هل الأنثى هي الاصل ؟



ابراهيم الحيدري
2011 / 1 / 28

عرفت المجتمعات الاوربية تحولات جوهرية ابتداء من عصر النهضة الذي قام على انقاض مرحلة الاقطاع وسيطرة الكنيسة على المجتمع والدولة والسلطة ثم ظهور عصر التنوير والحداثة الذي قام على مباديء الحرية والعقلانية والتقدم. وقد تضافرت جهود عدد كبير من المفكرين والفلاسفة والمصلحين التنويريين لتأسيس مجتمع جديد يقوم على أسس وقواعد وقوانين عقلانية والبحث عن مصدر اساسي يستمدون منه حقوق الانسان الطبيعية كالحرية والعدالة والمساواة. وقد ذهب هؤلاء المفكرون الى القول بان "الحق الطبيعي" هو القانون الطبيعي الممارس في الطبيعة والذي يقوم على اساس الطبيعة الخيرة للانسان والذي مكن الانسان من ان يكون حرا. كما ان الحق الطبيعي يقر بان العقل السليم هو الذي يحكم على الاشياء بكونها مخالفة للطبيعة العاقلة أم لا . وهكذا تطورت نظريات الحق الطبيعي التي قامت على افتراض وجود حالة طبيعية ينطلقون منها ويعودون اليها. وتعتبر مساهمات هوبز ولوك وروسو وفولتير وغيرهم قد وضعت اللبنات الاساسية لحقوق الانسان الطبيعية التي عرفت فيما بعد "بلائحة حقوق الانسان".
باخوفن وحق الأم الطبيعي
وقد افرزت هذه التحولات اتجاهات فكرية ونظريات اجتماعية جديدة في فلسفة التاريخ والمجتمع والحضارة، كان في مقدمتها نظريات التطور ونظريات العقد الاجتماعي. فالى جانب نظرية التطور لدارون وامهات الكتب الانثروبولوجية صدر كتاب ياكوب باخوفن (1815- 1887)، وهو حقوقي ومؤرخ في علم الاديان المقارن، الموسوم "حق الأم"، الذي صدر في بازل/سويسرا لأول مرة عام 1861. وهواول كتاب يبحث في تاريخ ومكانة المرأة في المجتمعات القديمة ، والذي اثار ضجة عالمية آنذاك، لان مأثرة باخوفن هي انه اكتشف مرحلة حضارية قديمة ومهمة سادت فيها سلطة المرأة في المجتمع ، وانه سجل لاول مرة، بدء تاريخ العائلة بعام 1861 وهو عام ظهور كتابه حق الام الطبيعي الذي اعتبره انجلز في " أصل العائلة " " ثورة كاملة ".
اعتمد باخوفن في كتابه هذا على عدد من الكتب التاريخية والبحوث الاثنوغرافية الوافية التي كتبت عن العالم القديم والتي تضمنت وصفا اثنوغرافيا للشعوب والمجتمعات والقبائل المتعددة ، وتحليلا لعدد كبير من القصص والاساطير والاثارالقديمة ورموز القبور الاغريقية والرومانية والمصرية القديمة وخاصة اسطورة ازيس وأزوريس التي استقاها من مؤرخي اليونان الكلاسيكيين الذين كتبوا عن أهمية المرأة ومكانتها الاجتماعية والدينية في العالم القديم وذلك بهدف تصوير المراحل التاريخية التي مرت بها المجتمعات البشرية وتغير المباديء الاساسية التي طبعت تلك المراحل بطابعها وعلاقتها بالصراع بين الجنسين.
وكان باخوفن قد اعتمد على ثلاثة مؤرخين اغريق كبار هم هيرودوت، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد وهيروكلايدس بونتيكوس، الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد ونيكولوس فون دمسكوس(الدمشقي)، الذي عاش في القرن الاول قبل الميلاد. وكان هؤلاء المؤرخون قد كتبوا عن احوال المجتمعات القديمة وعاداتهم وتقاليهم ومعتقداتهم الدينية، وخاصة مجتمع الليكير الذي ينتسبون الى جزيرة كريتا ومنها هاجروا الى آسيا الصغرى. وكان هدفه توضيح العلاقة بين اساطير الامومة والدين القديم وسلطة المرأة في المجتمع والصراع الازلي بين الرجل والمرأة.
