المرأة ودورها في الثورات العربية



سماح هدايا
2012 / 3 / 12


الثورات العربيّة التي انطلقت شرارتها من تونس البوعزيزي، وامتدت إلى الوطن العربي، في مواجهة القهر الاجتماعي والاستبداد والفساد، رافعة مطالب الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعيّة، كانت محمولة بطاقة ثوريّة هائلة؛ فوصلت إلى كل بيت في مجتمعاتنا العربية، وسوف تطال كل شيء في مكوناتنا، لأنها حركة تغيير تاريخي. فكيف نتوقّع ألا تصل إلى واقع المرأة التي كانت من مفجري الثورة ومن قيادي الثورة، وقدّمت مثالا على إرادة جبارة وشجاعة عالية، عندما واجهت بصلابة أقوى الأنظمة استبدادا وتسلطا؟ المرأة مثلها مثل الرجل، ومثل أي مواطن، كانت قد عانت من التهميش السياسي ومن سلب الحقوق الوطنيّة، وغياب الحريّات الفكريّة والسياسية. ربما وضعها أصعب وأشد وطأة بسب النظام السلطوي الأبوي. ولذلك كانت ثورتها ثورة مجتمعيّة
والثورة في ثوراتنا العربيّة،، تقول أنّ العالم بدأ يتغيّر، وأن بلادنا، على الرغم مما ينتظرها من تحديات، وما يحيط بها من مؤامرات، بدأت تخطو أولى خطواتها نحو التاريخ الجديد، في كل المجالات وعلى كل المستويات؛ فالثورة ستفكك بنيات رجعيّة متخلّفة، وتبني بنيات جديدة.
المرأة العربيّة اتحدّت بالثورة، قلبا وفعلا؛ فخرجت في الشوارع، تحت البرد والشمس والرصاص والقصف والقنص، ثائرة، تندّد بالطّغيان والاستبداد؛ وواجهت غيلان المتسلطين متصدية لهم بجسدها القوي الذي سجنوها فيه، وقيّدوها بقيود المحرّمات. فاعتصمت المرأة في الخيمة مع آلاف المعتصمين وكانت في المقدمة، وقادت الاعتصامات، ونسّقت لكثير من التّظاهرات و أنشطة الحراك الثوري.
ليس الكلام، هنا، توصيفا لما فعلته المرأة، وإنّما هو ربط بفكرة كسر الدونيّة والاستخفاف بقوة الذات، وهو وعي طغى على إدراك المرأة لذاتها، واستمدّ منه مجتمع السلطة الذّكريّة قوّة التّحكم بها. وكان لحصول المرأة اليمنية الثائرة على جائزة نوبل للسلام، بغض النّظر عن دوافعه، دفعة قوية جدا لتعزيز دورها في الشأن العام الوطني، وفي مشروع بناء دولة جديدة ومجتمع جديد.وفرد جديد
لكنّ المرأة العربيّة لم تخرج، من موقعها الفردي، دفاعا عن قضيتها الشخصيّة، تحت إطار (الجندريّة)، وبدفع منّ الهيئات الحزبيّة النسوية التي تبنتها بعض الأنظمة الحاكمة، أو بعض الحركات العالمية التي ملأت الدنيا وأقعدتها بموضوعات الحريّة النسويّة، وبحالات صورة الضّحيّة أمام وحشيّة الرجل والدين والعادات والتقاليد. لكنْ، عند لحظة الفعل الجدّي الملتزم، كانت تلك الحركات النسائيّة ورموزها، الداعم لنظام الاستبداد. فكثيرا ما أغرقتنا الأديبات العربيّات والمخرجات والفنانات والإعلاميات والمثقفات وصاحبات الأعمال والأعيان بأقوال ناريّة في الحرية، وأطلقت أحلامنا بمطالب حريّة لاحدود لها، لكنها مع الثورات؛ أعلنت رفضها للثورات العربيّة، بحجة الأصوليّة والأجندات الخارجيّة والإرهابيّة، وتبّنت مواقف النظام