العنف الجنسي ضد المرأة العراقية



فارس كمال نظمي
2004 / 10 / 27

(د.س) امرأة في الثالثة والعشرين،اختطفت أثناء سيرها في الشارع مع والدتها وبعض أفراد أسرتها،واقتيدت الى منزل خارج بغداد،حيث احتجزت ليلة كاملة،واغتصبت.وأبلغ والدها الشرطة باختطافها،ولكنها لم تقم بأي تحريات بشأن ادعائه.
تقرير منظمةمراقبة حقوق الانسان
بغداد 2003م
ــــــــــــــــــــ
على الرغم من أن العنف الجنسي،يعدّ سلوكاً منحرفاً،يتضمن انتهاكاً مادياً ومعنوياً لجسد المرأة دون إرادتها أو رغبتها،يصدر عن رجل أو مجموعة رجال،تحت دوافع عدوانية شتى: بيولوجية،أو نفسية،أو سياسية؛الا أن العمق الأنثروبولوجي لهذا السلوك،يكاد أن يحيله الى سلوك نمطي رافق الجنس الذكري في علاقته التأريخية بالجنس الأنثوي،مما يجعل من غير المجدي تناوله في الاطار السيكولوجي المجرد فقط.

فالمجتمعات الشرقية،ومنها المجتمع العراقي،تؤمن في غالبيتها،ومنذ قرون بعيدة،أن ((شرف)) المرأة يكمن في جسدها بالأساس،وليس في عقلها أو شخصيتها،بل أن جزءاً مهماً من شرف الرجل نفسه صار يتحدد بمدى (عفة) جسد زوجته أو ابنته أو أمه أو أخته أو قريباته.واذا كان الرجل هو الذي سنّ هذا التشريع أو المعيار أو القيمة لأسباب تتعلق بسعيه ((التأريخي)) لتوطيد مكانته القيادية في الأسرة والمجتمع،من خلال تأمين ممتلكاته وتوريثها الآمن الى ذريته،فأن جسد المرأة كان لا بد له أن يصبح جزءاً من هذه المِلكية (المقدسة) التي ينبغي أن لا تمس،بوصفه – أي جسد المرأة – جزءاً ملحقاً بذات الرجل من جهة،ولكونه (وعاءاً) بيولوجياً لإنتاج ورثته المنتسبين الى دمه من جهة أخرى.وبالتدريج استحالت هذه القيمة الاقتصادية-الاجتماعية الى قيمة نفسية راسخة لدى الجنسين على حد سواء،آليتها الكبت الجنسي،الذي صارت تتباين درجته من مجتمع الى آخر طبقاً لنظرة كل مجتمع الى المرأة في كونها مفهوماً يتدرج معناه بين قطبي: ((جسد – انسان)).إلا أن المفارقة التي حدثت وما تزال تحدث حتى اليوم،هي أن الرجل الذي سنّ هذه القيمة ذات الفعل التحريمي Taboo أصبح هو نفسه ينتهكها،بهذه الكيفية أو تلك،وبهذه الدرجة أو تلك،عندما يتعلق الأمر بـ (شرف) رجال آخرين،من خلال توجيه طاقته الجنسية بشكل عدواني نحو نساء يحرّم عليه المجتمع معاشرتهن.والحقيقة أن هذه المفارقة هي جزء من مفارقة أكبر تجسد الواقع البشري بأبعاده المختلفة.فالأقوياء هم الذين يشرّعون القوانين والمعايير،ويضفون عليها القدسية والسرمدية،وهم أنفسهم أكثر من ينتهكها دون خوف أو حرج شديدين،ما داموا قادرين أن يؤدوا دوراً مزدوجاً في مجتمعاتهم: المشرّع والقاضي في آن معاً.
امتداداً لهذا التصور،يمكن القول أن هناك ثلاث سلطات مارست ساديتها على المرأة العراقية،معرّضة إياها الى شتى أنواع العنف الجنسي بشقيه الاجتماعي والسياسي،خلال العقود الثلاثة الماضية وحتى اليوم :
1. السلطة السياسية السابقة: التي مارست اغتصاباً مبرمجاً لنماذج منتقاة من النساء العراقيات،بوصفه وسيلة لإخصاء كل خصومها (الحقيقيين والوهميين) معنوياً،وجعلهم رهائن خاضعين،ما دامت قادرة على انتهاك أعراضهم متى ما شاءت.
