البعبع



هادية حسب الله
2012 / 5 / 14

"أيها الأخوة الرياضييييييين... عالم الرياضة.."
التقطت صوت المذيع وهو يعلن برنامجه الذي صارت موسيقاه تدفع دماء الخوف في عروقها، إذ تعلم إن ميعاد البرنامج يتزامن وتوقيت عودة أبيها إلى البيت من العمل.. لذا ما أن سمعت الموسيقى حتى ركضت خائفة .. دخلت عبر الباب الصغير لاهثة الأنفاس ، عنفتها أمها على التأخير وأخبرتها أنها الأب لم يعلم بعد أنها خارج المنزل همست لها متواطئة: أجرى غيرى هدوم المدرسة قبل ما يشوفك وأنا ما بوريهو بس أوعه تتأخري تانى!؟.. احتضنت أمها بحب. وكانت أمها تبتسم برضا وتزيح شبح ابتسامة تسلل إلى وجهها. خرج الأب من الحمام. ووضعت صينية الغداء. تقدمت بتردد وألقت عليه التحية فاجابها الأب بفتور تقلصت معدتها عرفت انه عرف بوصولها متأخرة ، فكرت في الانسحاب ولكن نظراته النارية أوقفت محاولتها، بدأ في تعنيفها فاختنقت بدموعها وبلقمة"البامية" التي انحشرت بوسط حلقها تعترضها عبراتها.. ظل صوت أبيها المؤنب مواصلاً لتهديداته لها وتوبيخا ته .. قاطعته متدخلة أنها وصلت مبكرة وهى من أرسلها للجيران لجلب غرض ما. من تحت الصينية امتدت يد أمها تربت عليها. رفعت بصرها لتجد أمها تنظرها بتعاطف كبير وحب هدأ الأب شعرت بالأمان وابتلعت لقمتها.
إن التقسيم الذي تقوم به الثقافة لادوار الأسرة حيث يكون الرجل هو الوحيد المسئول من الانضباط وإنزال العقوبات هو أمر بالغ الخطورة إذ يرسل هذا الدور لمستقبل الطفلة رسالة واضحة وهى إن الرجل "بعبع" غاضب لا وسيلة لمعايشته سوى بالتحايل عليه وخداعه، فالبنت التي تعود متأخرة لتجد أمها غاضبة عليها ولكن دون صراخ أو هياج تفهم إن الأب يمكنه أن يؤذيها وتتجنب غضبه بالتحايل والتأمر عليه، وبذلك تستسهل المرأة مستقبلياً الكذب على زوجها إذ لا حاجة مثلاً لإخباره بثمن "التوب" الحقيقي إذ من المؤكد إنه سيغضب ويثور، كما تعتقد إن ما علمته لها أمها في التعامل مع الرجل يتلخص في مواجهة غضبه بالرد الناعم والحيل المخادعة.
والخطير حقاً في تطبيع هذه النماذج من السلوك أنها تعمق لدى المرأة فكرة إن الرجل من حقه أن يثور عليها وأن يغضب. وان مواجهتها لهذه الثورات يجب أن تكون بالخنوع والمناورة إذ تتطلع المرأة للرجل وهى تتوقع انه ومن ذات موقع الحب لها بإمكانه أن يذلها ويؤذيها نفسياً أو حتى جسدياً. وقد تكره هذا السلوك منه ولكنها تشعر بالتطبيع معه لأنها تعلمت أن تتوقعه.
ولأن النفس البشرية بالغة التعقيد يصبح تعبير النساء عن غضبهن المكبوت معقداً ومربكاً للرجل إذ تناور المرأة المكبوتة حول غضبها من الإخفاء مثلاً فتدفع بالرجل ليثور ويغضب عنها، لتؤكد لذاتها إنها ضحية وان إخفائها يعد تافهاً قياساً بفظاظته وهيجانه. لتستمتع بشعور الضحية الذي يجعلها خالية المسئولية. وليكتمل التعقيد تكون المرأة المستسلمة لدور الضحية غاضبة لاضطرارها لتجسيد هذا الدور فتعبر عن ضيقها وخوفها بتحكم تعسفي إذ ترتدي قناع المتحكمة بزوجها ليكون في "نقتها" ملاذاً لها من الشعور بالخوف والرعب بأنها تحت سيطرة الرجل وتستعيد عبرات خوفها وهى طفلة وتتعجل للسيطرة على زوجها قبل أن يسيطر عليها مثلما فعل الأب في الماضي، وبقد ما تنق وتسيطر تخاف انتقام الزوج بهجرها وترتعب من أن يسأم منها ويهجرها. وتتحرى خلف اى نزوة لأنها قد تكون نزوة هجرانها. والذي يحدث- غالباً- إن الزوج في مرحلة ما يمل من تفتيش مابين كلماته وجيوبه ويهجر العلاقة. مؤكداً للمرأة هاجسها القديم الثقيل بأنه غير مؤتمن ومؤذى.