الاستبداديّة. وحاربت، فيها، بوقاحة المرأة المتحرّرة، كما تدّعي، زميلتها المرأة التي ناصرت الثورة والثوّار. ثمّ عادت لتسبح بحمد النظام وشكره. وبالطبع؛ فإن السبب في افتقار هذه الحركات للأصالة، ولنزاهة الهدف الوطني، وعدم اكتراثها بالشّأن التحرّري العام، هو أنّ همّها منصب على تحقيق مكاسب جزئيّة، وعلى تحرّرها من سلطة التقاليد والعادات المتحكمة، وعلى اكتساب مصالح وسلطات ذاتية واجتماعية مؤقّتة ومشروطة. وبعض هذه الحركات والرموز صناعة نظام الاستبداد ومن أركانه، الهدف منها تحويل النظر بعيدا عن منظومة الاستبداد الحقيقية وتجميل لديمقراطية زائفة وحريّات واهية، وإلهاء النساء بأمور جانبيّة، لكي يبقى رأس الاستبداد وهرمه. بينما المفروض في حركات التحرر النسائيّة مناهضة الاستبداد، ومكافحة الفساد.
إن الثورات العربيّة، أطلقت المرأة، عمليّاً ونضاليّاً، من عقدة مشروع ضيّق فئوي إلى رحابة مشروع يمتد على رحابة الوطن بأكمله، ويشملها هي والرجل. في شراكة إنسانيّة ومجتمعيّة واجتماعيّة سياسية، تحت مصطلح هو المواطنة. والمواطنة بكل أشكالها، بما فيها المواطنة الّسياسيّة. والمراقب للثورات العربيّة، يرى أن عدد الشهيدات في الثورات العربيّة وعدد المعتقلات والناشطات، ليس بقليل. فالثورة جعلت الفرد المشارك في الثورة امرأة ورجلا يتخلق بأخلاق بالدولة المدنية المرتقبة ويستميت في الدفاع عنها. وجعلت المرأة بشجاعتها وإصرارها وصمودها في ساحات الثورة وخيمها وحراكها، تتخلّص من قيود النظرة الدونية لنفسها، عندما لعبت دورا كبيرا في الثورات يتلاءم مع دورها الإنساني، وكانت قائدة ميدانية، وكانت الشريكة للرجل بل وأكثر في المجال الإغاثي والصحي والإعلامي، والتحضيري والتظاهري. وفي التضحية بنفسها وبأبنائها وأهلها من أجل ثورة الحرية والكرامة والعدالة . وكما قالت توكل كرمان القيادية في الثورة اليمنية في برنامج بلا حدود على قناة الجزيرة(1): المرأة كانت قائدا في ساحة الثورة وفي إدارة ساحة الثورة أسقطت العادات والتقاليد المغلوطة. المرأة تمثل أمل الإنسانية. انتهى عصر العزلة التي كانت تعيش فيها المرأة المسلمة، المرأة المسلمة يجب ألا تبقى حبيسة الحيطان وحبيسة الأوامر والنواهي. المرأة يجب أن تقود الأمة، وليس فقط أن تقود بيتها.
الثورات العربيّة، لا تقتصر على البعد السياسي؛ فهي في جوهرها ثورات اجتماعيّة، ضد الظلم الاجتماعي وضد العادات والتقاليد الفاسدة المستبدة المتخلّفة المغلوطة. الثورات كانت لإسقاط النظام السياسي والاجتماعي والثقافي والفكري والتربوي، ونصرة للحقوق العادلة والحريات. وقد تجاوز الثوار بنسائهم ورجالهم سيطرة الإرث العائلي المستبد. لذلك من الخطأ، احتساب النصر والحرية او المكسب بعدد القوائم الانتخابيّة والمناصب، مع أنه ضروري وحتمي. المهم الآن في هذه المرحلة أن المرأة، اتسع شكل إنتاجها الوطني، فأصبحت معنية بأمر بلدها ووطنها وبالشّأن السياسي، وأدركت دورها الأساسي فيه. وخرجت من دورها التقليدي البيتي.
