مخلوق درجة ثانية



ليلي عادل
2004 / 12 / 12

ليس من السهل حصر معاناة المرأة ,وبالذات المرأة العربية و تحديدا" العراقية ,وليس سهلا" تحديد مستوى التبخيس الذي تتعرض له والذي امتد عبر قرون طويلة بقيت خلالها المرأة تعاني من أسوأ الظروف ومن تهميش كبير لوجودها و لدورها في الحياة , و من استهتار بحياتها و التصرف بها كسلعة تباع و تشترى , تحت تسميات عدة , المهم ان هناك من يدفع و من يستفيد . و لا أنكر ان المرأة ذاتها كانت شريكة فيما و صلت إليه , شريكة في تنفيذ أحكام تجرها للخلف و تجعل منها الشخص الثاني ولا تجرؤ على التفكير بما ستؤول إليه حالها فيما بعد..
وفي الحضارات العراقية القديمة , احتلت المرأة مع الرجل , مكانة الإله وعبدت و قدّست وحتى ان حقوقها كانت تحترم من خلال القوانين والشرائع التي سنّها العراقيون القدماء ,لكن هذا الوضع لم يدم لفترة طويلة حيث بدأت المرأة تفقد مكانتها شيئا" فشيئا" حتى تحولت من اله معبود الى عبد مملوك , وربما إنها تنازلت عن مكانتها بإرادتها لتنأى بنفسها عن المنافسة وما يمكن ان تجلبه لها من مشاكل و منغصات و خطر , و المرأة بطبيعتها ترهب الخطر و تبتعد عن الشر , ….أو أنها أجبرت على التخلي عن تلك المكانة لصالح الرجل و لكي ينفرد بالقيادة و الأهمية , فسبب المسببات و سلك جميع السبل ليصل الى هدفه و يقود المجتمع لوحده .
لقد قاد الرجال العالم لقرون , و ها نحن نرى ما أوصلتنا إليه طريقته , حيث ان العالم يسير نحو الهاوية و المجتمعات تعاني أمراضا وأزمات و الصراعات متزايدة , كل ذلك بسبب اختلال التوازن الطبيعي في المشاركة الدنيوية بين الرجل و المرأة وعدم إدماجها في الحياة و إبعادها عن المراكز القيادية مع أنها المصدر الأساسي للاستمرارية و هي المدرسة الأولى و الأهم لأجيال متتالية تتبادل السلطة جيلا بعد جيل .
ان مصيبة ان تلد المرأة أنثى هي أولى مراحل معاناة هذه المولودة الجديدة فعند أغلب العوائل العراقية , ولادة الأنثى غير محببة حتى لمن كان لديها أبناء ذكور , فكيف إذا كانت خلفتها السابقة من الإناث , هنا تكون المصيبة أكبر حيث يسوّد وجه الأب و العمة تمتنع عن حمل المولودة , و حتى الأم , تصاب بخيبة كبيرة , فضلا" عن الضغوطات المحيطة بها من العائلة الى جانب نفسيتها المتعبة من جراء الحمل و الولادة , وقد اثبت العلم الحديث ان الجنين يمكنه التأثر بأحاسيس الأم و هو يتألم لألمها و يسعد لفرحها , والوليد يمكنه قراءة مزاج الأم منذ أيامه الأولى و يتأثر سلبا و إيجابا حسب معاملة الأم له ….و هكذا تدخل ( الأنثى ) وهي.. جنين ثم طفله عالم التمييز و التفرقة من أقرب الأشخاص إليها .
وتدخل هذه الطفلة مراحلها العمرية تباعا و تزداد عليها الضغوطات العائلية شيئا" فشيئا" فإذا كان لديها أخ ذكر سيكون بالطبع مفضّل عليها و ينصب اهتمام العائلة به , ويبدأ شعور الطفلة بالإهمال ينمو و ربما يتسبب بأمراض نفسية مستقبلية و ينمّي لديها عدم الثقة بالنفس باكرا , وعند دخول الطفلة الى المدرسة يبدأ الأهل بمحاصرتها و محاسبتها على كل التفاصيل التي تخص حياتها الدراسية فضلا عن مطالبتها بتحمل بعض أعباء المنزل, بينما أخيها الذكر يتمتع بوقته كما يشاء و ليس عليه حساب , فتحس الطفلة بازدواجية التعامل و يضعها الأهل في المستوى الأدنى من أخيها حتى لو كانت متفوقة عليه دراسيا , و في نفس الوقت ينمو عند الأخ الذكر الإحساس بالأفضلية و انه اكبر مكانة من شقيقته لدى ذويه , و ربما ينمي عنده الأب الشعور بأن مكانته اكبر حتى من مكانة الأم .ومن ثم من الإناث جميعا".
