قراءة الشخصية في حديث العتمه  لفاطنة البيه



حليمة زين العابدين
2012 / 6 / 25

+ ثقافة بصيغة المذكر

قرأت رواية "فاطنة البيه" أول مرة، وأنا لازلت في غمرة انشدادي إلى تجربة السجن التي مهما قيل، ومهما كتب عنها، لن يملأ ثغرة من الثغرات التي أحدثها الجلادون في وجدان جيل بأكمله، جيل أدرك نهاية الاستعمار الفرنسي طفلا أو رضيعا، وعاش يحلم لهذا الوطن بالخلاص من بقايا ذل الاستعمار، وقد اكتسى لون الاستقلال، وكان السجن والمنفى ضريبته على هذا الحلم.

كنت اعرف صاحبة الرواية. عرفتها قبل أن أراها، كنت إذاك تلميذة أتظاهر وزميلاتي وزملائي التلاميذ في شوارع مدينة مراكش تنديدا باعتقال طالها وهي تلميذة بإحدى ثانويات مدينة الدار البيضاء. صغارا كنا، نحكي عن فاطنة التي نسمع عن نضالها وصمودها، ينسج خيالنا حكايا غرائبية عن الطفلة فاطنة المناضلة، التي تعرضت لاعتداءات قمعية متتالية، وما انكسرت ولا انهزمت. وحَملتُ صورتها في مخيلتي بمواصفات الأبطال الأسطوريين، تسكنني رغبة اللقاء بها. وما التقينا في رحاب الجامعة، ولو أننا من نفس الجيل، لأنها اعتقلت للمرة الثانية، قبل أن يجمعنا نفس الشعار بساحة 24 يناير بكلية الآداب بالرباط، وصاحب اعتقالها، كما في المرة الأولى، ليس ضجة إعلامية، إذ الصحافة في ذاك الزمان كانت محاصرة مكتومة الأنفاس، وفاطنة اعتقلوها خلسة، بعيدا عن أعين أحبابها وأقربائها، ولكن صاحبه نسيج من الحكايا، تصب كلها نحو إضفاء طابع الفعل الأسطوري على فاطنة: "امرأة تسكن فوهة البركان، امرأة لا تنحني، لا تقول نعم، فاطنة ليست بنتا، إنها رجل حديدي...".
أوصاف كثيرة أخرجت فاطنة من دائرة النساء، رددناها ونحن تلاميذ، ثم ونحن طلبة، حيث إن ثقافتنا المذكرة التي لم تتح لنا أن نقارب فاطنة في فعلها الإنساني، جعلتنا نبعد فعلها البطولي عن المرأة.
ومن إعجاب بها، استكثرنا عليها أن تكون امرأة، رسمها لي ذهني امرأة مختلفة عن النساء، وفي شكلها أقرب إلى صورة الرجل.
حين رأيتها أول مرة، كان ذلك بسجن النساء بمدينة القنيطرة، تشد بكلتا يديها على قضبان المزار، لا تفارق الابتسامة شفتيها، رقيقة وجذابة وجميلة فوق الوصف. أدركت حينها أننا اغتصبنا فاطنة حقها في أن تكون امرأة ، كما اغتصب السجان هويتها ونزع عنها اسمها، ليستبدله باسم مذكر "رشيد".
نحن من إعجاب اغتصبنا فاطنة أنوثتها، لأننا استكثرنا على امرأة فعلا بطوليا، والسجان، من حقد وكراهية، اغتصب فاطنة هويتها، لأنه يرفض وجود امرأة مناضلة، وأن يحمل هذا الجسد الرقيق العذب تحديا وعقلا يخطط لتغيير القوانين والأنظمة الاستبدادية القاهرة واستبدالها بقوانين تشرع للمساواة والحرية.

