جريمة الشرف أم شرف الجريمة؟



غسان المفلح
2010 / 10 / 29

رمزية الجريمة وما تحتويه وتكثفه من دلالات متناقضة، في أن تمتلك القدرة العقلية وتترجمها بدنيا، وتتبختر بالحافز القيمي والوجداني لقتل ابنتك أو شقيقتك بدم بارد أو حار، هذا يعني أن مجمل هذه القيم أقوى لديك من أي رابط آخر، وقد تغلبت على رابطة الدم والقربى، وتغلبت لديك بأنك حولت أقرب الناس إليك إلى عدو لك وقمت بقتله، وأيضا أن يتحول رجل مسالم إلى رجل عنيف وقاتل لأقرب الناس إليه، هذه قضية وإن كانت تحتاج إلى دائرة مكافحة الجريمة، إلا أنها تحتاج إلى العمل على تفنيد ذلك الإحساس بالرفعة بعد القتل، برفع الرأس بعد أن طأطأته لحين! فهل هذه القيم لها علاقة بالدين، أم هي سابقة عليه؟ كي نتخلص من ملف جريمة الشرف وتخصيصه بالإسلام فقط، الذي يقول"على الحاكم أن يطبق حد الزنا على الزاني والزانية، وهو الجلد مائة جلدة لغير المحصن، والرجم حتى الموت للمحصن" و"حسب الشريعة الإسلامية الحاكم هو الذي يطبق الحكم، وليس على أي شخص آخر تطبيق الحكم وتنصيب نفسه حاكما، ثم حتى لو زنى الرجل والمرأة، فليس للزوج أو للأب أو للأخ أن يقيم الحد، بل هذا من مسئولية الحاكم الشرعي؛ لأن الإسلام لا يجيز تطبيق القانون لأي كان، لئلا تعم الفوضى".
مسألة عدم القتل أو تأخيره هي مسألة تقنية، لكن حد القتل موجود في الإسلام، كما كان موجودا في الأديان السابقة عليه وفي عادات البشر، وهذه قضية لا تحتاج من مشايخنا وعلماءنا المسلمين للكثير من التفسيرات والتأويلات وإنما تحتاج إلى اجتهاد جذري يمنع القتل. الإسلام المتاح حاليا من قبل السلطات السياسية ليس من مصلحته أن يقوم بهذا الاجتهاد، كما هو الحال مع سلطته التي تمنع القوننة المدنية.
حد الزنا الإسلامي بمعناه الديني متوارث عن اليهودية، كذلك الحال بقيت الكنيسة في أوروبا العصور الوسطى ومابعدها تطبق قتل المرأة بدواعي الخطيئة، وما جرى لاحقا في أوروبا هو إنهاء للحالة المولدة لذاك الشرف الديني أو الوضعي الذي يتيح هذا النوع من القتل ويشكل حافزا نفسيا وقيميا له. والكنيسة الآن لم تعد معنية بظاهرة الزنى وتركتها للجتمع كليا، وإن كان البابا بنتديكوس قد تحدث عن الانحلال الأخلاقي وتفكك الأسرة في المجتمعات الغربية، أثناء زيارته التاريخية لبريطانيا، إلا أن قضية الزنى لم تعد حدا يمارس القتل بناء عليه.
بعد هذا المرور السريع على البعد الديني، والذي لا يحتاج إلى كثير عناء كما قلنا لنعرف، أن الوضعي المجتمعي هو الذي اجتهد في تغيير الحد الديني في هذا المجال ومجالات كثيرة غيره، ومنها أيضا منع عقوبة الإعدام نهائيا، وهذا ما بدأت تطبقه غالبية المجتمعات في العالم. قتل الإنسان بحد ذاته مهما تلون دينيا أو وضعيا يحتاج إلى قوننة صارمة تمنعه نهائيا.
نأتي الآن إلى الشرف الذي يقتل المرأة، والذي يعرفه ابن منظور بقوله" شرف يشرف شرفاً، فهو شريف، أي: علا في دين أو دنيا. والجمعُ : أشراف و شرفاء. والشرف و المجد لا يكونان إلا بالاباء" لانجد في التعريف أي محدد نسائي للشرف! الخطير في الموضوع أن الشرف وإن كان يخصص لتطبيقه على المرأة دون الرجل، فإن اختصاره هذا لا يجب أن يلغي سعة حضوره في المخيال الشعبي، وهذا المخيال الشعبي يتداخل فيه الديني مع الوضعي القديم حتى قبل ظهور الديانات الثلاث الكبرى، وبقي ملتحقا بهذه الأديان لأنها إنتاج منطقة واحدة، كان يعتبر شرف الرجل هذا قد انتهكته تلك الصبية، انتهاك شرف الرجل، وأي شرف هذا الذي علينا معالجته؟ وقبل المضي في موضوعنا لا بد أن نذكر أن جرائم الشرف لم تزدد كما يشير بعض المدافعين عنها من نشطاء في دراساتهم، أو في بحوثهم، بل أنها تراجعت كثيرا في المجتمعات العربية والإسلامية عموما، لكن الأمر المهم في هذا السياق، أنها باتت جرائم تشكل حقلا للإعلام المعاصر والذي ساهمت الثورة المعلوماتية بدخوله إلى حقول ما كان له أن يدخل إليها من قبل، جرائم الشرف كانت قائمة على قدم وساق، في السابق، ولكنها لم تكن حقلا للإعلام، ولم تكن النت وماسببته من الدخول إلى أدق تفاصيل الحياة الاجتماعية، نحن مع وقف هذه الجرائم تماما، ولكن بالمقابل، علينا ألا نصور الأمر بأنه نتاج حديث للإسلام الحالي، والذي يندرج في سياق الإسلام فوبيا المنتشرة هذه الإيام، وتراجعها أمر فرضته الحياة وتطوراتها، وليس تغييرا في الحد الإسلامي. وهذا إن دل فهو يدل على نقطتين رئيسيتين:
الأولى- أن الإسلام ومجتمعاته مثله مثل بقية مجتمعات الأرض وأديانها، قابل للتطور.
