هل ضاع كفاح قرن في عشرة شهور!!.



محمد حسين يونس
2011 / 11 / 15

عندما وعيت ما يدور حولي في منتصف القرن الماضي كانت سيدات الأسرة كلهن سافرات بما في ذلك أمي ، خالاتي ، عمّاتي ، و جاراتنا .. الطالبة ، العاملة ، و ربة المنزل .. وكن يخالطن الرجال بدون تحفظ ، يضحكن ، يغضبن ، يتشاجرن ، ويتمسكن برأيهن دون شعور بالدونية من تفوق الرجل.
شغالات المنازل والغسالات كن يغطين شعورهن بمناديل ملونة سامحين بأجزاء منه ان ترى الشمس دون تغطية للوجه أو الرقبة ، بائعات البيض ، الجبن والقشدة الفلاحي القادمات من الريف كن يستخدمن نفس المنديل ويضاف له طرحة سوداء شفافة ، كذلك ساكنات الاحياء الشعبية مع لف أجسادهن ورأسهن بقطعة قماش سوداء سميكة يطلق عليها (ملاية لف) ويغطين الوجه ببرقع منسوج علي هيئة شبكة محلى بقطعة ذهبية فوق الانف يقال عليها (عروسة) لقد كان لصاحبات الملاية اللف ( خصوصا الشابات ) شهرة بجمالهن الأخاذ ودلالهن البادي مع تحركهن ممسكات طرف الملاية يكشفن ويغطين جزء من الوجه في متوالية بندولية تتفق مع الخطوة المتأنية التي تغزل فيها الشعراء ، يرتدين أحذية عالية تظهر خلخالا ملقي بأهمال فوق القدم .. حتي أن محمود سعيد الرسام السكندرى خلدّهن في لوحة بنات بحرى التي رسمها لهن والتى تتصدر القاعة الرئيسية بمتحف الفنون الحديثة.
في خمسينيات القرن الماضي كان السفور أمرا طبيعيا وكانت تغطية الشعر والجسد ليس لها مدلولا اخلاقيا عندنا ، وكانت الملابس تعكس ذوقا شخصيا مرتبطا بالطبقة وقدراتها الاقتصادية ولا علاقة لها بالطهر أو الرزيلة ، عندما سألت عن سبب تغطية مدرساتي الراهبات لشعورهن كانت الاجابة بأنه زيهن الخاص ولم يكن الرد أن هذا يميزهن سلوكيا أو أخلاقيا ، الهوانم كن يتبعن الموضة السائدة في اوروبا حتي في زمن مبكر كان لأمي ( ابنة البك ) صورا فوتوغرافية ترتدى فيها الميني جيب في العقد الثالث من القرن الماضي ، وكانت الفلاحات معتادات علي زى تقليدي مريح يسمح لهن بالعمل في الغيط طول اليوم لم يغيرنه منذ مئات السنين .. أما سيدات الأحياء الشعبية فكن ملتزمات بالملاية والبرقع أثناء الخروج وبقميص نوم عارى وهن يتبادلن الحديث من البلكونات تحت نظر الرجال.
سفور الخمسينيات تستطيع أن تلمحه في صور مدارس والدتك وعماتك ، وفي أزياء العاملات في الوظائف المختلفة و في شرائط حفلات أم كلثوم في جريدة مصر الناطقة حيث كان الرواد بينهم نسبة كبيرة من السيدات السافرات والمرتديات لأحدث خطوط الموضة .
بعد انقلاب العسكر و سقوط الملكية والاقطاع واتساع مساحة الطبقة الوسطي لتضم كل من استطاع الحصول علي قسط متقدم من التعليم تغيرت أزياء سيدات المدينة لتصبح متقاربة لا يفرقها الا نوع القماش وجودة التفصيل والحياكة ، ولكنها في أغلبهاعصرية .. لقد توقف استيراد صاحبات العصمة الارستقراطيات ملابسهن من باريس ولندن وفي نفس الوقت انخفض الطلب علي الملاية اللف وحل محلها جلاليب من قماش شعبي ومناديل رأس مزخرفة علي أطرافها (بالقويا) .. سيدات المدن في نهاية الخمسينيات كن قد أصبحن مماثلات لسيدات أوروبا من حيث الشكل والمزاج .. بتأخر سنة أو سنتين بالنسبة لموضات الشعر والمكياج والملابس.
