المبدعة المغربية بين مؤسسة الزواج وذكورة المجتمع



فاطمة الزهراء المرابط
2011 / 11 / 5


"عندما تسأل عن مبدعة ملأت الصحف والمنتديات والمهرجانات الأدبية، ثم غابت، يقال لك، إنها تزوجت وأنجبت وشيئا فشيئا أطفأت لهب موهبتها مشاغل الحياة الزوجية وتربية الأولاد..."
استطاعت المرأة المغربية أن تنسج لنفسها مسارات جديدة، جديرة بالقراءة والمتابعة والمساءلة أيضا، وأن تخترق مجالات عديدة كانت إلى وقت قريب حكرا على الرجال، بحيث تمكنت المرأة عبر الكتابة بأنواعها المتعددة من قول كلمتها وحققت تواجدا لافتا للنظر سواء في القصة أو الرواية أو الشعر أو النقد، وبرهنت على أن زمن الصمت قد ولى وعبرت بكل حرية واستقلالية عن هموم المرأة ومعاناتها وكشف المستور عنها، مضيفة لتجربتها الكثير من الإحساس والخصوصية، وعلى الرغم من الخطوة الجريئة التي حققتها المبدعة المغربية في المجال الأدبي، إلا أنها لم تتمكن من تجاوز العادات الاجتماعية والفكرية السائدة بالمجتمع المغربي، ولم تعف من الأدوار النمطية (الأم، الزوجة) التي نشأت عليها منذ نعومة أظفارها، الأمر الذي يحد من موهبتها الإبداعية وحضورها بالملتقيات الأدبية.
ونجد أن المرأة تقوم بأدوار متعددة؛ فهي تشتغل خارج البيت لتساهم في إشباع طلبات الأسرة، وتقوم بوظائف أخرى داخل البيت (الكنس، الطبخ، الغسيل، تربية الأطفال...)، وهذا العمل يستهلك الكثير من الوقت مما يحول دون تنمية مواهبها واهتماماتها الأدبية، فتضيع الأفكار وسط الانشغالات اليومية، وهنا تشير القاصة العراقية صبيحة شبر إلى أن « التوزع بين أعمال المهنة والأمومة والواجبات الزوجية، عوامل ترهق المرأة الكاتبة، وتحد من تجربتها الإبداعية، فهي دائما مشغولة بأمور بعيدة عن عوالم الإبداع، متى تكتب المرأة؟ لابد أنها تنتظر أن يهرع أفراد الأسرة إلى أسِرتهم، وأنه لا أحد هناك يطرح عليها الأسئلة أثناء عملية الكتابة...» وتضيف الكاتبة المغربية فاطمة فاتح «أن المسؤوليات العائلية تشكل عائقا في وجه المبدعة، خاصة إن كانت تريد الإشراف بنفسها على تربية أطفالها وتلبية طلباتهم، مما يشغلها عن مواصلة مشوارها الأدبي...»، كما تعاني المبدعة من الغربة وصعوبة الاندماج داخل الأسرة التي تعتبر الإبداع مجرد "لعبة" وتضييع للوقت "الكْتَابَة كَاعْ مَا كَتْوْكْلْ الخُبْزْ" وهو المصطلح السائد في مختلف الأوساط الأسرية مع ما يرافقه من عبارات الاستهزاء والسخرية من إبداعاتها، "معقدة وخيالية لا تفهم الواقع وتعيش في عالم من اختراعها"، هي عوامل تجعل المبدعة تكتب في صمت دفين وقد لا ترى كتاباتها النور أبدا، بسبب سياسة التهميش والإلغاء وغياب الدعم والتشجيع الأسري.