و بخروج الفتاة من المنزل الى المدرسة تبدأ معاناة من نوع آخر و هي التفرقة داخل المدرسة و في الشارع حيث تتعرض الفتاة الى مختلف التهديدات بدأ" بالتحرش اللفظي و ليس انتهاء" بالاعتداء الجنسي ..أو التهديد به.
وغالبا ما يهمل الأهل موضوع تعلم الفتاة و استمراريته و تروج الأم ونساء العائلة بإيعاز من الأب , ان الفتاة مسيرها الى الزواج و لن تفيدها الشهادة مهما كانت تلك الفتاة مجتهدة و هذه من أهم الأمور المحبطة للفتاة و التي تجعلها تتراجع عن طموحاتها العلمية و يتم تسيير اهتمامها باتجاه تحسين المظهر الخارجي لغرض الفوز بالعريس على حساب تحطيم الكيان الداخلي( الجوهر ) , و في الفترة المهمة و هي مرحلة المراهقة و التي غالبا ما تمر على الفتاة العراقية دون ان تخبرها , بسبب الضغط الكبير الذي يمارسه الأهل خلال هذه المرحلة , والتي تعتبر أساس التجريب لتكوين شخصية مستقبلية , لذا نجد غالبية النساء ينقصهن النضوج مع ان أعمارهن متقدمة , وهنا تحرم الفتاة من ان تعيش مراحلها العمرية الحقيقية و التمتع بما لديها من , ذكاء أو جمال او عاطفة , وربما تفرض عليها حال أشد تعقيدا" , فيفرض عليها الحجاب , و اختيار الصديقات أو حتى ألوان و أشكال ما ترتديه من ملابس , فتنشأ هذه الفتاة دون ان تكون قادرة على تحديد احتياجاتها ودون خبرة متراكمة في طريقة الملبس و تكوين علاقات اجتماعية او حتى كيفية التصرف داخل المجتمع .
و دليل على ما تقدم ,أن أغلب النساء يحترن عند تسوقهن لملابسهن و دائما يكّن بحاجة الى رأي و استشارة شخص آخر أو يلجأن الى التقليد و ينطبق هذا على المظهر عموما .
ان الفتاة هي دوما موضع شك و لا يمكنها اكتساب ثقة ذويها مهما حاولت ذلك لذا يتوجب عليها ان تخفي بعض ما تحس و بعض ما ترغب ان تفعل بسبب عدم قدرتها على إقناع الأهل و ثقتها انهم سيمانعون في تلبية مطالبها , فتبدأ باكتساب صفة الباطنية و هي ان تسمح لنفسها بالاستجابة لأي فكرة تطرأ على بالها مشروعة كانت أم ممنوعة , و تسمح لنفسها بالوقوع في الخطأ طالما كان ذلك سرا" و تلجأ الى شتى المبررات لتقنع نفسها أنها على صواب , والى جانب ضغط الأهل تعاني هذه الفتاة من طبيعة المجتمع العراقي و هو مجتمع مغلق ليس فيه متنفس للفتيات او للمرأة بشكل عام , فهو مجتمع ذكوري , يتصيد الفرص لقنص اللحظة التي تضعف فيها الفتاة ليوقع بها ومن ثم يدينها و يقضي على حياتها و مستقبلها , و في هذه الحالة يتضامن الأهل مع المجتمع ضد الابنة و التي لم تكن سوى ضحية هذا و ذاك .
ان كل فتاة تحلم بدخول الجامعة باعتبارها متنفسا صغيرا" وسط السجن الكبير الذي تعيشه ، حيث تشكل الجامعة الوسط الوحيد الذي يوفر لها اختلاط مع الجنس الآخر , و يعرفها على عالم الذكور خارج نطاق الأب و الأخ , وهي أيضا فرصة لاختبار العواطف و قياس الأحاسيس , لكن الكثير من الفتيات يقعن ضحية اندفاعهن اللاعقلاني داخل هذا الوسط مع افتقار او انعدام الخبرة في التعامل مع هذا المجتمع الجديد , و قد تتعرض الفتاة الجامعية الى شتى أنواع الأبتزازات من قبل بعض الأساتذة ربما …او من قبل زميل لها , وقد تضيع هذه التصرفات على الفتاة فرصتها في التعلم و الحصول على شهادة علمية تحقق حلما".
متى يمكن لنا ان نؤمل أنفسنا بإمكانية ان ينضج هذا المجتمع و يعبر عصورا" من التخلف و الرجعية …ان تستعيد المرأة مكانتها ليكتسب المجتمع توازنه و تكتسب الحياة قيمتها .