عندما التحقت بالجامعة كانت الزميلات لا يزدن عن عشر طالبات من بين 300 وكن سافرات محتشمات أذواقهن متقاربة لا تستطيع أن تفرق بين من كان والدها رئيس مجلس ادارة أو كان موظفا محدود الدخل والنفوذ .. الانسات الزميلات كن بمثابة أخوات شقيقات يراعي كل منا مشاعرهن رغم مناكفات ومشاغبات المنافسة بين الطلاب حتي هؤلاء القادمون من الارياف كانوا يحرصون علي أن يكون سلوكهم مهذبا ومتحضرا في حضرتهن سواء كان ذلك في قاعات الدرس ، الملاعب ، الرحلات ، الندوات ، أو الاحتفالات، لم أسمع في ذلك الزمن عن من يتحرش بزميلته حتى في الكليات التي زادت فيها نسبة حضور الآنسات مثل الحقوق ، الآداب والتجارة .
عندما أنهيت دراستي الجامعية كانت الدفعات الجديدة يزيد فيها عدد الطالبات حتي أصبحن في حدود ثلث الزملاء ، وكانت لازالت العلاقة متزنة ومحترمة وقائمة علي المساواة والتنافس الصحي وكانت المرأة قد وصلت الى مكانة سامية فى المجتمع ، تجعل منها وزيرة وعضوة برلمان .. مهندسة وطبيبة .. صحفية وممثلة .. وتشغل نسبة ذات وزن من قوى مصر العاملة .
المكانة التى أصبحت عليها المرأة فى بداية الستينيات جاءت من خلال كفاح طويل ، بعد أن خرجت طالبات السنية الثانوية يتلقين الرصاص وضربات عصي قوات الاحتلال فى مظاهرات 1919 ، ثم خلع اليشمك بواسطة رائدات الثورة وسفر أول بعثة سيدات الى انجلترا للتدريب على إدارة العملية التعليمية ، إعلانا عن رفض التهميش للمرأة والتعالى عليها بصفتها ناقصة العقل .. إن صراع الفتيات لدخول جامعة القاهرة واستكمال الدراسة بالخارج لتصبح الدكتورة سهير القلماوى أو الاستاذة عائشة عبد الرحمن ، فتح الباب للجيل التالى من الشابات أن يرفضن التعليم المتصل بالتدبير المنزلى أو الفنون الطرزية ، وإقتحام الدراسات العلمية ، إتقان اللغات ، الدراسات الاجتماعية والسياسية والحقوقية والاقتصادية ، جيل بعد جيل من المناضلات فى سبيل التواجد رغم المعاناة من معارك الدراسة والعمل والمنافسة مع الرجال .
فى سبعينيات القرن الماضي كانت المرأة تحتل المراكز الأولى فى الثانوية العامة وأغلب كليات الجامعة ، وكان صلاح جاهين قد غنّى لها : البنت زى الولد ما هيش كمالة عدد ، وكانت خريجات الدفعات الأولى من الجامعة يشغلن مناصب هامة فى الدولة ، منهن السفيرة وأستاذة الجامعة وعالمة الذرة والباحثة الحاصلة على الدكتوراه ، والمديرات للاذاعة والتليفزيون ........... والمناضلات فى شوارع القاهرة يطالبن بتحرير سيناء وإزالة آثار العدوان . طالبات السبعينيات اشتركن فى اعتصامات الطلاب وتحرير مجلات الحائط وجميع أنشطة الحركة الطلابية ، بما فى ذلك الاعتقال والسجن وقيادة المظاهرات ، وبرعن أيضا بامكانيات محدودة من توفير الاحتياجات المعيشية للمعتصمين ودعم أسر المساجين ، وتوصيل متطلباتهم لداخل المعتقلات والسجون .. نجوم تلألأت تضوي فى سماء مصر من الاسكندرية حتى أسوان .. أروى ، سلوى ، ليلى ، سوسن ، ماجدة أسماء عادية ولكنها لآنسات رائعات سافرات فاهمات متعلمات خلال أعوام 68 ، 71 ، 72 و 73 آخر الأجيال المحترمة .