ويعتبر الزواج من أهم العوائق الاجتماعية التي تعرقل مسيرة المبدعة، كما جاء في تصريح الشاعرة نعيمة فنو:« للأسف يؤدي زواج المبدعات إلى خروج نهائي من الساحة الأدبية وهنا أشّبه الزواج بـ"البطاقة الحمراء"، فالزوج يحس بالغيرة من كل ما يحيط بالمبدعة أقلامها، أوراقها، أمسياتها ولقاءاتها الإذاعية وكذا تعاملاتها مع المبدعين، وإن فكرت يوما في المشاركة بمهرجان أو تظاهرة أدبية خارج المدينة سينزعج وربما يخاصمها، وأغلب المبدعات يخترن الزواج والكتابة في صمت ومنهن من تختار الحرية في الإبداع بعيدا عن كل القيود التي تعوق مسيرتها الإبداعية...»، وفي السياق نفسه تشير الشاعرة نعيمة قصباوي إلى أن « الزواج أحد الأسباب الكامنة وراء انسحاب المبدعة على اعتبار أنها أصبحت مسؤولة كزوجة وأمّ، وأحيانا يكون للزوج حظ الأسد في هذا الانسحاب إذ لا يقوى على تواجد زوجته خارج البيت محاطة برجال غيره أو لا يُقدر ما وصلته من توهج فلا يبدي ذلك الدعم النفسي الذي تحتاجه كمبدعة...»، وتؤكد القاصة البتول العلوي أن «أسماء كثيرة لم تتمكن من كسر الحواجز التي يتفنن الأزواج في وضعها في طريقهن لإعاقة مسيرتهن الإبداعية، فلم تشفع لهن لا الموهبة الإبداعية ولا الحرفية المشهود لهن بها في الكتابة، فرضخن للأمر الواقع واستسلمن بهدوء...»، وفي النقطة نفسها تستنكر الشاعرة علية الإدريسي البوزيدي أنانية الرجل التي أصبحت عائقا في وجه المبدعة: «كيف يعقل أن تتخلى المرأة عن كتاباتها من أجل رجل؟ يحرمها حقها ويمارس وصايته عليها وكأنه تزوجها بإبداعاتها، فيحدد لها إلى أين تسافر ومع من تجلس، ويسألها من أين تعرفين هذا الصحافي؟ أو من أرسل لك الدعوة؟ الأزمة في كلتا الطرفين وإن كنت ألوم المرأة لأنها تتخلى عن رغبتها إرضاء للرجل...».
في حين ترى القاصة رشيدة بوزفور: « قد يكون غياب الدعم من طرف الزوج عاملا معاكسا، لكنه لا يتجاوز من حيث قوة التأثير حدود التشويش لا أكثر، ومتى كانت المرأة حاضنة لجمر التغيير فلن تتوقف عن الحكي، وقد تتقصف أزهارنا في رحلة عذابات مجانية، لكن العطاء يظل مدرارا حتى وإن اتخذ لنفسه الظل مساحة للهطول...» وتشاطرها الرأي القاصة البتول محجوب قائلة : « قد تبتعد المرأة المبدعة لفترة ما لكن دون انسحاب كلي من الساحة الإبداعية، تبتعد للجلوس مع الذات قليلا بعيدا عن إغراء القلم والورق معا، لكن الزواج لا يمنعها من فعل الكتابة إن هي آمنت بكتاباتها وحضورها الفعلي ووجودها ككل، مادام هذا الزواج مبني على التفاهم واحترام الآخر وما يؤمن به...». أما الشاعرة ريحانة بشير فتشير إلى أن :«المرأة المبدعة تخلق من صخر بطنها حيزا لتحافظ على هذا التوازن، وليس بالهين أن تخرج لملتقياتها الأدبية وسفرياتها من غير أن تجعل سكان كوكبها الصغير في تآلف، فتأتي تضحيات كثيرة وتنازلات أكثر لتكون مبدعة، فالكتابة عالمها الحقيقي الذي يوازي سعادتها النفسية، فلزاما أن تكون محترقة في كلا الحالتين، لكن تبقى الأطراف المتداخلة في مستوى تفّهم حاجيات المبدعة هذا الكائن المتشظي الرقيق ليحصل التوازن الذي نبحث عنه «، وهذا يدل على أن هناك تجارب نسائية تمكنت من تحدي مختلف العوائق من أجل إثبات وجودها في الساحة الأدبية، وهناك من فضلن الطلاق على العيش تحت رحمة رجل يمارس أنانيته على حساب إبداعاتها، وهذه الصفة تنطبق على الرجل/المبدع وغير المبدع، فالمبدعة تضحي من أجل زوجها وأولادها في حين أن المبدع/الرجل