لقد اكد باخوفن، انه بالرغم من ان المرأة من الناحية الفسيولوجية هي اضعف من الرجل الا انها كانت قد احتلت مكانة اجتماعية عالية في العائلة والمجتمع والسلطة ، في مرحلة تاريخية قديمة، وبذلك انتصرت على قوة الرجل الفسيولوجية. وكان الاطفال في تلك المرحلة ينتسبون الى امهاتهم وليس الى ابائهم ، لانه لم يكن بالمستطاع حينذاك تحديد الاب لعدم وجود نظام قرابي يحدد العلاقات الجنسية ، ولهذا ايضا تمتعت النساء ، بوصفهن الوالدات الوحيدات المعروفات بكل ثقة وتأكيد للاطفال ، بقدر كبير من الاحترام واكتسبت المرأة بذلك مكانة اجتماعية ودينية عالية.
ظهرت سيطرة المرأة على المجتمع في بدايات الاستقرار واكتشاف الزراعة وتدجين الحيوانات واستمدت سيطرتها من الطبيعة ، لان مبدأ الخصوبة في الارض هو نفسه مبدأ الخصوبة عند المرأة . وهكذا تطورت سلطة المرأة في المجتمع التي هي في الحقيقة حق طبيعي لها.
وفي الحقيقة، فقد تمكن باخوفن من ولوج بحر عميق في عالم الاساطير والرموزالدينية لمرحلة تاريخية قديمة وغامضة مرت بها البشرية في اقدم عصورها التاريخية هي مرحلة حق الأم وسلطة المرأة في العائلة والمجتمع والدولة التي استمدته من الحق الطبيعي وليطرح السؤال الجوهري الذي يشكل المحور الاساسي لفلسفة التاريخ عند باخوفن، الذي استقاه من فلسفة افلاطون وتعاليمه وهو العلاقة بين المادة والفكر والصراع بينهما.
ومثل تطوري القرن التاسع عشر يشير باخوفن الى فكرة التطور والانتقال من المادة الى الفكر، لان محور التطور والصراع الذي مرت به البشرية انما يقوم على الصراع الدائم والمستمر بين مبدأين اساسيين هما : المادة والفكر، وان هذين المبدأين انما يمثلان الصراع الدائم والمستمر بين الرجل والمرأة وان أي تقدم لاحد هذين المبدأين على الاخر، يستتبعه بالضرورة تغير في النظم الاجتماعية . ولما كانت جميع اشكال الحياة الانسانية والكون والحياة مطبوعة بطابع ديني، الذي هو المحفز الاول لتبدل الحياة الاجتماعية، فقد حدث صراع وتطور بين المادة والفكر بين النور والظلمة وبين السماء والارض وبين الذكر والانثى وانتصار الذكر على الانثى في الاخير.
ايهما الأصل الأنثى أم الذكر؟
يشير باخوفن الى ان البداية كانت المادة المطلقة، الطبيعة، الارض، رمز لفكرة الأمومة، وهي مرحلة سلطة المرأة الطبيعية، التي تمثلت بمرحلة "الاباحية الجنسية". والمادة المطلقة تتضمن بنفسها قوة الفكر التي تمثل العلاقة بين الارض والماء. ولما كان الماء جزء من الارض الذي يخصبها ، فتخلق الاحياء، لذلك قدس الانسان الارض ، ومثلما قدس الانسان الارض قدس الانثى / الام ، فالانثى هي الاصل ، ومثلما تشتهي الارض الولادة تشتهي الانثى الخلق، ولذلك اصبحت رمز الخصوبة والعطاء .