2. سلطة الأئتلاف المحتلة : التي نفذت مشورة خبرائها في السيكولوجيا السياسية،باغتصاب النساء العراقيات المعتقلات في سجن أبي غريب وغيره،ثم بث الشهادات والصور التي تثبت ذلك على شبكات الانترنيت والقنوات الفضائية،تمريغاً لكبرياء العراقيين،وهدماً لشعورهم بالاعتزاز الوطني،واقصاءاً لاحتمالات تعافي الشخصية العراقية واستعادتها لهيبتها واحترامها لذاتها.
3. السلطة الاجتماعية الذكورية للمجتمع العراقي: التي جعلت من جسد المرأة موضوعاً (دونياً) مفضلاً لدى بعض الرجال،يمارسون من خلاله الكثير من حالات التفريغ الانفعالي والبيولوجي.فمحاكم الجنايات في العراق لم تتوقف،ومنذ نشوء الدولة العراقية الحديثة،عن النظر بجرائم الاغتصاب والتحرش المرتكبة من رجال ضد محارمهم أو ضد غريبات عنهم.يضاف الى ذلك ما رافق حالة الانهيار الأمني المستمرة منذ نيسان 2003م وحتى الآن،من تفشي جرائم اغتصاب وخطف النساء على يد أفراد أو عصابات،على نحو لم يشهده مجتمعنا ذو التقاليد المحافظة من قبل.
ما يهمنا في هذه السطور هو التركيزعلى بنية هذه السلطة الذكورية،وعلاقتها بالديناميات النفسية المحركة للعنف الجنسي في الوقت الحاضر.فقد أدت حرية الصحافة،وشفافية نقل الأخبار،وزوال سلطة الرقيب الاعلامي،الى المجاهرة بفكرة أن الاغتصاب ليس جريمة مندثرة من المجتمع العراقي كما كان يراد للرأي العام أن يعتقد سابقاً،بل هو واحد من أشكال العنف الاجتماعي الناجمة عن تأسيسات سوسيولوجية عمقها التأريخ البشري من جهة،وعن ترسبات نفسية اقترنت بالكبت والحرمان والاستبداد والظلم والاغتراب واللامعيارية التي سادت حياة ثلاثة أجيال عراقية من جهة أخرى.لكن الغياب شبه التام للمعطيات الاحصائية والتوثيقية لجرائم الاغتصاب هذه (باستثناء حالات محدودة جداً،منها تقرير منظمة مراقبة حقوق الانسان في تموز 2003م،الذي وثق 25 حالة اغتصاب وخطف تعرضت لها نساء عراقيات في بغداد)،يستدعي التريث في الجزم بأن العنف الجنسي ضد المرأة صار ظاهرة شائعة في مجتمعنا،مقترحين بدلاً عن ذلك عدداً من(الأبعاد النفسية الإجتماعية)،نستعين بها لتفسير القلق المتزايد الذي أمسى الرأي العام ووسائل الإعلام يتناقلان به أخبار جرائم الاغتصاب والخطف هذه،سواء كانت تلك الأخبار مبنية على حقائق مؤكدة أم مجرد تهويلات تستهدف الاثارة،مما أثر سلباً وبشكل ملحوظ على ظهور النساء ومشاركتهن في الحياة العامة،مقارنة بمرحلة ما قبل الاحتلال :
(1) تصدع الأنا الأعلى
عندما يضعف المكونان الواقعي والمثالي في الشخصية وينحسران،بسبب التلاقي الذي يحدث بين غياب سلطة القانون العقابية (الخارجية) وبين تهرؤ الضمير (الداخلي) أي الفيصل الأخلاقي بين الحلال والحرام،عندها تنغمر الشخصية بالدوافع الغريزية المنفلتة،ويصبح السلوك موجهاً في معظمه نحو انتهاك المحرّمات الاجتماعية،انتقاماً أو بحثاً عن اللذة العمياء.وهذا ما حدث بالضبط مع فئات معينة في المجتمع العراقي،نشأت في ظروف الحرمان الاجتماعي،والبطش الأعمى،وازدواج المعايير،وتدهور قيمة الحياة البشرية،فوجدت نفسها لاحقاً،تسلب وتنهب وتغتصب وتخطف وتطالب بالفدية،ضمن إطار قوانين الحتمية السلوكية،وكأنها بذلك ترد للمجتمع آثامه معها.
