-يوم المرأة العالمي- في -عالَم الرَّجُل-!



جواد البشيتي
2012 / 3 / 11


إنَّ أكْرَهَ الأيَّام إلى نفسي هي "الأيَّام العالمية"، الكثيرة المتكاثرة، كـ "يوم المرأة العالمي"، و"يوم العمَّال العالمي"، و"يوم القدس العالمي"؛ فالاحتفال السنوي بها فَقَدَ جاذبيته، وما عاد له من المعاني إلاَّ ما هو أقْرَب إلى النفي منه إلى التأكيد.

دَعُونا من عبارات المجامَلة للمرأة، في يومها العالمي، ومن خُطَب التكريم والتعظيم الزائفين لها، ومن بيانات العزاء التي مجَّتها أسماع الواقع (الاجتماعي والإنساني للمرأة) والتي تتكرَّر فيها، سنوياً، الجُمَل البليغة ذاتها، كَجُمَل "المرأة هي الأُمُّ والأخت والزوجة وشريكة الحياة للرجل"، و"المرأة هي نِصْفنا الآخر نحن معشر الرجال"، و"المرأة التي تهز السرير بيمينها تهز العالم بيسارها"، و"المرأة هي نصف المجتمع".

وإنِّي لأعْتَرِض كثيراً على الجُمْلَة الأخيرة؛ لأنَّها، ولجهة معناها، هي الأكثر منافاةً للواقع والحقيقة، في عالمنا العربي، فالمرأة عندنا هي نصف المجتمع من الوجهة الديمغرافية الصرف؛ لكنَّها "أقلية (من الوجهة الاجتماعية والثقافية والسياسية..)"؛ والمرأة، في معانيها السياسية السلبية، ليست نصف مجتمعنا العربي؛ لأنِّنا (وبالمعنى السياسي أيضاً، أو في المقام الأوَّل) في زمن انقراض الرجال، ومعهم الرجولة.

ضدَّ "التحرير"، يُحدِّثوننا عن "التكريم"، فالمرأة عندنا مُكرَّمةً معزَّزةً؛ و"التحرير"، أي "تحريرها"، إنَّما هو آخر شيء يمكن أن تحتاج إليه؛ ولقد صَدَق من قال إنَّ المرأة هي "المعبودة ـــ المُسْتَعْبَدة"، فالرجل يَعْبُدها ما ظلَّت له عَبْدةً مُسْتَعْبَدة، فإنْ هي سوَّلت لها نفسها "الأمَّارة بالسوء" أنْ تَطْلُبَ لنفسها شيئاً من الحرِّية (التي يَنْعم بها معشر الرجال) أو أن تسعى إلى أن تكون على قدم المساواة مع الرجل في الحقوق، كَفَر بها الرجل، وأصبحت في نظره الشيطان الرجيم، تَسْتَحق اللعنة والرَّجم.

إنَّ "التحرير" هو و"الاستعباد" الواحد وقد ازدوج، فلا يتحرَّر إلاَّ المُسْتَعْبَد؛ ولا تأتي الحرِّية إلاَّ من طريق الصراع ضدَّ العبودية؛ وهذا إنَّما يعني أنَّ الدعوة إلى تحرير المرأة، أو إلى حرِّية المرأة، أو إلى المرأة الحرَّة، لا معنى لها، ولا أهمية، إنْ لم تكن اعترافاً (من أصحابها) بواقع العبودية والاستعباد الذي تعيشه المرأة.

أمَّا "التحرير" نفسه فلا معنى له، ولا أهمية، إنْ لم يكن "تَحَرُّراً"؛ فتحرير المرأة إنَّما هو أن تُحرِّر المرأة نفسها بنفسها، غير منتظرة أن يسبغ عليها الرجل نعمة الحرِّية، فإنَّ حرِّية المرأة لا تأتي من الرجال، وإنَّما من صراع المرأة نفسها ضدَّ "مملكة الرجل"، التي ابتناها الرجال لأنفسهم من الحجارة المتأتية من هدم وتدمير حقوق النساء؛ كما أنَّ فاقِد الشيء لا يعطيه، فكيف لمعشر الرجال، في بلادنا، أن يُحرِّروا نساءهم، وهُمْ الذين في غالبيتهم العظمى لا يَعْرِفون من الحرِّية السياسية إلاَّ ما يَعْدِل ما تتمتَّع به المرأة من حرِّية في "بيت زوجها"؟!

ذات مرَّة، أفتى مفتي مصر علي جمعة في مسألة "تولِّي المرأة رئاسة الدولة"، فأكَّد في فتواه أنَّ هذا الأمر غير جائز شرعا؛ "لأنَّ من سلطات رئيس الدولة إمامة المسلمين في الصلاة شرعا، وهي (أي تلك الإمامة) لا تكون إلا للرجال".

