وصمة عار



حامد حمودي عباس
2012 / 5 / 19

عند باب الباص ، زاحمتني احداهن وهي تهم بالركوب على عجل ، ففسحت المجال لها لأنساب خلفها بعدئذ نحو ذات المقعد في الصف الخلفي ، حيث لا يوجد متسع لي للجلوس الا في ذلك المكان .. كانت نحيفة الجسد ، ساقني حدسي بانها قد تكون دون الثلاثين من العمر .. وجهها يحمل جمالا ظاهرا يدعو للانتباه رغم ما عليه من علامات فقر الدم .. وثمة طفلة راحت تتمسك بذيل عبائتها وهي لا تريد ان تتوقف عن البكاء ..
تمايل الباص قبل ان يبدأ بالحركة ، فصاح احدهم من وسط الركاب .. اللهم صلي على محمد وآل محمد .. فهدرت الاصوات لتردد ذات الشعار ، تيمنا ببدء السفر ، وابتعادا عن بواعث الشر وأقدار الطريق ..
الركاب لا زال البعض منهم واقف يرتب حقائبه في صناديق اصطفت فوق الرؤوس ، متسببا للسائق بكثير من الازعاج ، حيث يسمع صوته وهو يقول .. اجلس يا اخي ، انت ياحاج استرح في مكانك فالوقوف غير مسموح به الان .. انت ياخاله لا تزاحمين الركاب واجلسي في مقعدك .. يلعن ابو الشغل .. لو كنت فلاحا خيرا لي من هذه المهنة الملعونه .. سوف اتوقف لو لم يجلس الجميع .. صرخ ذلك الذي يجلس قرب الباب الامامي وهو يقف في مكانه مستديرا باتجاه الخلف .. صلوا على محمد وآل محمد .. فاجابته الاعناق قبل الاصوات بنفس ما يقول ، والهرج لا زال مستمرا دون ان اتمكن التقاط جملة واحده مما يقال ..
- الاجره من فضلكم .. قالها صبي تطوع لجمع بدلات السفر من الركاب .
- ليس لدي نقود ..
سمعتها ترد وصوتها يحمل أسى العالم كله ..
- كيف هذا ؟؟ .. السائق لا يوافق ، هل علي ان ادفع لك اجرتك مع ابنتك ؟
- قل له بانني لا استطيع الدفع وانظر ما يقول .
وقبل ان يهم الصبي بأخذ الرأي في الموضوع ، وبحساب سريع قدرت من خلاله ما بجيبي ، اعلنت بعده بانني سادفع الاجرة للمرأة وابنتها فضا للنزاع ..