يمارس إبداعه بشكل عادي ويشارك في مختلف التظاهرات الأدبية، وهنا نلمس سيادة الطابع الذكوري مهما حاولنا تجاوزه، وإن سجلت المبدعة تحديا كبيرا وحضرت فهذا يعني مشاكل لا حصر لها وقد تنتهي بالطلاق، مما يكرس ضعف الحضور النسائي بالملتقيات الأدبية وهذا راجع أيضا إلى تقصير إدارة الملتقيات الأدبية في توجيه الدعوة للمبدعات اللواتي يتكرر حضورهن هنا وهناك، في حين أن هناك أسماء كثيرة مستعدة للمشاركة تبقى في الظل، وهنا تؤكد الروائية فاطمة الزهراء رياض: «للأسف... لازال الرجل المغربي لا يعترف بالملتقيات الأدبية وإن كانوا هم قلة كأولئك الذين يزاوجون القلم معاً والمنفتحين فكريا وأدبيا هذا وإن دُعيت أصلا، ما تشهده الساحة الأدبية في نظري المتواضع الحكر وتكريس الأقلام الذكورية الأمر الذي يضيق على المبدعات اللواتي يقصين قصدا أو سهوا من خارطة الملتقيات، أنا بصفتي غير متزوجة لا أجد هذا النوع من الرقابة لكن الحظر موجود من الملتقيات بعينها إذ حضرت مرة على سبيل الاستئناس لا المشاركة في ملتقى مبدعي الجنوب ولم ألاحظ إلا مشاركة واحدة لمبدعة في مجال الشعر وهل خلت جهة سوس ماسة درعة ونواحيها من المبدعات؟...» وتدعو المسؤولين على الملتقيات الأدبية إلى « تكثيف حضور المبدعة في الملتقيات الأدبية وعدم إقصائها وتشجيعها عبر إتاحتهم لضمانات آمنة لحضورها وتنقلها وتكبد عناء المجيء، هناك أقلام واعدة ومعطاءة تحت غبار النسيان وتحت رحمة أقنعة الزوجة والأم تحتاج للتشجيع والدعم...» .هذا دون أن أنسى ما تتعرض له المبدعة من تحرشات خلال الملتقيات الأدبية من طرف بعض المبدعين الذين يكرسون تناقضا كبيرا بين الأفكار المصرح بها والكبت الذي يمارسونه على الواقع تُجاه المرأة/المبدعة، وتناولها باعتبارها مادة للنقاش أثناء جلسات الخمر والنميمة كما جاء على لسان أحد المبدعين، مما يشكل لديها مع الوقت عقدة من الملتقيات الأدبية وقد تنسحب من الساحة لاحقا، لأن هذه التحرشات تتعدى محيط الملتقيات لتصبح جزءا من الحياة اليومية.
كما أن المجتمع لا يقبل جرأة المرأة في تناولها لبعض المواضيع، مما يقيد عطاءها ويحد من انطلاقها الإبداعي لأن «المجتمع الذكوري نادرا ما يؤمن بكونها مبدعة حقيقية وهذا قد يزحزح ثقتها بنفسها، فأحياناً المتلقي هو الذي يمنح المبدع شحنة ليستمر ويقدم الأفضل، وأحياناً أخرى قد يكون هو السبب في تدهور حالته الإبداعية، من العراقيل أيضاً للإبداع بشكل عام هي سيادة المجاملات وغياب النقد الموضوعي الذي يبين القيمة الحقيقية للأشياء»، حسب رأي الشاعرة مليكة المعطاوي، هذه المجاملة تدفع ببعض المبدعات إلى الأمام فتحتلن مكانة مهمة في وقت وجيز وبشكل مشكوك فيه، لا لشيء إلا لأنها مبدعة جميلة ومستعدة للتنازل عن أشياء كثيرة من أجل حرق المراحل والوصول إلى الشهرة من أبوابها الواسعة، لكنها بمجرد ما تتعرض للنقد الموضوعي تخمد شعلة العطاء الأدبي لديها وتعتزل الكتابة نهائيا لأنها لم تتعود النقد والانتقاد، ومثال ذلك أسماء معروفة لا داعي لذكرها هنا. من جهة أخرى المرأة/المبدعة محاصرة دائما في قفص الاتهام بسبب تجربتها الإبداعية، فإذا كانت القصة عاطفية تتناول العلاقات العاطفية أو الجنسية اتهمت بأنها بطلة الأحداث المذكورة، وإن تحدثت عن المشاكل الزوجية وهي كثيرة في مجتمعنا المغربي اتهمت بأنها تشوه سمعة زوجها وهي تنشر على الملأ غسيل خلافاتها الزوجية، ويتناسى هؤلاء النقاد أن التجربة