ولأن هناك مؤامرات على الثورات العربيّة؛ فسيكون تآمر على مكونات الثورة ومن ضمنها المرأة. وجزء من بناء الدولة بعد الثورة هو بناء موضوع المرأة. ففي البلاد العربية التي أنهت المرحلة الأولى وهي إسقاط رأس النظام السياسي، تبدو الصورة غير مشرقة؛ فالتمثيل السياسي للمرأة ضعيف؛ وأسماء النساء في القوائم الانتخابية وفي الوزارات وفي البرلمان محدودة، مع أن التجربة التونسية أفضل من المصرية والليبية، لكن مازال مبكرا التحدث عن خسارة المرأة وعن سرقة دورها السياسي في ثورات الربيع العربي؛ لأن الثورة لم تستكمل طريقها بعد، ولم تحقق مشروعها، ومازالت في مراحلها الأولى. ولعل، في ظرف خطير كهذا، من الطبيعي تأجيل ملف المرأة، كحالة فئوية مستقلة، بسبب الحاجة الملحّة لإسقاط النظام السياسي ورموزه.
والآن على المرأة أن تقدم سياسيا، وعليها أن تشارك الرجل على تحقيق المواطنة المتساوية والفرص المتكافئة.. مهمّة جدا حقوق المرأة ككيان مستقل؛ لكن، في السياق ذاته، يجب أن نتحدث عن مواطنة متساوية للرجل والمرأة وعن حقوق للجميع. فالأساس هو المساواة في الحقوق والحريات وممارسة المواطنة المتساوية الواحدة. ويجب أن تراعى قيم الدين الإسلامي كمنظومة أخلاق، لكن بعد تطوير النظرة إلى التشريع فيها، ولا أن يجري استخدام الدين في قلع الحريات واغتصاب الحقوق بالتعاون مع السلطات من اجل تكميم الأفواه ولجم الثورات.
نستطيع أن نتعاطى مع ملف المرأة، بمعزل عن السياق العام التحرري النهضوي؛ فلا يمكن أن تتحرر المرأة إلا بتحرر العقل والفكر والإرادة
الثورات العربية منذ انطلقت، هدفت إلى إقامة نظام سياسي مدني تعددي، بناء على الحرية و الكرامة الإنسانية و العدالة الاجتماعية. وعندما خرجت المرأة لم تخرج؛ لأنها امرأة، بل لأنها مواطن يبحث عن الحرية في نظام سياسي اجتماعي، وبذلت الأغلى في سبيل تحقيقه، ولا رجوع إلى الوراء، ولا مساومة أو تنازل عن قيام النظام السياسي الاجتماعي الذي يلبي تطلعاتها وآمالها. لكن ذلك لن يتجسد في الواقع حقيقة ودفعة واحدة وبسرعة، إنه يتطلب كفاحا ونضالا، ويلزمه تطوير أدوات النضال وطرق العمل للوصول إلى الهدف. ويجب أن يكون الصراع الذي تخوضه المرأة والرجل ليس للمكاسب السياسية فقط بل للمكاسب الاجتماعيّة.
