التغطية الإعلامية لدور المرأة في الانتفاضة



دنيا الأمل إسماعيل
2004 / 9 / 27

يرتبط الإعلام بجملة من الشروط الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية، الثقافية، التي تصبغه بنوع وتوجهات الفكر الذي يعبر عنه، ويخدم مصالح القوى المتحكمة فيه.ومن ثم يصبح بديهي القول أنّ المؤسسة الإعلامية لا تنشأ من فراغ، ولا تعمل إلاّ ضمن الإطار العام المرسوم لها، وضمن الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها. وفي هذا السياق يجب التنبيه هنا على أنّ الخطاب الإعلامي للمؤسسة الإعلامية يتأثر بالمجتمع الذي ينتمي إليه، وبما يحمله هذا المجتمع من قيم وأفكار واتجاهات، تساهم جميعها في تحديد شكل ومضمون الخطاب الإعلامي عبر وصوله إلى الجماهير.
وإذا كان علينا أن نحاول الاقتراب من مضامين التغطية الإعلامية لدور المرأة في انتفاضة الأقصى، علينا أن نقر أولاً أنّ وسائل الإعلام تحمل ثقافة معينة، هي ثقافة المجتمع الذي تنتمي إليه، ليس ذلك فقط، بل إنها أيضاّ تتجاوز مجرد نشر الثقافة السائدة للمجتمع إلى إعادة إنتاجها وتوليدها مرة أخرى، بحيث تساهم في تأكيد ما هو سائد، واستبقاء الاتجاهات والقوى المسيطرة على حساب الاتجاهات التنويرية والتغييرية.
إنّ خصوصية موضوع المرأة، كموضوع اجتماعي، بما تتضمنه من ارتباط وثيق بالموروث الثقافي والديني والاجتماعي، تنبع من تميزها بقدر من التعقيد والتشابك، وحاجتها إلى امتداد زماني يسمح بالحوار والتفاعل والتراكم البناء،ونضج مجموعة من الظروف الذاتية والموضوعية، وهذا كله يمنحها حركة بطيئة بخلاف الموضوع السياسي مثلاّ.
وإذا ركزنا على المجتمع الفلسطيني سنجد أنّ الدين والعادات والتقاليد أعطته الشكل المحافظ، الذي انعكس بدوره على مجمل علاقاته، وعملياته الاجتماعية والثقافية تحديداّ، ذات الصلة الوثيقة بالمؤسسة الإعلامية.التي أعادت إنتاج هذا الشكل عبر تبنيها لمضامين محافظة، باستثناء حالات قليلة جداّ، وغالباّ ما تكون مرتبطة ببعض المؤسسات النسوية ذات النهج التغييري على أساس فهم أعمق وأشمل للدين. وعلى الرغم من أنه ليس مجال هذه الورقة تحليل مفهوم المحافظة والتحرر، إلاّ أنه يمكن ملاحظة سوء الفهم الذي يحيط بهذا المفهوم، ما انعكس سلباً على معالجة قضية المرأة في إطارها الصحيح. وللأسف الشديد فإنّ الإعلام الفلسطيني وقع في المأزق نفسه، حين تناول القضية دون إعمال الجانب النقدي للاتجاهات التي تحكمها، فكان معيناً على التخبط، أكثر من كونه دالاً على الطريق الرشيدة، وهذا بدوره يعيدنا إلى النقطة الأساس في هذه الورقة ، وهي أنّ الإعلام لا ينشأ من فراغ، وإنما هو انعكاس لما يدور في المجتمع، على الرغم من قدرته على أن يكون انعكاساً كاشفاً، بالمعنى النقدي.
وإذا كان الإعلام الفلسطيني، شأنه شأن بقية الإعلام العربي، قد تناول المرأة في أربعة أدوار هي: دور الأنثى، دور الزوجة، دور الأم، وأخيراً دور المواطنة. فإنه مع بداية انتفاضة الأقصى، ركز اهتمامه بصورة أكبر على الدورين الأخيرين، وإن غطى دور الأم على دور المواطنة، لأسباب كثيرة ، سنتعرض لها عند تناول هذين الدورين بشيء من التفصيل.