إن هذا النمط السلوكي وما يتبعه من قناعات. ليس حصراً على السودان فحتى الغرب ناقش هذه المشكلة التي عانت مجتمعاته منها لفترة طويلة وتقول الكاتبة والأخصائية النفسية نانسي فرايد: " أن جزء من المشكلة يكمن في إننا حتى عندما نكبر فإن الطفلة التي في داخلنا تبقى مثبتة، فى مواجهة الأم، على مرحلة بدائية جداً من الحياة، تبقى مشبعة بالأفكار المتبقية عن القدرة الكلية الطفولية حيث لا تمييز بين الغضب والإبادة . لا يتركنا لاشعورنا نشعر، ناهيك عن التعبير بالسخط تجاه الأم.
كما تقول الأخصائية النفسية د. ليلى انغليز" فكرة السخط على الأم لأنها خانعة لفكرة مرفوضة ببساطة، والشيء الوحيد الأكثر صعوبة في مواجهته هو سخط الأم على طفلتها. ذلك مستحيل تقريباً ثمة الكثير من الشعور بالذنب".
كما يقول الكاتب والطبيب النفسي د. روبير تيللو: " يستحسن بالمرأة أن تعرف بغضبها وان لا تختبئ منه بالقول:" إن الماما المسكينة فعلت كل ما كانت تستطيع" لأن مجرد معرفتك إن غضبك لا يخص الوضع الراهن وانه شيء طفولي. فإن هذا يساعدك على وضع الأمور في سياقها. ويحررك من أن تعيشي من جديد الوضع الماضي في الحاضر".
وتقدم الكاتبة "نانسي فرايد نموذجاً على خوف النساء من الرجال وجذوره في الطفولة فتقول: الأم التي تقول لأبنتها مهددة: انتظري حتى يأتي أبوك وأخبره بما فعلت" تصدر خوف من مواجهة الرجل لطفلتها طول حياتها. وتستدل في رأيها هذا على تجربتها مع إحدى مريضاتها قالت: كانوا يرسلونني إلى غرفتي كي انتظر وصول أبى ليعاقبني، وكنت أجلس مرعوبة منه ، والآن بعد أن صرت أعرف نفسي أفضل أعتقد أن خوفي من أن يرفضني الرجال يجد أصله في أبى غير أنى كنت احتاج لرضا أمي أكثر مما كنت أخشى أبى. بدا لي أنها حصني الوحيد ضده. لقد كانت تسيطر على البيت بما فيه أبى وهكذا بعد أن جعلت منه الشخص ذا السلطة الزائفة صارت تستخدمه وفى ذات الوقت كنا نتآمر ضده سوية فعندما أخرج كانت تقول لي : " عودي حوالي العاشرة ولكن إذا كنت سعيدة حقا فاتصلي بي وسأخبره إن الوقت ليس متأخرا كما يعتقد. ومع الوقت توصلت إلى أن أرى في أمي الضحية لهذا المخلوق الرهيب الذي يجب تملقه والكذب عليه، وإلا فإن مزاجه الوحشي قد ينفلت".
وتستعرض تجربة أخرى إذ تقول إحدى مريضاتها " لم أشرع في رؤية قسوة أبى إلا عندما ابتعدت كفاية عن البيت في المسافة والزمن. كنت أعتقد انه غول وأن أمي تحكمه. وكان في زواجي ما يوازى ذلك حيث اننى قبلت الجانب الظاهري من زواج والى فكنت عندما يغضب زوجي ويثور أقبل ذلك، إذ تربيت على ذلك هكذا هم الرجال في حالة دائمة من الهياج والغضب، لم أستطع قطعاً أن أرد على غضبه، لأن أمي أرتني أن المرأة الحقيقية تسيطر على الرجل بالرد الناعم والحيلة المخادعة ".
والمتأمل في ثقافتنا يجد إن صورة الرجل البعبع هذى تتسرب من شقوق التعامل اليومي داخل الأسرة بل حتى من حكايا الطفولة فكل الأبطال المرعبين في حكايا الطفولة هم ذكور إذ إن ذاكرة الطفلات مترعة ب" ود أم بعلو، والغيلان وأب كراع مسلوخة و..." والكثير من نماذج أبطال الحكايا المرعبين. ولقد هدفت الثقافة الذكورية من ذلك لغرس صورة مخيفة تضمن بها انصياع تام للنساء في ظلها وهو هدف خدمته بعد ذلك أنماط السلوك داخل الأسرة .
في السنوات الأخيرة في بلادنا ومع تفكك الأسر الممتدة وانتشار الزيجات بين متعلمين بدأ نمط الأب المتعسف ينزوي قليلاً وصارت النساء مع الضغط المعيشي وغياب الآباء غالب النهار هن من يقمن بدور التعنيف والعقاب في الأسرة ولكن ولأنهن متشربات للصور القديمة فغالباً ما يتركن قرارات العقاب الكبيرة مرتبطة بالأب وفى كلا الحالات هن يعدن الدائرة المغلقة التي تعطى الفتيات خيارات محدودة للمستقبل فإما أن يكن متعسفات أو ضحايا مكسورات القلب ومثل هذه النماذج من النساء لا يؤسسن أسر صحية المناخ فكما أسلفنا ستولد طفلات يحملن ذات الصفات النفسية المعقدة الممتلئة غضب محتقن يلبد سماوات أرفع العلاقات الإنسانية. فلنعيد التفكير في ما تصدره ثقافتنا السائدة لحياتنا حتماً سنجد إننا يجب أن نرفع شعارات التغيير.