+صراخ الهوية

إن معاناة فاطنة مع انتزاع الاسم منها، وطمس الهوية، ونضالها من داخل السجن ليعرف العالم كله أن فاطنة امرأة وليست رجلا، هو رهان حديث العتمة.
حديث العتمة ، صوت ينطلق قويا من أعماق ذات امرأة، يعبر عن خصوصية ثقافية تتسم بالجدة في عالم كان يهيمن عليه الوعي الذكوري، ويعلن عن اختلاف النوع البيولوجي وخصوصيات المرأة التي لا يمكن أن يمحوها دخول فعلها في دائرة السياسة المحظورة على الرجل ذاته.
حديث العتمة، هو مسرود فاطنة البيه عن عالم السجن، وذاكرتها المستعادة لبناء عالم الغياب، العالم المعتم والكريه، حيث يجرد الإنسان من إنسانيته، ويختزل في رقم، لا اسم ولا عنوان ولا معرفة بحدود الزمان والمكان، هو استعادة لعالم السجن بالكتابة، حيث تستعيد الذات حضورها وتستعيد الهوية معناها، فأسماء الشخصيات في بنية الخطاب هي ذاتها في الواقع، وأسماء الأمكنة هي الأسماء نفسها التي جرت فيها الأحداث المسرودة. ففاطنة الكاتبة والساردة والشخصية في حديث العتمة، هي صرخة على التعتيم الذي مورس على قضيتها، على إنسانيتها، على خصوصيتها، صرخة تطلق الأسماء على مسمياتها، وتصف الأشياء بنعوتها، بلا ترميز أو تمويه. فالشخصيات التي تنهض ببناء النص المسرود هي شخصيات مرجعية وواقعية: وداد ، مارية، اليوسفي قدور وغيرها.
وإن كان الفاصل الزمني بين ما حدث وزمن الكتابة يتجاوز مداه عشرين سنة، فمخزون ذاكرة فاطنة في زمن السرد، ينسج الحقائق كما جرت في الواقع، يسترجع مرارة الاغتراب القسري عن الذات، عن قسوة الابتعاد عن فضاءات الحب والحلم والألفة...
حديث العتمة، كتابة عن السجن، من داخله، بصوت امرأة تحصن ذاكرة جماعية من النسيان، ذاكرة نساء حملن مشروعا ثوريا، وحلمن بالحرية، بالمدارس للأطفال، والمعامل للعمال، و الأرض لمن يحرثها، وبأشياء كثيرة رائعة وجميلة، كانت ترى يومها من قبيل اليوثوبيا أو الخيال، ولأجلها دخلن السجن، صغيرات في عمر الزهور، أكبرهن عمرها اثنان وعشرون سنة.
سبع نساء، عشن تجربة السجن وعبرن عنها ببوليفونية جماعية، فاطنة الساردة، العليمة بكل الوقائع المسرودة. وداد، ولطيفة، ومارية والنكية وخديجة... حكين بصوت جماعي مسيرتهن في عالم السجون والأقبية، تتردد في أصواتهن عبر المسار السردي لحديث العتمة، آثار القهر المركب، فهن إضافة لما يلاقين من مختلف أشكال التعذيب لانتزاع اعترافهن، ومن امتهان الكرامة لقتل كل الأحلام الجميلة التي راودتهن، تمارس عليهن سادية بطريركية، تركت آثار قهرها في وجدانهن ونفسيتهن كما الندوب التي تركها على أجسادهن الصفع والجلد والرفس وغطس الرأس في الماء القذر، قالت فاطنة بكثير من الألم :"جردوني من اسمي و أسموني رشيد" قالت وداد: ."مع ملاحظة أن الحراس عينة من البشر، تنعدم لديهم أدنى المشاعر الإنسانية، قال أحدهم مرة لصاحبه، أرأيت هؤلاء الفتيات، يردن أن يدخلن عالم السياسة، وأن يقمن بأعمال الرجال، اختر معي أسماء رجال لهن. وهكذا اختاروا لكل واحدة منا اسم رجل" ص115. وقالت لطيفة: "قضينا أربعة أشهر بهذا المعتقل السري، كنا سبع فتيات من بين أزيد من مائة معتقل، كنا ننام في الممر، بينما ينام الذكور داخل القاعات. وللتمويه على وجود إناث داخل المعتقل، كان ينادى علينا بأسماء الذكور، فكنت أدعى سعيد أو الطويل أو الدكالي" ص123