المصرية فى ذلك الزمن كانت قد حصلت على مكاسب لا ينكرها عاقل ، فهى لم تعد ترزح تحت عبء أنها ناقصة العقل بعد تفوقها ، ولم تعد تستسلم لقوامة الرجل عليها بعد أن كان باستطاعتها أن تعمل وتكسب وتستقل بحياتها ، وكانت قادرة على تغيير حالتها الاجتماعية فى حالة فشل زواجها ، وفى نفس الوقت تحتفظ بعدم اهتزاز أسرتها وأطفالها .. المصرية استطاعت أن تجرم عملية ختان الاناث وزواج الأطفال قبل الثامنة عشر وأن تحد من زواج الأجانب ( مشايخ العرب ) كبار السن لمن هن فى حكم الحفيدات .. المرأة كونت الجمعيات والاتحادات التى تدافع عنها واشتركت فى العمل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ومع ذلك لم تكن راضية ، فلقد كان القهر الذكورى عليها عظيما ، حتى فى زمن جنيها لثمرات كفاح الجدات والأمهات .. ثم توالت الكوارث والاعتداءات و جاء زمن الخسارة ، لقد أخرج خالد الذكر الرئيس المؤمن شياطينه من القمقم ، فجاءوا راكضين من السعودية وبلاد المنفى والسجون والمعتقلات وهدفهم تدمير انجازات نصف قرن من الكفاح لتحرير المرأة .
مع نهاية السبعينيات وقبل اغتيال الرئيس المؤمن بيد من أطلق سراحهم ، ومع التأثيرات الاقتصادية للانفتاح والتميز الطبقي الذى أنتج ثراء فاحشا وفقر شديدا ، بدأ عملاء السعودية الوهابية ، موجة تشكيك في ملابس سيدات المدن والدعوة للحجاب أى ارتداء زى ( يقولون انه شرعى ) يغطي الشعر وجزء من الوجه والرقبة .. ارتفاع التكلفة الاقتصادية للعناية بالشعر ، جعلت عددا من سيدات الطبقة المتوسطة الدنيا يسرعن الى الحجاب ، ثم ومع الغزو الوهابى ونقودهم سارت دعوة بين فتيات الجامعة تدعو للحجاب وتصرف لمن تستجيب مكافآت شهرية ، واستجابت من تحتاج الى جنيهات الهبة ليحدث تميز طبقى واضح مرتبط بالحجاب والحاجة .. ثم تطورت الحرب ضد المرأة لتستخدم تسجيلات الوعاظ التى تخيفها من عذاب القبر والثعبان الأقرع ، وكل ذلك بسبب شعرها العاري ، ثم مات السادات وجاء المبارك وعينه على ما سيجنيه من مكافآت وأرباح وغنائم ليترك الأمور تتدهور فتنتشر المدارس الدينية والدروس الوهابية وتتغير ببطء التقاليد والمفاهيم ، لتصبح الفضيلة والرذيلة مرتبطة بالمظهر الخارجى للانسان.
نهاية ثمانينيات القرن الماضي كانت مكاسب المرأة التى ازدهرت فى العقد السابق تواجه حربا ضروس من أصحاب اللحى والجلاليب القصيرة ، يفرضون على الجامعات أن تنفصل الطالبات عن الطلاب فى المدرجات ، وتنتهى علاقتهم تماما خارج أماكن الدراسة ، لا رحلات ، لا ندوات ، لا مناقشات ، ولا كافيتيريات ، وتنكمش الشابة رعبا من عقاب الأرض والسماء ، وتتنازل عن تفوقها فى سبيل أن تكمل تعليمها وترتدى الحجاب والاسدال والنقاب والخمار، متخلية عن الموضة والجمال والمظهر والأنوثة وكل ما كانت تتمتع به والدتها فى الستينيات والسبعينيات .
