منافق.. خائف.. خائن.. محايد



نادين البدير
2012 / 1 / 26


حيادى.. لا رأى لك مهما كان الظرف. سلبى.. تلتزم الصمت وتستكين ماشياً ملتصقاً بأى جدار يصادفك كأفضل وسائل الحماية.. وتتعذر، تبرر بأنك مشغول أو غير مقتنع بالمشاركة أو أن الآخرين قد احتلوا الساحة، يلح عليك الوطن لإعلان موقفك، تتجاهله متعلقاً بمبادئ الحياد وبكل خيوط الوسط.

مع هيجان الشعوب العربية بدأ المحايدون يتقلصون، صارت السلبية صفة سيئة السمعة والحياد تهمة. من غير المعقول أن ينزل شباب دون العشرين للساحة لا يحميهم سوى أجسادهم وتلزم أنت بيتك وصالونك الثقافى الخاص وأحاديثك العائلية التى تخشى أن يتسرب شىء منها للخارج.

بعد لقائى مع الأستاذ وائل الإبراشى فى برنامجه «الحقيقة» على قناة «دريم» بخصوص هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى السعودية، وبعد أن قامت قيامة البعض ولم تقعد بسبب تصريحاتى التى جئت بها من الحقيقة، وصادف أن تظهر فى برنامج يحمل اسمها، دخلت فى جدل مع صحفى سعودى شهير.. اتصل بى لينصحنى كيلا أعلن عن مواقفى، لأن الحياد صفة أساسية فى الإعلامى.. تقصد أن أخون؟!

نعم أكون محايدة فى المادة الصحفية فأنقل الخبر كاملاً وأكون محايدة فأعرض كل الآراء وألتزم الحياد فى برنامجى التليفزيونى وأحاور التيارات المختلفة، حتى حين عقدت حلقة عن الهيئة حاولت ألا أميل لأى طرف.. أريد أن أسمع ويسمع المشاهد كل وجهات النظر، لكن أن أرى تخبطاً فى وطنى وأتوقف عن الكتابة أو إبداء الرأى وألزم الخرس باسم الحياد.. مستحيل.

حتى البرنامج التليفزيونى يجب أن يكون له موقف من قضايا محسومة ولا تحتمل الحياد، كالفساد مثلاً. الصحفى الشهير لا يتداول مواقفه سوى أفراد عائلته، لا أحد يعرف ما يدور فى ذهنه.. هذه هى المهنية فى نظره.

إن كانت مؤسسات المجتمع المدنى غائبة وكان البرلمان بالتعيين لا الانتخاب، أى لا يمثل الشعب تمثيلاً حقيقياً، وكانت الجرأة لدى المواطن الغلبان غائبة وكان الإعلامى محايداً.. فمن يتكلم إذن؟

اليوم، ووسط غياب كل وسائل الاتصال بين القمم والقاعدة العريضة، فإن الإعلامى هو وسيلة الشعب الوحيدة لإيصال أصواتهم لـ«الناس اللى فوق». هو ليس موظفاً عادياً من حقه أن يختار شعور الخوف.. من قرر دخول الإعلام قد قرر دخول ساحات معارك لا نهاية لها، ومن يدخل القتال يعلم أن احتمال حياته متساو مع احتمال عدمها، رغم أنه قتال محسوم النتيجة لأن النصر دائماً حليف حرية الكلمة وإن راح صاحبها. الإعلامى يكشف عن المستور، يفضح، يثير، ينتقد، ويلقى الذعر لدى المسؤولين حين يشعرهم بأنه يقف لهم بالمرصاد.. لن يمر هذا كله دون أثمان، لكنها فى رأيى سعادة، وكل سعادة لها فجواتها.

لا أسمى الخسائر أثماناً ولا أسميها خسائر، أنظر فقط للمكسب الحقيقى الذى لا ثمن له، وهو الكشف عن الأخطاء والظلم والانتصار للمواطن. ولا أسمى صفحات الرأى ساحات قتال، إنما ساحات تحرر.

أما أن يستكين الإعلامى ويتحول لببغاء يردد ما يسمع ويقرأ (سواء فى الصحافة الورقية أو التليفزيونية) فهذه خيانة للمهنة التى لا تعرف الحياد المطلق فى إعلان المواقف الحاسمة، وعودته إلى منزله أفضل له من تشويه المكان الأكثر حرية ودفاعاً عن العدالة.

الإعلامى الذى لا موقف له هو شاعر البلاط الذى أتحدث عنه دائماً، إعلامى المديح، سليل شعراء السلطان. النفاق، التقلب، الازدواجية.. تلك صفاته الأساسية.

مقاله اليوم يختلف مائة درجة عن مقاله فى الغد، ومقال بعد غد قد يعود ليطابق مقاله اليوم.. بوق يتبع السلطة، يتبعها باندفاع يخجل منه حتى الأطفال.

أجبته: مارست الإعلام لأنه رسالة، ثم إن الإعلامى ليس موظفاً هدفه راتب آخر الشهر فقط.. هو محارب مشارك رئيسى فى الشأن العام.

رد الشهير: أنا دخلت الإعلام لأتقاضى راتباً آخر الشهر.. وما علاقتى بما يحدث؟

كيف لا يخجل وهو يعلن عن خيانته؟

باسم الحياد المهنى يتخفى وراء نفاقه وخوفه. باسم الحياد المهنى يخفى الصدق ويربت على أكتاف كل المسؤولين، هذه مهنة لا تعرف الخوف. عن نفسى أكره هذا الشعور، سبق أن قمت بأشياء مجنونة فى حياتى لأتخلص منه، قلت له أخيراً: انظر للثوار من حولك لتعرف ماذا يعنى الحياد وما يعنيه الموقف، مبروك للثوار المصريين عيد حريتهم ومبروك مقادير الجرأة التى أمدوا بها العالم من حولهم، وشعور الخوف العربى المريع الذى تحدوه وقضوا عليه بصراخهم وأجسادهم.. الشهداء منهم والأحياء.