تأملات -اجتهاد- اقصاء النساء



رضا الظاهر
2004 / 9 / 12

ما جرى إقراره في المؤتمر الوطني المؤقت من مشاركة واعدة للنساء في المجلس المنبثق هو جولة أخرى في الصراع السياسي والاجتماعي الذي ينبغي أن تخوضه النساء متوحدات بعيداً عن الآيديولوجيا، وساعيات الى إثبات جدارتهن وتعزيز مكانتهن وتقديمهن المثال على الاسهام الناضج والفعال في مختلف القضايا التي تواجه البلاد في الظرف الراهن العصيب. ولابد أن يشارك في خوض هذا الصراع أولئك المدافعون عن حقوق شقائق الرجال، المتضامنون معهن والمتنورون المؤمنون بأن قضية تحرير المرأة، التي تشكل أساساً للديمقراطية وتحرير المجتمع، هي من أخطر وأعقد القضايا الاجتماعية.

ولسنا، هنا، بحاجة الى استعراض تفصيلي لمعاناة النساء بطريقة البكاء على الأطلال أو تعداد المناقب والمآثر بقدر حاجتنا الى تشخيص حقائق وإضاءة آفاق. فقضية النساء هي القضية الأكثر مدعاة للجدل، والأزمة التي تتجلى مظاهرها على نحو أكثر إثارة للاشكالية، والهدف الذي لابد أن يتشرف المناضلون بالاسهام في تحقيقه.

واذا كانت الواقعية تتطلب منا عدم إغفال خصوصيات مجتمعنا، فان هذه الواقعية ذاتها تستدعي عدم التساهل في وضع الحقائق المتعلقة بحقوق الانسان موضع التطبيق، أي عدم السماح باستغلال البعض لهذه "الواقعية" وتحويلها الى ذريعة لتبرير تقييد الحقوق والحريات تحت ذرائع وستر مختلفة، وهي حريات وحقوق أساسية ضمنها الميثاق العالمي لحقوق الانسان وأقرتها الاتفاقات الدولية.

ان أي "اجتهاد" ينبغي، اذا ما أريد له أن يكون انسانياً ومنصفاً ومقنعاً، أن يكون لصالح من يعانون من الظلم والاضطهاد والحرمان. ولا يستطيع الا العميان والمغرضون أن ينكروا أن النساء هن الأكثر معاناة من الظلم والاضطهاد والحرمان، والا فانه لن يبقى أي معنى لهذا الاجتهاد، بل انه سيتحول الى ذريعة تكشف عن جوهر الموقف المتخلف والظلامي من نصف المجتمع.

كما أنه من غير المبرر أن "يجتهد" البعض قائلين ان هناك من الحاجات الاجتماعية "الآنية" ما هو أهم بما لا يقاس من حريات وحقوق النساء. ويضع الواقع المتخلف بيد قوى المجتمع المحافظة أسلحة "واقعية" تقاتل من أجل الماء والكهرباء الأهم من حقوق النساء، متناسية أن في هذا كثيراً من الابتذال والتسطيح لقضية اجتماعية كبرى. والحق أن هذا المنطق "الأعرج" لن يخرج عن دائرة مقارنات مغلوطة ومقصودة، وهي مقارنات ليست جديدة على أية حال، لكنها تستحق الفضح في أقل تقدير.

وهناك، من ناحية أخرى، مبدأ التحيز عبر اقحام تفسيرات الفكر البطرياركي على الفقه "الاسلامي"، وهو ما يتجلى في المطالبة بتغيير قانون الأحوال الشخصية بالطريقة التي تسلبه تلك الحقوق الموجودة فيه لصالح النساء، في وقت ينبغي أن يحدث فيه العكس، أي تعديل القانون بالاتجاه الذي يمنح النساء مزيداً من الحقوق المشروعة، وهو ما يتوافق مع الديمقراطية التي تجمع القوى السياسية على القول بأنها تسعى الى تحقيقها.