ويظل المجتمع يركد ويتعفن ويأسن بالقادمين من كهوف الظلمات ، يستولى على السيدات جماعة خلف جماعة يسجنوهن فى خيمهم السوداء وأفكارهم البالية ، ومع ذلك فان السيدات اللائي عشن فى زمن النهضة لم يتنازلن عن مكاسبهن ، لازلن يرتدين المايوهات ويذهبن لمراكز التجميل ويعملن ويشاركن ، حقا فى بعض الأحيان يستسلمن كما حدث عندما أودى زلزال 1992 بحياة عدد من البشر استغله الدعاة فى إرهاب المصريات السافرات فجاءت دفعة جديدة من المتحجبات ( دفعة الزلزال )، أو يستسلمن لفكرة عمل يوم أو يومين لسيدات فى حمامات سباحة الأندية أو فى ارتياد شواطئ مخصصة للحريم أو فى ارتداء معظم العاملات فى الحكومة والقطاع العام للحجاب ولكن لازلن ينافسن ولازلن يرغبن فى أن تكون البنت زى الولد ماهيش كمالة عدد .
فى يوم 25 يناير 2011 قامت هوجة أسس لها واشترك فيها الشابات والشبان.. هل تتذكرون تلك الشابة التى وقفت فى مواجهة أمن الدولة ( فين الأمن وفين الدولة .. يسقط يسقط حسنى مبارك ) هل كانت شجاعة منها أم نقص فى العقل !!.
المصريات نزلن الى ميدان التحرير بالعشرات بالمئات بالآلاف ، ومن كان منهن عليها رعاية طفلها إصطحبته معها ، كن يهتفن ويتلقين الضرب والتحقير والتجريس والكشف على العذرية والوصف بأوصاف مهينة ومع ذلك كن فى ميدان التحرير ، عندما سقط الطاغية وبعض رجاله وفتحوا الباب للوحوش لتهجم من كل اتجاه(( من كانوا بجوارنا فى الميدان انقلبوا علينا وطالبوا بأن نقر فى البيوت )) ، الاخوان المسلمين قفزوا كعادتهم ليصبحوا فى مقدمة ومنتصف ومؤخرة الصورة .. ثم غيلان السلفية الذين لم يغتسلوا منذ شهور ولم يغيروا ما برؤوسهم منذ مئات السنين بدأوا فى إزاحة المرأة ، تشويه المرأة ، تقديم مسوخ سوداء يقولون أنها نساء وبدأت الحرب تشتعل ، صوت المراة عورة ، لبس المرأة عورة ، ضحك المرأة عورة ، خروج المرأة عورة (( فلندفن النساء )) وبدأت كل المكاسب التى حاربت من أجلها المصريات منذ بداية القرن تتلاشى ، لقد عادت ناقصة العقل ، غير مؤتمنة على الشهادة ، تحتاج لمحرم أو وصي ، يجب إخفاؤها عن الأعين وجرت حرب ضد العاملات حتى لو كن فى مناصب عليا ودعوة للعودة للمنازل وقصر التعليم على الشباب والعودة للمدارس النسوية والفنون الطرزية وعدم تحديد النسل اى رجعنا الى خطاب نقطة صفر قبل أن تخرج بنات السنية الثانوية ليشتركن فى المظاهرات المضادة للمحتلين .
فى نهاية هذا الشهر ستحسم المعركة وسيتم الاجابة على سؤالنا هل أضاعت الشهور العشر السابقة كفاح قرن !! وتعود السيدات الى خدورهن ويتم الزواج بطفلة لم تبلغ الحلم بعد ! هل سيعاد النظر فى قانون الأحوال الشخصية بحيث يتزوج الرجل ثانية وثالثة ورابعة دون موافقة الأولى !! هل سيحتل المهووسون بتطبيق الشريعة والتضييق على المرأة لجان كتابة الدستور والبرلمان ، وهل المرأة بعد كل هذا الكفاح مستعدة لأن تصبح مثل نساء طالبان والسعودية وغزة والصومال ؟؟ أم ستحرص سيدات المدن على قيادة سياراتهن !! هذا الطوفان الذى أضاع ما صارعت من أجله الجدات ، يجب أن يوقف قبل أن يتلف حياة الحفيدات .