(2) العنف الاجتماعي العام
يتناسب عدد الجرائم الجنسية طردياً مع إزدياد ظواهر العنف الأخرى في المجتمع،طبقاً الى ما أثبتته العديد من الدراسات النفسية الاجتماعية،إذ توصلت الى أن الاغتصاب يزداد في المجتمعات التي تعاني من ارتفاع معدلات العنف المتبادل بين أفرادها،والتي تدعم سيادة الذكور وتشجع الفصل بين الذكور والإناث.وهذا ما ولـّدته الحروب والقمع السياسي في العراق،إذ نشأت أنماط من العنف المتناسلة عن بعضها،صار لها وظيفة دلالية في أغلب ميادين الحياة اليومية للناس،إبتداءاً من مفردات التخاطب اليومي،وإنتهاءاً بتغييب الآخر وإفنائه.
(3) التوحد بنماذج الثقافة الإباحية
أثبتت الدراسات بشكل متواتر،أن الرجال الذين يتعرضون الى مواد إباحية من أفلام أو صور أو تسجيلات صوتية أو أعمال أدبية،يصبحون أكثر عدوانية نحو النساء لاحقاً نتيجة ميلهم للاعتقاد أن النساء يتمتعن باغتصابهن.ومن المعلوم أن هذا النوع من الثقافة كان له وجوده في العراق قبل الاحتلال،ثم ازداد انتشاراً بعده،بسبب غياب الرقابة،وانخفاض تكاليف الحصول على وسائله المتنوعة من أقراص ليزرية وقنوات فضائية.كما أن تنامي ظاهرة الإدمان على المخدرات والعقاقير النفسية مؤخراً،أسهم أيضاً في تخدير الضوابط الأخلاقية لدى بعض الأفراد ممن يمارسون انتهاك الحرمات.
(4) شائعات الخوف
من الملاحظ أن الطريقة التي يتناقل بها العراقيون أخبار حوادث العنف الجنسي،تتخذ أحياناً مسارات تشبه طرائق بث (شائعات الخوف)،التي إما أن تكون إفرازاً تلقائياً من داخل المجتمع لحماية مقدساته في زمن التغيرات الاجتماعية العنيفة،أو أن تكون نوعاً من حرب نفسية تمارسها القوى المضادة للتغييرات الجديدة في العراق،بهدف إشاعة الرعب وتعطيل الإيقاع الطبيعي للحياة اليومية.
(5) اللوم الموجه الى ضحايا الاغتصاب
كثيراً ما يوجه الناس،في مجتمعات مختلفة،عبارات اللوم والتقريع لضحايا الاغتصاب أو الاختطاف أو التحرش،بقولهم: ((لماذا وضعتِ نفسك في مثل هذا الموقف المهين؟))،((لماذا كنتِ تسيرين وحدك؟))،((لماذا لم تصرخي؟))،((لماذا لم تقاومي؟)).تعكس مثل هذه الأقوال رغبة هؤلاء الناس لعزو مسؤولية الاغتصاب الى الضحية نفسها،إذ وجدت العديد من الدراسات أن الناس،ولا سيما الرجال،يحتاجون الى ايجاد أسباب (معقولة) يبررون بها مثل هذه الحوادث،ليشعروا بعدها بالاتزان،وبأن العالم (أو الجلاد) ليس ظالماً الى هذا الحد،إنما الضحايا هنّ من يستحقن اللوم بسبب قلة حذرهن وعدم حرصهن على تجنب المعتدي.وتنتشر مثل هذه الآراء بشكل واسع في مجتمعنا،الى حد نسيان جريمة المعتدي،وإنزال العقاب بالضحية بدلاً عنه،والتي غالباُ ما تلجأ الى التكتم والصمت تحاشياً للعار الاجتماعي،مما يشجعه على تكرار أفعاله بأشكال أقسى وأعنف.

الظلم الاجتماعي سلسلة طويلة،يستحيل فصم حلقاتها إلا لأغراض التحليل والتأمل.أما الواقع الاجتماعي،فهو التحام جدلي بين كل المفاهيم والوقائع المتناقضة والمتجانسة،ولذلك لا معنى لفصل حقوق المرأة عن حقوق الإنسان عامة.وهذا ما جعلني لا أجد في نفسي حماساً كافياً لحركات تحرير المرأة،بقدر حماسي لتحرير الرجل،ولنقل تحرير الإنسان.فالمآسي والانتهاكات والمظالم التي تتعرض إليها المرأة لن تنتهي إلا بنهاية عبودية الرجل لإلهين اخترعهما،وما برح يتعبد في أفيائهما : (المال) و (الجنس).