النقد المجتمعي والنسوي للصلحة العربية



عايدة توما سليمان
2012 / 2 / 2

لتقوية آلية القضاء العشائري تداعيات على مجتمعنا، هذا لا يعني النفي المطلق لهذه الآلية وإنما الوعي لجوانبها السلبية ووضع خطوات عملية للحد منها

*العودة إلى العشائرية*

أولاً وقبل أي شيء، من المهم التأكيد أنه في وضعية أقلية قومية مضطهدة تعاني التمييز والعنصرية الممأسسة والمتغلغلة داخل أجهزة الدولة، من الطبيعي أن نعاني من عدم الثقة بهذه الأجهزة وبكل مركبات الكينونة السلطوية بما في ذلك الجهاز الشرطي والقضائي وما إلى ذلك.
في وضعية من هذا النوع تنشأ الحاجة أكثر إلى محاولة إيجاد آليات تتعامل مع نزاعاتنا الداخلية بمعزل أو بابتعاد عن أجهزة الدولة القمعية وفي محاولة لحفظ الأمن والسلام الداخلي للمجموعة/ الجماعة.
إنّ إحياء أو تقوية آلية القضاء العشائري، الذي يعتبر الصلحة إحدى آلياته للتدخل السريع لوقف النزاع والحد من التدهور الحاصل في العلاقات بين طرفين أو أكثر، له تداعيات ثقافية اجتماعية بنيوية على مجتمعنا لا يمكن تجاهلها وسأتطرق إلى بعضها لاحقًا.
هذا بالمقابل لا يعني بتاتًا النفي المطلق لهذه الآلية لفض النزاعات أو على الأقل لإدارة النزاعات، وإنما ضرورة الوعي لجوانبها السلبية ووضع خطوات عملية لتقليل هذه الجوانب وتداعياتها على المجتمع:



أ‌. إحياء القبلية وتقليص التكافل الاجتماعي
إن التعامل مع عملية فض النزاعات أو إدارتها بمفهوم الصلحة التقليدي تمامًا من شأنه أن يحيي الجمرات المتبقية من رماد العشائرية أو العائلية، بما فيها من نزعات عصبية وقبلية تفرق بين أبناء المجتمع الفلسطيني بحسب الانتماءات العائلية وتجعلهم يتحزبون للعائلة بالمفهوم الضيق كما رأينا في الفترة الأخيرة من انعكاسات على المعارك الانتخابية أو على اجتماعات لعائلات بأكملها لمناصرة فرد أو فرع في العائلة دون النظر إلى حقيقة صحة الموقف أو عدالته.
في مسار الصلحة، يجري التعامل مع المسؤولية عن النزاع الحاصل أو عملية العنف الواقعة كمسؤولية جماعية لعائلة المعتدي أو عائلتي طرفي النزاع، مما بالتالي ينفي إلى حد بعيد المسؤولية الفردية عن الأفراد ويجعل العبء حتى في التعويض عن الضرر أمرًا مقتسمًا بين أبناء العائلة الواحدة رغم أن البعض قد لا تكون له أية علاقة بالحدث أو بالمعتدي بل رافضا تمامًا للعمل الذي قام به. في هذا المسار تحرّر الفرد من القرار العائلي يصبح معدومًا وتتقلص حرية الفرد.
إن مثل هذا المسار يقلص مساحة التكافل الاجتماعي المبني على تحليل الحدث واتخاذ الموقف المبني على العدالة الاجتماعية ونصرة المستضعفين وإحداث الاصطفافات حسب القناعات، ويصبح الشائع هو التكافل العشائري أو العائلي أو الطائفي في أحسن تقدير، أما في أسوأها فهو عصبية قبلية أو عائلية أو طائفية.