وللانثى انتج الدين ، واجب العطاء عند الولادة. وهكذا قدس الانسان الارض ، فالانثى هي صورة وخليفة للام الاصل . فلم تقلد الارض الانثى ، بل قلدت الانثى الارض واصبحت مقدسة مثل الارض واصبح الاحترام الديني والتقديس لها الاساس في سلطتها وارتفاع مكانتها الدينية والاجتماعية وسياستها للدولة وادارتها للطقوس الدينية .
والانثى هي الاصل ، لانها تتقدم على الرجل بعطائها ولان الرجل هو نتيجة ذلك العطاء. فالابن هو زوج المستقبل الذي يخصب بدوره المرأة ويصبح ابا . كما ان التنظيم القرابي يجد مكانه في احضان المرأة وعنه تطورت جميع التنظيمات الاجتماعية الاخرى. وبهذا يصبح حق الام هو حق الحياة للمادة الارض وحق طبيعي لها .
وبحسب باخوفن، فقد استطاعت المرأة باسلحتها النافذة : حنان الام والقوة الدينية العالية والاحترام لها ان تتبوء هذه المكانة الروحية العالية، في مرحلة سادت فيها علاقات جنسية منظمة تم فيها الانتساب الى خط الام ، أي انتساب الاولاد الى امهاتهم وذلك لعدم امكانية معرفة الاب الحقيقي للاولاد.
الليكير والامزونيات
تتبع باخوفن، في دراساته لمكانة المراة واهميتها ودورها في المجتمعات القديمة، المجتمعات التي ساد فيها حق الأم الطبيعي، معتمدا على ما كتبه المؤرخون الكلاسيكيون وعلماء الاثار والاثنوغرافيون حول مجتمع الليكير وحكومة النساء الأمزونيات في اسيا الوسطى، التي وجد فيها باخوفن أدلة غنية ذات محتويات مؤكدة على احترام المراة وسلطتها في المجتمعات القديمة.
واللكير او اللكين هم قبائل تتحدر في اصولها من جزيرة كريتا. وقد اشتق اسمها من لوكوس ابن بانديون الذي نزح من اثينا في العصور القديمة. وقد ذكر هيرودوت ان لهم عادات وتقاليد متميزة لا نجد لها مثيلا لدى الاقوام الاخرى. والمراة لها أهمية ومكانة عالية عندهم وان الاولاد ينتسبون الى امهاتهم وليس الى ابائهم. كما اكد المؤرخ الاغريقي بونتيكوس بان أهم ما يميزهم عن القبائل الاخرى انهم عاشوا في " لصوصية"، فليس عندهم قوانين وقد حكموا من قبل النساء منذ قديم الزمان. كما انهم ينتسبون الى امهاتهم وليس الى ابائهم وترث البنات عندهم بدل الابناء. كما اكد هيراقليدس ايضا ، بان المراة تسيطر عندهم على الرجل وتتحكم فيه.
اما الامزونيات او الامزونن فهم اول من اسس حكومة نساء في العالم. وهم قبائل نسوية انتشرت في الساحل الشمالي من الاناضول حتى القوقاس وتحدرت اصلا من ليبو او ليبيا في شمال افيقيا. وكانوا قد سيطروا تحت قيادة ملكتهم "مرينة" على اقاليم واسعة امتدت حتى الحدود الغربية للعالم القديم. وتدل الاثار العديدة التي اكتشفت في منطقة "أغيز" في الساحل الشمالي من الاناضول على أهمية المرأة ومكانتها الاجتماعية العالية. وقد اكتشف علماء الاثار معبد " ارتميس" في ايفوسوس وفيه تماثيل نساء محاربات وصيادات ماهرات كن قد تركن وظيفتهن كاناث واصبحن صيادات ومزارعات ومحاربات وقد شددن على احواضهن احزمة. وكن يقمن بحملات عسكرية لمد نفودهن على مناطق اخرى. وتربى الفتيات منذ الصغر على استعمال السلاح ويقطع منهن الثدي الايمن بهدف ان يصبحن اكثر لياقة لحمل السلاح وممارسة فنون الحرب والقتال. ويشير المؤرخ الاغريقى ريناس بان الامزونيات ينتسبون الى امهاتهن وليس الى ابيهم ويرتبطن بالرجال من اجل الانجاب فقط ولا يؤثر ذلك على سلطتهن في الحياة الاجتماعية، في حين يجلس الرجال في البيوت ويقومون بما تقوم به النساء من تربية الاطفال والغزل والحياكة وغيرها.