لكن بقى أن نقول : أنّ التغطية الإعلامية لدور المرأة في انتفاضة الأقصى ظل اهتماماً طارئاً فرضته ظروف الانتفاضة نفسها، سواء جرى تناول هذا الدور سلباً أو إيجاباً، وإذا توقفت الانتفاضة غداً فسينحسر هذا الاهتمام مباشرة. وهو طارئ أيضاً، لأنّ قضية المرأة الفلسطينية، برغم كل الضجيج المثار حولها هنا أو هناك، أمس أو اليوم، لم تبلور بعد نفسها، ولم تخلق مقوماتها الذاتية كاستراتيجية وطنية ومجتمعية في آن. كما أنه ظل اهتماماً ثانوياً، لسببين: الأول: يتعلق بالثقل الذي تمثله قضية المرأة في المجتمع الفلسطيني، حيث لا يعدها قضية ذات أولوية، والثاني: يتعلق بهوية الانتفاضة ذاتها المشكلة من مجموعة أدوار ثانوية وفرعية لفئات متعددة من الشعب، تكاملت هذه الأدوار لتشكل في النهاية دوراً رئيساً في مسيرة النضال الفلسطيني.
دور المرأة الفلسطينية كأم:
تعد صورة المرأة كأم في الإعلام الفلسطيني هي الأبرز، ليس فقط منذ بدء انتفاضة الأقصى، ولكن قبل ذلك بكثير، لكن من المؤكد أن هذه الصورة قد ازدادت وضوحاً مع الانتفاضة الأولى، ثم في الانتفاضة الحالية، التي تضاعف فيها الحديث عن أم الشهيد، البطلة، المعطاءة، الصبورة، في ظل تصاعد العنف الإسرائيلي كماً ونوعاً، وعلى الرغم من قداسة هذا الدور، إلاّ أنه جرى تحويره –غالباً- ليناسب الأهداف السياسة العامة. وبالتالي تم إزاحة كينونة المرأة كإنسان يستمد وجوده وتميزه من ذاته، لصالح ارتباطها بأبنائها، وكأن وجودها أصبح مستمداً من وجودهم –المعنوي هنا- وليس العكس. ولهذه الحالة خلفياتها الاجتماعية، التي يعاد إنتاجها بشيء من القداسة في وضع الاستشهاد. فمنذ أن تتزوج الفتاة ، تعرّف بزوجها، وبعد أن تنجب، يلغى تعريف الزوج لصالح التعريف بها من خلال الابن، فهي أم محمد وأم حسين وأم أحمد وهكذا، حتى أصبحنا لا نستغرب وجود الكثير من الأبناء الذين لا يعرفون أسماء أمهاتهم.
هذا من ناحية المضمون، أما من ناحية الشكل، فقد كان الخبر، ثم التقرير أكثر أشكال الفنون الصحافية معالجة لهذا الدور، خاصة في الصحافة الرسمية، فيما استأثرت الصحافة النسائية، على قلتها، بالقصة الإخبارية، في محاولة لإعطاء المرأة مساحة أكبر من الاهتمام، وهي هنا الفئة المستهدفة لهذه الصحافة. وارتبط بهذا التوجه تغليب الحس الإنساني على الجانب السياسي والشعاراتي، وكان هناك إلى حد ما إنصات جيد لآلام المرأة الدفينة والمركبة وهي تعيش هذه اللحظة الحاسمة من حياتها.
لكن على الرغم من أنّ أمهات الشهداء جميعاً قد تساوين في المصاب، غير أنهنّ لم يتساوين في الرعاية الإعلامية، وهي هنا تساوي نوعاً من الدعم المعنوي، بل تفاوت الاهتمام بهنّ بين التبجيل المبالغ فيه إلى حد الفانتازيا، والاهمال الشديد إلى حد النسيان أو مجرد الذكر العابر.

دور المرأة كمواطنة:
وهو دور تنامى في المجتمع الفلسطيني مع مع تنامي فكرة المجتمع المدني. وهو دور يتعامل مع المرأة باعتبارها ذاتاً فاعلة تمتلك كينونة مستقلة، وليست تابعاً أو خاضعاً. وهذه الذات الفاعلة تتجاوز حدود المنزل والأسرة إلى مجالات تطال حدود المجتمع والوطن ككل، وتتجلى في اهتمامها بالشأن العام، وإن تفاوتت مستويات هذا الاهتمام لأسباب تتعلق بالمرأة ذاتها، أو لأخرى ناتجة عن طبيعة وبناء المجتمع.