+حلم لا يحاصر

إنهن عبر ترحيلهن من قبو لقبو، ومن سجن لسجن، كن يتمردن على نمطية الاعتقال، وعلى السجان، ففي كل فضاء سجني يكيفن أجسادهن مع أبعاده، ليحولن صمته إلى حديث لا ينتهي، ويحولن رطوبته وعفونته إلى دفء إنساني لا مكان فيه للأحقاد أو صراع الاختلاف. ولم يكن إسمنت جدران الزنازن وحديد أبوابها بقادر على منعهن من استعادة ذكرياتهن، وحكيها منطلقات بخيالهن في الفضاءات التي اقتلعن منها، حيث الأهل والأحبة، وحيث مرتع الطفولة وأحلام الشباب المعلب في الزنزانة، في محاولات للابتعاد عن هذا العالم السجني ومؤثثاته، من فواعل متعددة ومتنوعة، حراس المخافر وحارسات السجون، شخوص تخلو من الصفات الآدمية، يضاعف من حدة الإحساس بعدوانيتها، كثرة الصراصير والفئران بالزنازن، وانتشار القمل بالرأس وبمختلف أماكن الجسد، يرتع فوق الندوب والجراح ، فضاءات مغلقة أليمة لا يبعد عن الإحساس بفظاعتها سوى زيارة الأهل والأقارب تعيش المعتقلات على إيقاعها نشوة الامتداد اللامتناهي خارج السجن,

+عتمات أخر

عوالم مسرود عنها في حديث العتمة تناولتها فاطنة البيه، بطريقة فيها انزياح كبير عن أشكال الكتابة عن السجن من الداخل، فهي لم توقف الحكي على الذات، تشخصن معاناتها مع الاعتقال، ولم تحتكر الكلمة كساردة وكاتبة دون رفيقاتها في الزنزانة أو في مخافر الشرطة، لقد كانت لهن الكلمة، يحكين ما وقع وهن شاهدات عليه، بحرية كبيرة في عوالم النص تعبيرا وحركة.
ولم تقف فاطنة عند عوالم رفيقاتها في حديث العتمة ، بل تناولت جوانب من مسرودها كباحثة سوسيولوجية، تشرع الأبواب على سجن النساء معتقلات الحق العام، عالم من المعاناة والقهر، تلفه العتمة والصمت، التقطت فاطنة صورا عن واقعه بكثير من التفاصيل والدقة، وما تتعرض له هته النساء من تعذيب من طرف حارسات السجن، حارسات أميات يمتثلن لأوامر الرؤساء بشكل خال من أي إحساس .
اعتمدت فاطنة الوصف لنقل حياة سجينات الحق العام في زحمة الأجساد المتراصة في العنابر، كما صورت كيف يستغل جهدهن وعملهن. ونقلت بكثير من الحياد طقوس أفراحهن وأحزانهن داخل السجن. وبعيدا عن رتابة السرد، روت فاطنة حكاية امرأة أنجبت طفلتها "إلهام" وهي بالمعتقل، فقضت إلهام أربع سنوات تجوب العنابر مغتصبة الطفولة والحق في الشمس والحياة،
ولدت تحمل إدانتها والحكم عليها بالسجن من غير اقترافها أي ذنب. صور كثيرة من واقع سجن النساء ضمتها دفتا باب حديث العتمة... اضطهاد واعتداء بالضرب والرفس على حامل في شهرها التاسع. امرأة تلد واقفة وهي بالمرحاض. صور أليمة تقدمها فاطنة بلغة متوترة تزاوج بين الانزياح الشعري والوصف الدقيق وبأسلوب يحمل رؤية العالم عند جيل غاضب ورافض لكل أشكال القهر والاعتداء على الإنسان.


المرجع: حديث العتمة لفاطنة البيه ، الفنك 2001