّة التدريبي فرحاً وبحيويّة هائلة فقط لأنّني كنت أنظر مباشرة الى لحظة تحرّري منه ، أدخل الى ساحة التدريب وأنا أفكّر تماماً بلحظة خروجي من الباب الرئيسي للمعسكر ، الخروج من القفص هو كلّ ما أفكّر فيه وبه ، إمتلاك هذا الشعور جعل ساعات التدريب تمرّ بلين حتى وإن كانت مقرفة أو مقزّزة ، وكان أصدقائي يحسدونّني على ابتهاجي ، لم أكن أعيش اللحظة ذاتها ، بل كنت أعيش ما وراءها . وبقي هذا الشعور قائماً وفاعلاً معي حيثما كنت على الأرض ، وفي أسوأ لحظات حياتي ، لذا كان السوء يعبر ولا يترك أثرا ، أشعر بالشفقة على الذين حاولوا الإساءة لي ، لأنّني كنت خارج الدائرة تماماً ، وأظنّ أنّ ( سيزيف ) كان يشعر بالشفقة ذاتها تجاه الآلهة لحظة نزوله الى الوادي ، وأنّهم كانوا يتقلّبون في المقلاة غيضاً وحنقاً من شعوره هذا .

لكنّني ، وبعد أن بقي ( كامو ) معي لأكثر من ربع قرن يحرسني من عقاب هنا ، ومن عقاب هناك ، أراني الآن ، ولأوّل مرّة أقف بعيداً قليلا عن مداه ، ليس لخلل في قراءته ، بل لأنّ زاوية جديدة أغفلتها الأسطورة ، ولم ينتبه لها ( كامو ) أيضا ، وهي إمكانية أن يرفع ( سيزيف ) الصخرة بلا انتهاء ، أي أن لا يكون هناك ثمّة قمّة ينتهي عندها الصعود .

وبإمكاني أن أقرأ الخلل ، سواء أكان في الأسطورة ، أو في قراءة ( كامو ) لها ، الى أنّهما كانا معاً نتاج مجتمع ذكوري ، وعليه فإنّ الأساس الذي بُنِيَت عليه الأسطورة والقراءة معاً هو ( العمل المأجور ) ، هذا القول لا يتقاطع مع خروج المرأة للعمل في لحظة ( كامو ) أو ما قبلها ، غير أنّ الزاوية العمياء سواء في الأسطورة أو في قراءة ( كامو ) هو العمل بدون أجر ، وكأعلى وضوح لذلك يصعد عمل ربّة البيت إنموذجاً .

ثمّة مستويات للمعرفة لا يمكن بلوغها إلا بالتجربة ، رغم كونها من الروتين اليومي ، فالقراءة قد تثير إحساساً ما ، لكنّني هنا أتحدّث عن إحساسٍ آخر لا يأتي عبر التلقين أو عبر المشاهدة ، بل يأتي فقط عبر الممارسة ذاتها ، وقد أتاح لي سفر ( بشرى ) الى أوربا أن أكون أنا ( ربّة البيت ) ، أي أن أقوم – ولو بالشكل الذي أطيقه – بكلّ عمل ( بشرى ) المنزلي ، أي كلّ شاردة وواردة ضمن تفاصيل العائلة داخل البيت ، إبتدأ العمل على أنّه تجربة جديدة عليّ أن أخوضها ، وكما في بداية كلّ تجربة كان حماسي شديداً ، فانجرفت بها وفيها بمعونة أبنائي أيضاً ، بعد وضعنا اتّفاقا عامّاً على تقسيم العمل ، وقد كانت البداية جيّدة جداً ، فقد استمر البيت على نظافته ، وأوقات الطعام على ميعادها ، كان إبحار السفينة هادئاً ليّناً ، ثمّ حدث أن اصطدمت السفينة كلّها بجبل الرتابة والروتين اليومي ، وكان الأولاد أوّل المنسحبين ، فبدأ العمل المنزلي بالتراكم على أكتافي لحظة بعد لحظة ، لكنّني مع كلّ خطوة أخطوها يتولّد تراكم جديد ، حتى بدأ الملل باختراقي من كلّ الجهات ، توقّفت عن القراءة والكتابة ، لم أكتب طيلة الشهر الماضي سوى مقالي الأسبوعي في صحيفة ( بانوراما ) ، هكذا توقّفت كلّ مشاريعي الكتابية ، وبدأت أفكّر ببطء سلحفاتي ، وأشعر بنعاس طيلة الوقت ، بل إنّني غالبا ما أتثاءب وأنا أتحدّث مع صديق يزورنا للسؤال عن حالنا بغياب الربّة ، ثمّ فجأة بدأ كلّ شيء بالتراكم ، أنا أغسل الصحون لكنّها لا تنتهي ، أرتّب الأسرّة والملابس لكنّها تنتثر هنا وهناك بين ساعة وأخرى ، أنظّف أرضيّة البيت فتأتي الرياح بأوراق الأشجار وبسيول مياه الغيوم الى الغرف والممرات ، الأوراق والأقلام والكتب ، البريد الذي لا يتوقّف عن إمدادنا بكم هائل من الإعلانات ، ورق من كلّ جهة ، أملأ الحاويات فأعود لأرى الركام الورقي ينمو كالفطر هنا وهناك ، بدأ يتولّد لدي إحساس عدائي ضدّ كلّ إعلان ورقي ، ولأنّني لا أتّقن النِسَبَ في الطبخ يذهب أكثر ما أقوم بطبخه الى الحاويات ، مثلما ينخر العفن الكثير من الخضراوات رغم حفظها في الثلاجة أو في المجمّدة ، أشعر تماماً بإحساس جيشٍ مهزومٍ عليه أن يحارب الى النهاية .

لقد تحدّثت عن ذلك بإسهاب مع أبنائي ، ونحن الآن نعدّ مراسيم الإحتفال بعودة ربّتنا إلينا ، لكن ، هذه المرّة ، لن تكون المسؤولة الوحيدة عن كلّ هذا النزف ، فإذا ما كانت أعمال البيت عقوبة أبدية فعلى العائلة أن تتقاسم هذه العقوبة بأجمعها ، لأنّ ترك ذلك على الأم أو الزوجة وحدها يعني أنّ ( سيزيف ) سيظلّ يرفع الصخرة أبداً ، وأنّ جبل العقاب لن تكون له نهاية في العلو ، وبالتأكيد فإنّ ذلك يتمّ كلّياً على حساب حياة ووجود الأم أو الزوجة ، وهذا يعني أنّ العائلة تساهم جميعا في قتل هذا الكائن الجميل مع سبق الإصرار والترصّد .