ب‌. تكريس الهيمنة الذكورية وتغييب المرأة
إن المبنى الاجتماعي الذي تعتمده آلية الصلح هو مبنى ذكوري تراتبي هرمي، فيه أصحاب حق القرار هم الرجال الأقوياء، كبار السن وذوو الوجاهات أو القوة الاقتصادية.
أي إحياء أو إنعاش لطقس من طقوس هذه الذكورية من شأنه أن يجذّر هذه البنى المرفوضة التي يهمّش فيها صغار السن أو الفقراء أو النساء حتى داخل العائلة الواحدة.
مثال على ذلك: المرأة في المجتمع الذكوري مكانها البيت أو ما نسميه الحيز الخاص وكل ما يتعلق بالحيز العام من عمل وعلاقات اجتماعية وقرارات عامة هو في سلطة الرجل، والجاهة والصلحة تعتمد هذا المبدأ بالمطلق إذ تغيب النساء تمامًا عن المشهد وعن عملية اتخاذ القرار مهما كانت درجة تعليمهن أو سنهن أو مكانتهن الاجتماعية أو الاقتصادية فلا يجري استشارتهن أو إشراكهن في عملية اتخاذ القرار رغم أن أي قرار يتخذ من إجلاء أو دفع دية أو أو.. سينعكس بالتالي على حياتهن وسيضطررن للتعاطي معه وتحمل تبعاته أسوة برجال العائلة بل أكثر منهم أحيانًا.
من ناحية أخرى مبنى لجنة الصلح أو الجاهة هو دائمًا ذكوري لا تشرك فيه أي امرأة مما يحمل في طياته مقولة واضحة غير مؤمنة بقدرة المرأة على الاشتراك في الحياة العامة أو فض النزاعات.



ت‌. "إطفاء حرائق" على حساب المعالجة الجذرية
الصلحة تتعاطى فقط مع إيقاف العنف وحفظ وضعية عدم العنف بمعنى أنها لا تتعامل مع أسباب العنف أو النزاع ذاته ولا تحاول وليس من دورها القيام بذلك مما يجعلنا عمليا أمام وضعية لا يجري فيها فهم جذور العنف والنزاع والتعامل معها وإيجاد الحلول لها مثل في وضعية المغار أو شفاعمرو أو ما إلى ذلك.
إن ازدياد مظاهر العنف المرئي في مجتمعنا العربي الفلسطيني في السنوات الأخيرة ما هو إلا تعبير عن تفاقم الأزمة بين العاملين الأساسيين وهما العنف المؤسساتي البنيوي من تمييز واضطهاد وقمع وعنصرية من ناحية وتراكم المشاعر القوية من الإحباط وعدم القدرة على تحصيل الأحلام والانجازات، ومواقف من عنصرية داخلية وعصبية قبلية أو طائفية لم نتعاط معها في الوقت الذي تتعاطى فيه الصلحة فقط مع مظاهر العنف المرئي فهي لا تتعاطى مع العنف غير المرئي مما يجعل عملها عملية إطفاء حرائق لا أكثر وحفظ حالة لا-عنف مؤقتة.

خلاصة

إن عمل لجان الصلح مفيد للمدى الفوري لكنه غير مجد إذا لم يُدعم بعمل بعيد المدى من مؤسسات مجتمعية على تغيير المواقف والمشاعر والاتجاهات لدى الأفراد (ونقصد جميع الأفراد وليس فقط رجال ووجهاء العائلات)، فلن يحدث التغيير المنشود.
على لجان الصلح أن تعتمد آلية تتعاطى فيها مع مسؤولية الأفراد وليس مسؤولية العائلة، ومع مبادئ التكافل الاجتماعي الذي يتخطى حدود نصرة العشيرة وذلك لمقاومة تجذير الفكر العصبي بانتماءاته المختلفة بين أبناء شعبنا.
ولا يمكن تجاهل وجود نساء في مجتمعنا، قادرات على خوض الحياة العامة واتخاذ مواقف جريئة، وعلى علم ودراية بأصول المفاوضات وبإمكانهن لعب دور ممتاز في إصلاح ذات البين.
ومن ناحية أخرى إذا كانت النساء مستفيدات أو متضررات من أي قرار يتخذ فإن الحق الديمقراطي الأساسي يحتم استشارتهن خاصة وأنه يطلب منهن أن يكنّ شريكات في تحمل تبعات أي قرار.