الأدبية لا تشترط أن تكون الأحداث واقعية خاصة أنها أحداث معيشة، موجودة في مختلف الأسر المغربية، لذلك نجد أن المبدعة المغربية تعاني من محدودية المجالات التي تتطرق إليها في كتاباتها، في حين أن الرجل/المبدع لا يعاني هذا المشكل بتاتا فهو يتطرق بكل حرية إلى كل المواضيع التي يرغب في تناولها، وهذا أكبر تهميش تعانيه المرأة/المبدعة فهي تخشى من كلام الناس، من رأي القارئ، ومن نظرة المجتمع، ومن الاتهامات التي يمكن أن توجه إليها مع كل عمل أدبي، فنجد أن مجال الإبداع محدود لديها ومقتصر على الأمور التي لا تسبب نقدا أو انتقادا من جاهل لم يتعلم بعد ما هو الأدب؟؟!!. وتشير الشاعرة خديجة المسعودي إلى أن «حرية التعبير مصادرة لدى المبدعة المغربية، خصوصا التي تختار الحبر الذي يسلط الضوء على قضايا ومواضيع لا تتعرى إلا ليلا، فقد عجزت أقلام نسائية كثيرة عن التطرق إليها خوفا من النظرة التحقيرية والاتهام بسوء السمعة نظرا للقوانين المحافظة السائدة، فقلم كهذا إما أن يكسر كسرا وإما أن يواجه عقولا مريضة»، والنقطة نفسها تتطرق إليها القاصة عائشة بورجيلة: «هوس القراء المفترضين بمعرفة مدى تطابق ما تبوح به الذات الكاتبة مع الواقع، إذ تتهم الكاتبة بالخصوص بأنها لا تحكي إلا واقعها، ويختصر النص بطريقة مهينة في سؤال يتكرر: أنت هنا أم هناك؟ هذه أم تلك؟ ضمير المتكلم أم المخاطب؟ يمكن الإشارة أيضا إلى غياب وربما تغييب الثقافة في البرامج التعليمية والنظام التربوي المغربي، ما يفسر الهوة والمسافة الشاسعة ما بين عدد الكتاب والمبدعين من جهة، وعدد القراء من جهة ثانية...».
إلا أن المبدعة الحقيقية المؤمنة بقلمها وإبداعها، تمكنت من كسر هذه الحواجز للكتابة بكل حرية وقناعة في مختلف القضايا الاجتماعية المسكوت عنها، متحدية كل الآراء والانتقادات الموجهة إليها، مما وجه أنظار الغيرة والحسد نحوها من أجل قصف مراكبها وعرقلة مسيرتها الإبداعية، وهذا ما تشير إليه الزجالة ثريا القاضي«من العراقيل التي تصادف المبدعة المغربية هي الغيرة والحسد من الآخرين، إذ تقصى وتهمش من بعض المنابر الإعلامية واللقاءات الأدبية بدون أي سبب سوى أنها تمكنت من كسر النمط الأدبي المعتاد عند المرأة»، ولا يمكن حصر الأسباب المباشرة وغير المباشرة التي تساهم في تراجع المبدعة المغربية في مسيرتها الإبداعية وأحيانا اختفائها من الساحة الأدبية في العوامل السالفة الذكر، لأن «هناك أسباب عديدة تتداخل فيما بينها المحيط الذي يعيش فيه كل من الرجل والمرأة والى ثقافة المجتمع ككل باعتبارها ثقافة ذكورية» حسب تصريح القاصة لطيفة المرابط، لكن هذه العراقيل لم تجبر المرأة/المبدعة على رفع الراية البيضاء والاستسلام والخضوع ، إذ هناك استثناءات، تعاند، وتتمرد، وتقاوم، وتواصل المشوار ولو بخطى بطيئة، وتحقق حضورا ملموسا في مختلف الأجناس الأدبية (الشعر، القصة، الرواية، النقد...)، وعلى الرغم من قلة الأسماء النسائية في الساحة الأدبية مقارنة مع الأسماء الرجالية فإن الكتابة النسائية أو ما يصطلح عليه بالأدب النسائي، قدم إضافة نوعية للأدب المغربي، وتمكنت المرأة/المبدعة من تحقيق ذاتها وقناعتها الشخصية والأدبية بعيدا عن كل التأثيرات الخارجية التي من شأنها عرقلة مسيرتها ومشوارها الإبداعي، وهو تحد تتبناه المبدعة المغربية من أجل ترسيخ خطواتها في الساحة الأدبية وتكسير صورة المرأة التقليدية المتوارثة عبر العصور التاريخية.