أنا لست... نسوية



عايدة توما سليمان
2012 / 3 / 11

النسوية مجموعة مختلفة من النظريات الاجتماعية، والحركات السياسية، والفلسفات الأخلاقية، التي تحركها دوافع متعلقة بقضايا المرأة. تتفق النسويات والنسويون على أن الهدف النهائي هو القضاء على أشكال القهر المتصل بالنوع الاجتماعي، ليسمح المجتمع للجميع نساءً ورجالاً بالنمو والمشاركة في المجتمع بأمان وحرية. و يجادل العديد بأن النسوية هي حركة شعبية تهدف إلى تخطي الحواجز المبنية على العرق، المرتبة الاجتماعية، الثقافة والطبقة والدين، التي تتعلق بالمرأة في المجتمع.



قد يثير هذا العنوان الاستغراب ورفع الحاجبين لدى الكثيرين، واستدراكا للأمر أؤكد هذه المقولة ليست اعترافا لي اسجله من على صفحات صحيفة "الاتحاد" وليست ارتدادا وعزوفا عن طريق تبنيتها منذ أكثر من عشرين عاما عن وعي وقرار، وأكثر من ثلاثين عاما عن ممارسة تلقائية. ولكل من يصفق فرحًا في انتصاره بعودة "الوعي المفقود" إليّ، اقول تمهل..
هذه المقولة، التي تحولت الى عنوان راودني منذ هممت بكتابة مقالتي على شرف الثامن من آذار – يوم المرأة العالمي، هي اعتراف صريح بل دفاع مستميت عن الذات لطالما سمعته في السنوات الاخيرة من نساء ينتمين الى جيلين مختلفين، يفصلهما على الاقل عقدان من الزمان.
صاحبات هذه المقولة في الغالب هن من النساء الشابات اللواتي يؤكدن في كل مناسبة، بثقة وحتى بنبرة فخر واعتزاز، انهن لسن نسويات! وكأنهن يربأن بأنفسهن من ظلال تهمة تنال من وعيهن الفكري ومن قدراتهن الذاتية وتجعلهن يدخلن في قفص اتهام تشكلت قضبانه مما تراكم عبر السنوات في مجتمعاتنا الذكورية من أفكار مسبقة ومخطوءة عن مفهوم النسوية بشكل عام، بفعل جهل وعدم دراية احيانا، وبفعل تفكير مسبق بضرورة تشويه صورة اولئك النسوة اللواتي يتخذن من النسوية فكرا وممارسة في حياتهن، في أحيان أخرى، فيتحولن في نظر المجتمع الى غاضبات مريرات ناقمات على مجتمع لم يحققن فيه طموحاتهن في وقت لا يملكن فيه القدرات ولا التصميم الكافي للوصول الى أهدافهن، بمعنى انهن صاحبات أحلام اكبر من قدراتهن.
عادة، يتشكل لدى هؤلاء الشابات أو النساء "غير النسويات" صورة مشوهة للنسويات، فهن- النسويات- عمليا نساء فشلن في حياتهن الشخصية، لديهن كره للرجال، غالبا ما يكنّ مستفزات رافضات، ينتقدن ولا يجدن الا الصخب...
طبعا لسنا بصدد الدخول الان الى حقيقة ان هذه الفكرة المشوهة موجودة لدى قطاعات واسعة من الرجال الذين ينكرون أصلا وجود تمييز ضد النساء في المجتمع أو يتعاطون معه كأمر مفروغ منه بل من الطبيعي ان يسود "لأننا اصلا خلقنا ذكرا وأنثى مختلفين".. ولكن للاسف عندما يتطور الحوار مع هؤلاء الشابات نكتشف انهن يعين التمييز الممارس ضدهن على المستوى الشخصي لكونهن نساء ويغضبهن، الا انهن يغصن بتفاصيله الشخصية دون محاولة للخروج من الأسر الذاتي لتفحص الوضع العام وانتهاج الربط العضوي الذي تدعو له النظريات النسوية ما بين العام والخاص.
الجيل الآخر من النساء اللواتي يرددن مقولة " انا لست... نسوية" هو جيل النساء المتقدمات في السن، قد يكن تجاوزن الخمسين بقليل أو بكثير. في هذه الحالة نلاحظ ان تلك النساء اللواتي يدفعن عن أنفسهن "تهمة" النسوية بالحدة ذاتها أو أكثر قليلا، يتحدثن عن التمييز ضد المرأة من منطلقات سياسية عامة بحتة فالاساس في وضعيتنا نحن النساء العربيات في اسرائيل هو النكبة وهو تشريد شعبنا وهو التمييز القومي الذي تمارسه الدولة ضد جماهيرنا، ومشاركتنا في النضال تتمحور حول العمل السياسي والوطني العام. لدى هؤلاء النساء اللواتي نعزّهن ونجلّهن لتاريخهن النضالي الطويل، تختفي الانا ويختفي الشخصي ليذوب بالهمّ العام، وتختلط الذكريات لتمحو منها ذاكرتهن الانتقائية ما تعرّضن له من تمييز واضطهاد على الصعيد الشخصي. فالشّخصي لدى هذا الجيل أمر هامشي من غير المهم الحديث عنه، فذواتهن كلها مكرسة للهم العام وللواقع السياسي الاقتصادي والاجتماعي، في الحديث عن الشخصي أنانية وتمحور بالذات مرفوض ومهم، وعملية الفصل بين الخاص والعام تكاد تكون ميكانيكية. النسوية لدى هذا الجيل على الغالب مرتبكة بحراك نسائي متمحور بالذات ومتمركز بالشخصي يغيب عنه الوطني ويغلب فيه خطاب غريب عنهن وعن مفاهيمهن النضالية.