ويرتبط هذا الدور في المجتمع الفلسطيني بالشريحة العليا من النساء ذات الاهتمامات النخبوية، والمنتمية غالباً إلى المؤسسات الأهلية والنسوية أو إلى الأحزاب. وقد لوحظ خلال انتفاضة الأقصى تأخر ظهور هذا الدور عن دور الأم بفترات طويلة، بعكس ما حدث في الانتفاضة الأولى، حتى أن العديد من المؤسسات النسوية الناشطة وجدت نفسها في حالة إرباك شديد وهي تفاجأ بالانتفاضة تدق جدرانها دون أن تقدر على التفاعل السريع معها. وهذا أدى بها في النهاية إلى أخذ مساحة من الوقت حتى استوعبت الحدث، وحورت برامجهاإلى ما يناسب من وجهة نظرها ما هو موجود على ارض الواقع. لكنها وهي تفعل ذلك لم تنجح أن تخلق استراتيجيات نسوية فاعلة بقدر ما غيرت فقط في محتويات أشكال فعالياتها القديمة. بمعنى أنّ نشاط المؤسسات النسوية والأهلية ظل منحصراً في الندوات والورشات والمؤتمرات كما هو في السابق، وإنّ حوّر مضمونها لصالح موضوعة المرأة والانتفاضة، ليبقى هذا هو الشيء الوحيد الجديد، وإن تحول فيما بعد إلى عمل روتيني لا يثير اهتمام سوى المتنافسات على مساحات الضوء القليلة في هذه البلاد.
ونستطيع أن نلاحظ تأخر ظهور هذا الدور في الصحافة الفلسطينية من خلال عدد من التحقيقات والمقالات التي حاولت أن تفسر انحسار وتراجع دور المرأة في انتفاضة الأقصى. وهنا علينا أن نؤكد على أنّ الفجوة بين النخبة النسائية والقاعدة الجماهيرية كانت موجودة قبل اندلاع الانتفاضة،التي جاءت لتكشف عن نواقصنا، ليس فقط على مستوى الحركة النسوية ولكن في مجمل حياتنا الاقتصادية والإجتماعية والثقافية.
لقد بح صوت الحركة النسوية قبل الانتفاضة من أجل المطالبة بربط الجانب المجتمعي بالجانب السياسي، وعدم تغليب الأخير على الأول، وبمجرد اندلاع الانتفاضة، ركنت هذه الأصوات إلى السكون، مصابة بحالة من الذهول والوجوم. وحين نطقت ناقضت نفسها، واشتغلت على قضايا آنية ذات طبيعة سياسية انفعالية لم تستطع تجاوزها لبلورة رؤية واضحة مما يحدث، ومن ثم العمل على تحقيق أهداف كان من المفترض أن تكون مسبقاً على الأجندة النسوية، حتى أننا وجدنا العديد من المؤسسات النسوية تتحول إلى الجانب الإغاثي الآني ليس أكثر،على ما فيه من إهانة للمرأة، وما يحمله من دلائل على الفكر الذي تحمله هذه المؤسسات عن طبيعة دورها في المجتمع.

معالجات أخرى لدور المرأة في الانتفاضة:
إلى جانب الدورين السابقين، عالجت الصحافة الفلسطينية أدواراً أخرى للمرأة الفلسطينية في انتفاضة الأقصى، باعتبارها إحدى فئات الشعب الذي تعرض جميعه للعدوان، فكان منها الشهيدة والجريحة والمقاومة للهدم والتجريف، والمحاصرة في المدن والقرى وعلى الحواجز. وهي معالجات كانت بطلتها الأولى والأساس، تلك المرأة البسيطة، ابنة المخيمات والفقر غالباً، وكان دوماً دور المرأة الجنوبية، خاصة في قطاع غزة، هو الأكثر بروزاً ومعاناة وصموداً أيضاً. وشهدت مناطق الاحتكاك المباشر مع العدو الإسرائيلي يومياً، مئات القصص اليومية لنساء قاومنّ وتصدينّ وعانينّ بعيداً عن المزايدات الإعلامية، بل إنّ كثيراً منهنّ كنّ يرفضن الحديث مع وسائل الإعلام لعدم ثقتهن المبررة أحياناً في جدوى الحديث.
وفي هذه المعالجات تساوت إلى حد كبير معظم الصحف في المساحة والأهمية التي أولتها إياها.
بقى أن أشير هنا إلى ملاحظة ملفتة للنظر وهي أن الدور الذي قام به الصحافيون الرجال في التغطية الإعلامية لدور المرأة في انتفاضة الأقصى، كان أكبر بكثير من ذلك الدور الذي قامت به الصحافيات، خاصة فيما يتعلق بالنزول إلى ميدان المواجهة، ومتابعة الحدث أولاً بأول. وهذا بالطبع يعود مرة أخرى إلى طبيعة المجتمع الفلسطيني المحافظ الذي لم يتقبل بعد مثل هذه الأوضاع وإن كانت هناك بعض الاستثناءات.