المفتي، حتى يُسْمَع، أبدى شيئا من "المرونة الحضارية"، فقال في فتواه: "إذا كانت الحقوق السياسية، بمفهومها الشائع، تشمل حق الانتخاب والترشيح وتولِّي الوظائف العامة، فإنَّ مبادئ الشريعة لا تمانع في أن تتمتع المرأة بحق الانتخاب والترشيح، وفي أن تتولَّى الوظائف العامة ما عدا وظيفة رئيس الدولة".

ولمَّا كان "الرجال" في "برلماناتنا العربية" لا يملكون من سلطة القرار (السياسي) إلا ما يقل عمَّا تملكه المرأة من "سلطة" في "بيت زوجها"، أو في "بيت أبيها"، أجاز المفتي للمرأة الترشيح في الانتخابات لعضوية هذا المجلس أو ذاك، "على أن" تُوَفِّق بين عملها العام هذا وبين حق زوجها وأولادها.. عليها؛ وعلى أن تبتعد عن السفور، والتبرُّج، و"الخلوة غير الشرعية (مع الرجال)".

إنَّني، و"انحيازاً إلى الرجل"، أدعو، متمنِّياً ألاَّ تكون دعوتي كدعاء كاهِن، إلى أن تُحرِّر المرأة نفسها بنفسها، أي إلى أن تنتزع حرِّيتها انتزاعاً، فإنَّ الرجال لا يمكن أن يكونوا أحراراً ما استمروا على استعبادهم لنسائهم؛ والمجتمع نفسه، وكله، لا يمكن أن يكون حُرَّاً ما بقيت نساؤه مُسْتَعْبَدات، فإنَّ منسوب حرِّيته يَعْدِل (تقريباً) منسوب حرِّية المرأة، التي في واقعها تتركَّز عبودية المجتمع؛ وإنَّني لمؤمِن بأنَّ المجتمع الحر لن يظهر إلى الوجود عندنا إلاَّ عندما يتغيَّر في "واقعه الموضوعي"، بما يَحْمِل الرجال فيه على أن يُحِبُّوا لنسائهم ما يُحِبُّونه لأنفسهم، وأن يجيزوا لهن ما يجيزونه لأنفسهم.

لقد قُلْتُ بحرِّية تنتزعها النساء انتزاعاً لهُنَّ؛ وعلى القائلين بغير ما قُلْت، أو بضدِّه، الاَّ يضربوا صفحاً عن حقيقة تاريخية كبرى هي أنَّ أوَّل "صراع طبقي" عرفه التاريخ كان بين الرجل والمرأة، فـ "مملكة النساء"، بحيِّزيها الأرضي والسماوي، هُدِمَت ودُمِّرت في حروب، بعضها بـ "الحديد والنار"، خاضها الرجل ضدَّ المرأة.

ومُذْ وضعت تلك الحروب أوزارها، واتَّسَع وتوطَّد تملُّك الرجل للأرض، والمرأة في حال "المعبودة ـــ المُسْتَعْبَدة".

وهذه الحال سرعان ما سُقِيَت بماءٍ، بعضه من "الحقائق (الاقتصادية الموضوعية في المقام الأوَّل)" وبعضه من "الأوهام"، فبدائية أدوات العمل أنْتَجَت "تقسيماً للعمل"، فَرَضَ على المرأة تأدية "العمل المنزلي"، في المقام الأوَّل؛ ولقد كان عملاً لا يمكن تمييزه من "العبودية المنزلية"؛ أمَّا "الأوهام" فكان أعظمها وَهْم أنَّ الرجل هو الأصل في إنجاب المرأة له أولاداً؛ ولم يَشْفَ المجتمع من هذا الوهم، ومن تبعاته، إلاَّ عندما اكْتُشِفَت "البويضة"، وتأكَّد، من ثمَّ، أنَّ الأُم والأب يتساويان في "الأسهم" التي يمتلكانها في ابنهما.

ومع اشتداد حاجة أرباب العمل (المتنافسين اقتصادياً) إلى تحسين وتطوير البنية التكنولوجية للرأسمال الثابت، تهيَّأ لتحرُّر المرأة، ولخروجها إلى العمل، الأساس الاقتصادي (والاجتماعي) الموضوعي، فما عاد الفَرْق في القوى البدنية بين الرجل والمرأة يُنْتِج فَرْقاً اقتصادياً (واجتماعياً) بينهما؛ لكنَّ العبودية التي تتلاشى وتضمحل أسبابها الموضوعية تظلُّ إلى حين مقيمةً، ومناضِلةً، في ثقافة المجتمع ووعيه وعاداته وتقاليده، وكأنَّها الشجرة التي قُلِعَت من جذرها، ولكنَّها ظلَّت مورقةً خضراء إلى حين.