والثانية- أن المعلوماتية باتت تشكل رقابة على المجتمعات، وهذه قضية يجب ألا يتعامل معها أرباب الشعائر الدينية بخفة، بل يجب أن يكونوا أكثر مواكبة لهذه القضية وما تتطلبه من اجتهادات وخلافه.
جرائم الشرف المتابع لها في المجتمع السوري، غالبا تكون في بيئات اجتماعية محافظة، دينيا أو تقليديا، وهي تغطي مساحة كل التكوينات الاجتماعية السورية دون استثناء، وإن كان هنالك تباين فهو نسبي.
التخلي عن هذا الشرف، هذا هو الحل...ليعذرنا السادة القراء، وهذا هو لب موضوعنا الحالي عن جرائم الشرف في سورية، يجب التخلي عن هذا الشرف الذي يجعل الرجل يقتل أخته أو ابنته دون أن يلجأ للقضاء.
هذا الشرف الذي يجمع بين المعايير والقيم التقليدية والحد الديني، يجعل الموضوع في تناوله حساسية خاصة عند المسلمين، لأنه متداخل مع حد ديني. حتى في السابق وربما لازال هذا الأمر معمولا به في بعض المجتمعات الصغيرة في سورية، أن يتدخل وجهاء هذه المجتمعات التقليديين بحل مشكلة شرف دون تطبيق حد القتل، من خلال تزويجهم للزانية. وهذه العادة وهذا التقليد قديم جدا في سورية، وكان له مفعولا كبيرا في الحد من القتل بدواعي الشرف، والسؤال الآن: ماذا فعلت حكومتنا في سورية للحد من هذا القتل!؟
هل وفرت جاهزيات قانونية تحمي المرأة وتحمي حرياتها الفردية والعامة؟ أو حتى هل ساهمت وتساهم في الحد من هذه الجريمة؟ أم أن الأمر متروك لتلك التطورات التي تحدث بفعل الزمن لأنه ليس في برنامجها قانونا مدنيا يحمي الجميع؟
هل يستغرق هذا الحقل من الموضوع الحديث عن السياسة من أجل وضع حد لقتل المرأة؟ أعتقد أن لب الموضوع سياسة. ربما نتطرق له في مقال لاحق، لأنني سبق وتطرقت لهذا الأمر في أكثر من مناسبة.
أما الآن فالسؤال لازال قائما: منع جريمة الشرف يتم بمنع شرف ارتكاب هذه الجريمة؟ على المهتمين أن يمارسوا فتحا لآفاق النقاش أكثر من الحالي، في مجتمع أحد أقليات سورية، عندما ينتشر خبر جريمة زنا قامت به ابنة رجل أو أخته، فهو لا يضع غطاء الرأس التقليدي وممنوع عليه الجلوس في حضرة الأجاويد، ماذنب هذا الرجل صاحب هذا الشرف بالذات، وما الذي يمكن أن يجعله يعود للجلوس مع الأجاويد؟ هل أثر انتشار التعليم على الحد من هذه الجرائم؟ نعم. هل قيام أحد الرجال التقليديين المسلمين في قتل أخته أو ابنته في دفاعه عن شرفه هذا، يجعل كل المسلمين قتلة؟ لماذا تراجعت جرائم الشرف في المدن الكبيرة في سورية؟ كيف يمكننا تفكيك هذا الشرف بالذات، من أجل شرف أكثر رحمة ومدنية وتسامحا؟
الحرية وضمان الحريات العامة والفردية هذه مهمة الدولة، والتي تتيح تعميم النقاش العام ومأسسته في مثل هذه القضية من أجل إيجاد مؤسسات وثقافة وقيم جديدة تحل محل قيم الشرف الذي يقتل. كيف يمكن لهذه القيم أن تدخل بيوتنا وتربية أبناءنا؟ رغم كل ما قيل يجب ألا نساهم في تضليل الثقافة والحقوق والسياسة، قضية جرائم الشرف هي ظاهرة محدودة جدا في سورية، لو قارناها بضحايا شرف الدعارة المكشوف والمقنع والمسكوت عنه وعن حقله الممتد إلى حقول أخرى. بقيت ملاحظة أخيرة: في الدول المعاصرة أية جريمة منتشرة في المجتمع، منعها يبدأ من الحقل السياسي ثم القانوني، ويتداخل مع الثقافي والتربوي وخلافه، لكن البداية سياسية.
مقال ليوم 29.10.2010 الخاص بالحملة ضد جرائم الشرف في سورية.