وضع المرأة العربيّة مازال هشا؛ فهي مازالت بعيدة عن مصادر القرار. لذلك عليها متابعة النضال، لتكون قادرة على اتخاذ القررات، وأن تشارك في تشكيل الدستور، وذلك ضمن فكرة المواطنة المرتبطة بالكرامة والحريّة الإنسانيّة. أما فيما يتعلق بالشريعة الإسلامية ودورها في التشريع والقانون والجدل الدائر؛ فنحن بحاجة قبل هذا أن نعيد تأويل النصوص الدينية ونفعيل الاجتهاد الحقيقي وفق الواقع الجديد ومستجداته من أجل تطوير التشريع والاجتهاد، والوصول إلى قوانين عصرية. وبحاجة إلى مراجعة قانون الأحوال الشخصية وتطويره. لكن علينا حل المشاكل الكبرى قبل حل هذه المشاكل المركبة؛ وإذا وقفنا لنتحسر على ما لم يتحقق للمرأة بعد الثورات؛ فهذا هروب من الواقع الصعب وقفز على الوقائع، فقضية المرأة مشكلة مركبة، متعلقة بأمور أخرى، وكلها تعود إلى النظام الاستبدادي السياسي الاجتماعي، الذي ثمثّل، مطلق الأهميّة، الخطوة العملية الحاضرة لزحزحته كاملا. في برنامج متكامل شامل، يشارك فيه المرأة والرجل.
المرأة في الثورات العربيّة، خصوصا، المرأة السّوريّة، دفعت أثمانا باهظة من دمها، وقدّمت مثالا عظيما في الصمود، من حياتها وحياة عائلتها، ولم تفعل هذا من أجل مكسب نسائي، فالثورة هي للمرأة والرجل والطفل والثورة هي مشروع لليمقراطية والحرية والكرامة. لكن على المرأة خوض معارك الريادة وعدم التهيب من الذهاب إليها وإلى الخوض في معترك المراكز القيادية الإنتاجيّة، وأهم مايلزمها هو الثقة بذاتها، وإيمانها بأن مشاركتها في بناء الدولة هو مشروع نهضة للوطن وأبنائه جميعا، وهو أكبر من مكسب فئوي؛ الأمر الذي يفرض عليها النضال بإرادة قوية مستمرة من أجل خلق تدابير ومواقع قانونية ترفع من شأنها ومن شأن حقوقها؛ فالعدالة والديمقراطية لا يصمدان من دون وجود القانون. ووجود المرأة وجودها في البرلمان أو مجلس الشعب ضروري من اجل سن القوانين التي تخدمها وتخدم مجتمها من دون تمييز بين الأفراد.

وعلى المرأة أن تكون جزءا اساسيا من بناء الدولة وجزءا أساسيا من بناء المجتمع وجوهر قضيتها الفردية، كإنسان أولا وكإمرأة ثانيا، يتحد نضالها السياسي. والديمقراطية ليست فقط معركة الانتخاب واللائحات الانتخابية؟ هي وسيلة لتحقيق الحرية والعدالة والمساواة والكرامة. ومازالت الثورات العربية لم تستكمل مشروع تحرررها، ولم نتخلص تماما من نظام الاستبداد. والبناء الاجتماعي هو خلاصة التجارب وتطويرها، وكل المجتمع مسؤول من نظام سياسي وثقافي وقانوني ومجتمعي وأخلاقي وعثائدي، ومؤسساتت التربية والتعليم. ونحن بعد الثورات العربية، أصبحنا نسأم بكاء النساء ضياع حقوقهن، وجلدهن المستمر للرجال وللدين والمجتمع، وتحميلهم مسؤولية نقص حقوقها واعتبارها. نحتاج إلى الفعل المتعاون، الفعل يختلف عن الاكتفاء بالنقد والتباكي. مشكلة المرأة أنها لا ترى الحرية إلا بزاوية واحدة. فمثلا ترفض ما تراه المرأة في وجهات المجتمع. مثلا أين كوليت خوري؟
ليس لدينا وصفة جاهزة وتصورا كاملا عن موقع المرأة في المستقبل، لكن معركة المرأة لن تكون سهلة وأولها مع نفسها لتحسم خياراتها المبدأية والعقائدية والثقافية قبل أن تخوض الحرب السياسية والنضال الاجتماعي الحقوقي
. د. سماح هدايا