ترافقينى فى السفر؟ طبعاً أرافقك



نادين البدير
2012 / 7 / 10

وصلنا ظهراً. باريس منفتحة جداً، متحررة جداً، هادئة جداً، كلما أدخلها أراها متجددة. رومانسية كأنها بدأت الحياة للتو. أنا أيضاً أبدأ الحياة للتو. ورغم ما مر عليها من قرون وحروب وضوائق مالية واقتصادية فلم يتغير فى مشهدها شىء، مازالت شابة تهواها قلوب الملايين ويزورها فى العام خمس وخمسون مليوناً من البشر.

كعرب. نبرع فى السياحة بمدن العالم وعقد المقارنات متمنين لو أن مدننا تشبه واحدة من هذه العواصم أو تلك. كل منا يسافر شرقاً أو غرباً ويعقد المقارنات طالما يسير بشوارعهم، منبهراً بقوانينهم وأنظمتهم ورقيهم، ثم يعود ليصف ما رآه ببلدان الحضارات، وبعد أيام ينسى. ننسى وتتلاشى مشاهد المدن مع مشاهد كثيرة ننساها لننغمس فى حياة الرجعية من جديد. سأعقد مقارنة آمل أن أتذكرها دائماً. فى بلد الحضارات لا أحد يلوم الآخر، ثقافة اللوم هى جريمة فكرية عربية، لوم الآخر والبحث عن شماعة لتعليق كل تخلف مرير. نلوم الأنظمة على تردى الأوضاع الفكرية والاجتماعية، ونلوم العائلة على تسيير وجهات مستقبلنا بطريقة لا ترضينا، نلوم المدير لأن الترقية تأخرت بسببه، نلوم الفساد، نلوم الديكتاتورية، نلوم النساء سبب فساد الرجال... إلخ. أسهل الأمور أن تتكئ على أريكة وتعلق على الشماعات أخطاء تبلدك. نلوم ونلوم ولا نحاول تغيير شىء أبداً. ولو أننا فكرنا وحاولنا لتجمعت كل قوى الكون لخدمتنا وتسيير مهمتنا. هكذا يخدم الكون الغرب والشرق، مبتعداً عن تسيير أمورنا، ونحن «المتبلدين» نكتفى بأننا مسلمون ننتظر الجنة دون فعل ما يقربنا منها، وليكرم الله بقية العالم بالدنيا، فعذاب الآخرة قريب. باريس باردة. فى الصباح تنخفض درجات الحرارة لتبلغ حداً تشك فيه فى أنك تمر بأيام بالصيف، لكنه برود محبب يبعث على التأمل، صيف باريس لا يحرق، لكنه يلسع. يوقظنى كل دقيقة لأكتب وأفكر. باريس ممتلئة بالسياح العرب، يتظاهرون. يتفاخرون. لا وقت لديهم للبحث عن جماليات المكان الفكرية. يتقوقعون بأماكنهم الشهيرة، كأنهم لم يسافروا ليكتشفوا الجديد، إنما ليكرروا أنفسهم ويشحنوا ذاكرتهم بالتأخر من جديد.

مقارنة أخرى مستحيل أن أنساها، لأنها أساس تكوينى. فى باريس منتهى الحرية ومنتهى الإبداع، ولدينا منتهى الحبس ومنتهى الجمود. يصيح العرب: يحيا التشدد والانغلاق، وتصيح الطبيعة معلنة حرمانهم من أى معالم حضارة. حتى حين ثار المجتمع واعتقدنا أن النهضة مقبلة، تبين أن هاوية جديدة مقبلة، لدرجة صرنا معها ندعو بألا يثور العرب مرة أخرى وليبقوا نائمين. كل منحوتة هنا. كل رسم. كل مبنى، كل إبداع كان مستحيلاً تحقيقه لو لم يكن الفنان عاشقاً لإله الحرية، ولو لم يتمتع الثائر الفرنسى بإيمان مطلق بحريته المطلقة. فى منطقتنا سيعيدون على أسماعنا كثيرا ومريراً أن الحرية لها حدود، وأن الحرية مسؤولية، وأن الانفلات من القيود يعنى إغراقاً بالانسلاخ عن الثقافة والأخلاق، سيعيدون تجميدنا أكثر بالأسطوانات الفكرية ذاتها.

باسم الأخلاق ينتحر العرب. ويتحولون باسم الدين لعالة وعار على العالم، الذى يركض تجاه الفضاء، ونركض تجاه عذاب القبر وما بعد الموت. ورغم ذلك ترتفع التحرشات الجنسية فى العالم العربى لأعلى مدى، وترتفع الكراهية لأعلى مدى، فأين الأخلاق وأين الدين؟ فى باريس وغيرها تسير السيدة بمختلف الأزياء ولا يضايقها أحد، وفى المناطق العربية تسير منكسرة خائفة من خطف أو اعتداء، ولو كانت محجبة، وإن نجت لن تسلم من تحرشات لفظية بذيئة ترشقها بها كائنات تنتهى من مضايقة النساء لترفع أيديها مكبرة مهللة للصلوات. فأين الدين وأين الأخلاق؟ توقفت منذ زمن عن العد، لم أعد أحسب متى يستيقظ المجتمع من الوهم.