أما أولئك الارهابيون والظلاميون، من المتفننين في عمليات النحر السادية للأبرياء، والدجالين الذين يحاولون استغلال "اسلامهم" لادامة تدني مكانة النساء وتأبيد تبعيتهن، والذين تنتهي فتاواهم و"جهادهم"، من بين مظاهر ظلامية بشعة، الى فرض البراقع وحبس النساء في البيوت وحرمانهن من العمل والتعليم ومنع الموسيقى، فهم مشوِّهون للحقائق، عبر تفسير مقصود وتعسفي للنصوص، وسعي من جانب بعض "الفقهاء" الى استمرار الراهن الذي فيه استمرار لمصالحهم الشخصية الضيقة.

* * *

أليس حريّاً بمن يريدون أن يعيدونا الى عصر وأد النساء أن يعرفوا بأن رجلاً كان جالساً مع الرسول الكريم فجاء ابن له، فأخذه فقبّله وأجلسه في حجره، ثم جاءت ابنة له فأخذها فأجلسها الى جنبه. فقال رسول الله: هلاّ عدلت بينهما ؟ (أخرجه ابن عساكر عن أنس بن مالك) ..

أليس حرياً بأولئك الذين يريدون إبقاء النساء بين الجدران أن يعلموا أن الامام علي بن أبي طالب هو الذي استخدم المحرضات في صفين لتأجيج حميّة مقاتليه، وكان فيهن من يتفوق على رجاله في شدة الصوت وبلاغة الخطاب ؟

أليس حرياً بمن يعتبرون النساء ناقصات عقل ودين أن ينظروا الى تلك اللوحة التي رسمها يحيى الواسطي من القرن السابع والتي تصور امرأة تلقي دروساً على الرجال وهي مكشوفة الوجه ؟

أليس حرياً بهم أن يفهموا أن التأنيث والتذكير متعادلان في اللغات السامية، حيث يقول الباحث العراقي القدير الراحل هادي العلوي اننا نجد العربية، وهي أكمل وأحدث اللغات السامية، تؤنث الكثير من مظاهر الطبيعة والمجتمع الكبرى كالشمس والسماء والأرض والحرب والسلم والقبيلة والدولة والحكومة والسوق... وتؤنث جموع التكسير كلها، واليه يشير القول المشهور لأحد النحاة:


لا أبالي بجمعكم كلُّ جمعٍ مؤنث


وأخيرا أليس حرياً بهم أن يتعظوا بدروس وعبر التاريخ القديم والحديث حيث نساء العراق من شاعرات سومر وبطلات كربلاء مروراً بأولئك المكافحات اللواتي هزجن متحديات الاحتلال في ثورة العشرين ووصولا الى من أسقطن القرار البغيض 137، يقدمن المثال الجدير بالاجلال والموقف الذي يستحق الفهم المتحضر والتعاطف العميق.

هؤلاء اللواتي كتبن صفحات ناصعة في تاريخ بلادنا ويتحملن، اليوم، أعباء حاضرها المليء بالمحن والصعاب، يراد لهن أن يبقين نائحات، ومظلومات، ومحرومات، ويائسات، وخائفات من مستقبل مجهول..

ويراد لهن أن يبقين الصامتات عن حقوق لهن أقرتها السماء قبل الأرض، والخانعات لمصير "مكتوب"، والمهمشات الخاسرات في كل حين..

هؤلاء سترتفع أصوات احتجاجهن مرة أخرى وأعلى، وستصدح أغانيهن مرة أخرى وأعذب، وستضيء عقولهن النيرة مرة أخرى وأكثر اشراقاً، وستخفق قلوبهن مرة أخرى وأكثر لهفة على غد عراق يرفعن فيه، مع أشقائهن، رايات تخفق من أجل وطن للحرية والعدالة والمحبة والمساواة..
طريق الشعب