تساؤل دائم!

قد يتبادر الى الذهن انني في ما اسرده احضر تجربة شخصية ضيقة لحوارات معدودة صادفتها خلال العمل النسوي، وقد يكون في ذلك وجه لحقيقة جزئية. الا انه من ضمن النقاشات النسوية الدائرة بين العديد من الاطر النسوية نلاحظ ان قضية انخراط الشابات في العمل النسوي تُطرح وبثقل يرافقها تساؤل دائم: لمَ هذا الابتعاد وأين هن الشابات من الحراك النسوي؟ قد يكون لما شخّصته في البداية من انطباعات وافكار عن النسوية قسط وافر في هذه الغربة الا انه لا يمكن ان لا نتعاطى مع حقيقة وطبيعة الحراك النسوي في السنوات العشرين الاخيرة، والمنبثق اساسا من الاطر والجمعيات النسوية التي تشكلت في معظمها على اساس خلق مساحات لتمكين ومحورة عمل النساء النشيطات حول قضايا جوهرية في صميم مكانتهن، بعد ان انحسر نشاط الكثيرات منهن في العمل السياسي العام من جراء خيبات أمل تتحمل مسؤوليتها الاحزاب والحركات السياسية والشعبية التي تراجعت جرأتها في طرح قضايا المرأة، أو اصطدمت بسقف لم تتجاوزه لتجاري الوعي المتراكم لدى النساء القياديات وشجاعة طروحاتهن فيما يتعلق بحقوق النساء بشكل عام.
لقد نأت الكثير من الاطر النسوية وبشكل مصطنع بنفسها عن الحراك السياسي العام لسنوات طويلة وكرست جل طاقاتها في النضال من أجل حقوق النساء وفي الغبن الواقع عليهن في المجال الخاص.
النسوية مجموعة مختلفة من النظريات الاجتماعية، والحركات السياسية، والفلسفات الأخلاقية، التي تحركها دوافع متعلقة بقضايا المرأة. تتفق النسويات والنسويون على أن الهدف النهائي هو القضاء على أشكال القهر المتصل بالنوع الاجتماعي، ليسمح المجتمع للجميع نساءً ورجالاً بالنمو والمشاركة في المجتمع بأمان وحرية. و يجادل العديد بأن النسوية هي حركة شعبية تهدف إلى تخطي الحواجز المبنية على العرق، المرتبة الاجتماعية، الثقافة والطبقة والدين، التي تتعلق بالمرأة في المجتمع.
قد نلاحظ بونا بين عمل بعض الاطر النسوية وبين هذا التعريف النظري الا ان الحركة النسوية شأنها شأن اي حراك سياسي تتعدد فيه المذاهب والنظريات الفكرية والبرامج السياسية وبدون توضيح هذه المشارب الفكرية وبدون الالتصاق بالبرنامج السياسي تبقى كأي حركة ينقصها الوضوح وتكتنفها الضبابية والافكار المغلوطة في اذهان جمهورها.
إن التحدي الاكبر الذي يواجه الحراك النسوي هو في الربط ما بين الخاص والعام والحفاظ على التوازن فيما بينهما. وحتى لا يجري التسطيح في تناول النسوية ما تعنيه وحتى لا تتحول النسوية الى تهمة تتبرأ منها النساء والرجال على حد سواء أو غطاء تتمسح به القوى الذكورية – رجالا ونساء – يصبح من الضروري صياغة مشروع نسوي وطني سياسي دمقراطي سهل التناول يبدأ من الشخصي جدا ليتجاوزه الى العام، من أجل قلب موازين القوى في المجتمع وبناء العدالة الاجتماعية والتحرر من الاضطهاد القومي والديني والثقافي والاقتصادي لجميع البشر، وتصبح مقولة "انا نسوي/ة " شهادة ادراك سياسي راقٍ..