تهادى الباص على الطريق المعبدة مانحا الجميع فرصة للاستجابة للنوم ، ما عدى القليلين وانا منهم .. الطفلة هي الاخرى اكسبتني راحة التخلص من بكائها المتواصل فشجعتني على البدء باشباع فضولي لأعرف من هي تلك المرأة المعوزه .. فسألتها بعد تردد :
- عفوا سيدتي .. ما هذا الاثر الاحمر على صفحة وجه الطفله ؟ ، قد يكون هو السبب في ألمها وبكائها المستمر .
أحسست بصدمة هزتني حينما أدارت وجهها ناحيتي لتجيب على سؤالي .. لقد شعرت حينها بوخزة داهمتني في ناحية صدري اليمنى وأنا اتطلع الى عيون اصطبغ سوادها بلون غير اعتيادي ، فبدت واسعة كعيون الهنود ، تحيطها رموش طويلة تداخلت أطرافها لتبدو اكثر كثافة .. شفتها السفلى يحدها من الاسفل خط ابيض رفيع يدل على الجفاف ، في حين انحسر شالها عن صفحة رأسها القريبة مني لتظهر حلمة اذنها تغطيها خصلات من الشعر الاحمر ، خمنت بانه شعر اشسيب مطلي بلون الحناء .. قالت وهي تحاول اعادة ربط الشال لتستر الظاهر من رقبتها السمراء :
- لقد ضربها ابوها صباح هذا اليوم ، ليترك هذا الاثر على وجهها .
- ما السبب ؟ .. انها لا زالت صغيره ؟
- القصة طويلة سيدي ، وقد يتعبك سماعها ..
مرت لحظات عدنا فيها نحن الاثنين الى الصمت ، ثم أردفت قائلة :
- خرجت من الدار ولم تقبل ابنتي ان ترافقني لكونها كانت لم تزل نائمه ، فانت تعلم بان البعوض لا يترك للناس فرصة للنوم هذه الايام الا حينما يحل الفجر .. زوجي ارغمها على الاستيقاظ وعندما لم تستجب ، ضربها بعنف ، وحدث ما تراه .
- لا بد وانك مسافرة لعدة ايام ويجب ان تكون الطفلة معك .. ولكن حتى لو كان هذا هو السبب ، كان بالامكان اقناعها بغير الضرب .
ندت عنها حسرة شعرت بحرارتها وانا في مكاني ، مما جعلني اتمسك بضرورة الاستفادة من تجربة جديدة بطلتها امرأه .. فالتجارب الغنية بالنفع المعرفي بخفايا الظلم الاجتماعي غالبا ما تكون مصادرها نساء .. ترى أيمكن ان تكون رفيقة سفري هذه منبعا لجديد اثبت من خلاله بان ركيزة الاضطهاد في بلادنا يبدأ من الظلم المسلط على المرأة ؟ ... داخلني شعور بانها ستكمل حديثها دون ان ادعوها لذلك ، وهكذا كان :
- لم يشأ ان يعمل رغم حاجتنا الماسة انا وابنته للقوت .. ورغم انني اقوم برعايته وتنفيذ كل رغباته .. ورغم انه يتمتع بصحة جيده ، وليس هناك ما يعيق عمله لو أراد ... خمس سنوات مرت على زواجنا وهو يزداد عجزا كل يوم ، ويزداد اعتماده على ما ادفعه له كل مساء ليسد حاجته من السكائر والطعام وحبوب الهلوسة ..
- وما هو عملك ؟
أشارت لي بيدها لتبين لي بانها تشحذ .. اهتزت فرائصي وبدا لها وكأنني لا أصدق .. فقالتها بلسانها همسا :
- نعم .. أشحذ رزقي في منطقة بعيدة عن سكني ، تساعدني طفلتي هذه في كسب عطف المارة ، وابقى حتى يقترب المساء ، فأعود اليه حيث يكون بانتظاري لأسلمه كد يومي بعد أن يتأكد من أنني لم أخرج عن حدود الحرص ، ولم أنفق ما يتسبب بغضبه فتكون الطامة الكبرى حينها علي وعلى الطفله .
- ماذا يفعل مثلا لو رفضت الانصياع لرغباته ؟
- سوف يضربني وابنتي ويمزق ثيابي ويجهز على كل شيء يعود لنا في البيت ؟ .
- ألا يوجد من يحميك من اهلك او اقاربك ؟
- لم يفعل أحد منهم ذلك ؟
- اليس في الدار شيئا يتيح لك استخدامه بضربه على أم رأسه أو جدع أنفه وهو غافل ؟ .. لماذا لا تقاوميه بأي سبيل وهو ضعيف حتما يأكله الادمان ؟ .. لماذا لاتجدعين أذنه بسكين أو ترفسيه على مثانته ليعتبر ويتراجع عن غيه ؟ ..
كنت وأنا اتحدث معها أشعر بالاختناق ، وبان جسدي ينضغط بجميع خلاياه ، متحفزا للقفز من داخل الباص والانقضاض على ذلك المسخ بما لدي من قوة أبقاها لي القدر السيء ، كي أميته اختناقا تحت أي ثقل متاح .. ترى أين الدين من هذا ؟ .. أين الحكومه ؟ .. أين بواعث الغيرة العربية السباقة للتباهي امام العالم بانها من بقايا ارث السلف الصالح ؟ .. كم واحدة كهذه الضحية تئن تحت وطأة مجرم كذلك السكير الحقير ، ولا تجد من ينقذها لتعود زهرة تنفتح لها النفوس قبل القلوب ؟ .. لماذا ياترى تحمي المجتمعات المتمدنة نسائها واطفالها من تسلط ذكوري قد يقع حتى ولو عن غير قصد ، رغم ان تلك المجتمعات هي وقود نار الله لكفرها ونزقها المشين بنظر كهان معابدنا ووعاظ منابرنا الميامين ؟ .. ما هي وقائع اتهام هذه المرأة يوم الحشر لو سيقت رغما عنها للسقوط تحت براثن الرذيلة ؟.. كيف يصار الى تقييدها بسلاسل الجريمة يوم ذاك حين يقرر أصحاب الفضيلة رجمها بتهمة الزنى في الدنيا قبل عقاب الآخره ؟ .. من يحمي هذه الضحية من تحرش لصوص طلب الأنس الرخيص وهي تجلس في قارعة الطريق ، لتوفر راحة لرجل بيتها وفق اوسخ عقد بين بشرين لم يراعي لآدميتها من حقوق ؟ ..
توقف الباص .. وحين وطأت قدماي اسفلت الشارع ، كنت راغبا في الذهاب معها الى حيث تمارس عملها المهين ، لولا قسوة ذات العرف حين يتهمني بعار مصاحبة امرأه ..