لقد عمم باخوفن هذه الظاهرة على جميع المجتمعات القديمة منطلقا من مقولة "ان وجود نظام ما في مكان ما فلابد من وجود مثيل له في مكان آخر". كما دعم رأيه في ذلك الاكتشافات الأثرية لعدد كبير من تماثيل الأمومة والخصوبة والرقم ورموز القبور التي تدل على احتلال المرأة في المجتمعات الزراعية القديمة مكانة اجتماعية ودينبة عالية . وان هذه الافكار والنظريات والافتراضات تذكرنا باحترام وتقديس المرأة – الام في المراحل الاولى من تاريخ المجتمعات الانسانية ، ذلك الاحترام الذي ارتبط بأهم اسس وجود وبقاء النوع الانساني ، الا وهو مبدأ الخصوية والغذاء الذي انتجتهما المرأة – الأم – الارض ، وما ارتبط بهما من اكتشاف الزراعة وتدجين الحيوانات وبناء اولى المستوطنات الانسانية ، التي كان للمرأة فيها دور رئيسي، اذا لم يكن الدور الوحيد.
النظام الأبوي/البطريركي
غير ان سلطة المرأة ، بحسب باخوفن، لم تدم طويلا بعد ان خرج حقها الطبيعي على حق الدولة وحق المدينة الذي اوجد اول تنظيم اجتماعي جديد للحياة الجنسية والذي اخذ شكل منظومة الزواج ، الذي تطور فيما بعد الى شكل الزواج الاحادي ، الذي ارتبط بنظام ديني كان قد حدد العلاقات الجنسية بين الرجال والنساء.
كما لحقتها مرحلة ثالثة هي مرحلة سلطة الاب والانتساب في خط الاب بدل الأم التي بدأت بعد ثورة الانسان الاولى على الطبيعة واكتشاف الزراعة من قبل المرأة وتحول العلاقات الجنسية التي تنظم الزراعة والزواج وانتقال النظام الديني من عبادة القمر الى عبادة الشمس.
وكانت بدايات تنظيم العلاقات الجنسية بين الرجل والمرأة هي بدايات قيام الدولة الرومانية التي اجبرت المرأة على ان تفقد حقها الطبيعي بالتدريج عن طريق اكتشاف المعادن وتطور نظام الملكية وانتشار الزراعة ونشوء المدن وبدأت على انقاض ذلك النظام بدايات مرحلة حضارية جديدة في تاريخ تطور المجتمعات البشرية هي مرحلة " سلطة الاب "، وبذلك فقدت المرأة عصرها الذهبي التي ارتفعت فيها مكانتها الاجتماعية والدينية من خلال سحر الامومة ووظيفتها البايولوجية.
ان مرحلة حق الاب " ما هي الا مرحلة الحق الميتافيزيقي التي تمثلت في انحسار حق الام، وهو الحق الطبيعي للانسان ، الذي ظهر مع سيادة النظام الابوي/ البطريركي في اعلى اشكاله في الدولة الرومانية والذي مازال قائما حتى اليوم في اغلب المجتمعات الانسانية .

_________________________
المصادر :
1) ابراهيم الحيدري، النظام الأبوي واشكالية الجنس عند العرب، دار الساقي، بيروت 2003
2) ابراهيم الحيدري، فلسفة التاريخ عند باخوفن، مجلة كلية الاداب، بغداد 1979
3) J. Bachofen,Das Mutterrecht, Frankfurt,m, 1980
4) G.Thomsen,Fruegeschichte Grichenland und der Aegaes, Berlin,1969
5) R.Graves,New Larousse,Encyclopaedia of Mythology,London-New York-Toronto 1959