واقعيين ام متخلفين؟



شهلا كعبي
2012 / 8 / 6


في اطار تطلعاتنا المستقبلية لتبسيط الامور في المجتمع و رفع مستواه الفكري و الثقافي، غالبا ما نتواجه مع الکثيرين الذين بمنطق "واقع المجتمع" يعارضون اي فکرة تکون خارجة عن مالوفاتهم الفکرية و المعيشية. فهذه الجماعات الواقعية (حسب ظنها)! ، تبرر احتجاجها علي التغيير و مشکلتها مع القيم الجدد، بهذه الذريعة بان اصحابها واقعيين و لا يريدون ان يدخلوا الصراع و الاحتکاک مع المجتمع من اجل ما يسمونها احلام بعيدة المدي ام اقوال الکتب...الخ!.
اذن يا تري هل من الصحيح ان نسمي مشکلتنا مع التغيير ام عجزنا علي ايجاده بلواقعية؟ هل يعقل التحايد امام الحق الحديث (طبعا الجديد و الغريب علينا) و الظلم التقليدي بهذه الحجة باننا واقعين؟ و اخيرا ماهي الواقعية في التعامل مع البيئات المتخلفة؟ او بلاحري ماذا تعني لنا عبارة " المجتمع المتخلف"؟ هل يجب ان تکون الحافز المشجع نحو القضاء علي التخلف ام انها تلزمنا بان لا نذهب بعيدا بافکارنا بل نعيش متخلفين احتراما لمشاعر الاخرين و قناعاتهم؟
قبل الاجابة عن هذه الاسئلة يجدر الاشارة باننا لسنا هنا بصدد الخوض في بحث مفهموم الواقعية. فهذا الموضوع يکون خارج نطاق هذه السطور و انه بحث نسبي و کذلک وسيع جدا. و ما يشغلنا هنا هو ان لا نخلط بين الواقعية و التخلف. فالواقعية شيء و التخلف شيء اخر.
ان واقع اي مجتمع او اسرة و بکلمة واحدة، واقع اي جماعة التي نحن کافراد ننتمي اليها لا يعني محيط هذه الجماعة ( ام الشخص) فحسب و انما في المرتبة الاولي يعني افکار هذه الجماعة و آرائها حول الحياة و الانسان. و في حياتنا کافراد و جماعات نحن نکون مرکز الثقل و من الطبيعي ( و من المفروض کذلک) ان نعيش افکارنا و آرائنا في حياتنا الخاصة، لا ان نتکلم و نتصرف حسب قناعات و عادات الاخرين او بما نسميهم "المجتمع".
فمصطلح المجتمع ليس مجرد وهما" يمتلکه الغائبين او يکون عبئا" علينا و انما يکون بيئة بشرية لاظهار و نشاط جميع الافکار و الاراء. و طبعا حينما نتقبل فکرة "المجتمع للجميع" و حينما لا ننظر للمجتمع کشيئا" منفصل و منعزل عنا عندئذ يبقي من السهل علينا تطبيق افکارنا.. انذاک يمکننا تجنب الوقوع في فخ بعض الخطابات المخادعة التي عادة تدافع عن افکارها المتخلفة حول المراة و الحياة باسم واقع المجتمع و مقدساته. فطالما تکون المقدسات و القيم في نطاق الامور الفردية، انها محترمة و قدسيتها النسبية کذلک مقبولة، فلاي شخص قناعاته و اذواقه! لکن لا يجوز ان نظلم الاخرين(اولادنا، بناتنا، نسائنا، رفاقنا...الخ) باسم القيم و المقدسات. فما دخل و شان الاخرين بمقدساتنا؟ ما الحل حينما تتلاقي قيمنا مع قيم الغير؟ ما الحل حينما ينظر الرجل الي جسد المراة و تصرفاتها کرمزا للشرف و الرجولة و المراة تعتقد کل الايمان بانها متساوية الحقوق مع الرجل و لا سلطلة له عليها! يا تري ايجد شيئا" باسم قداسة متر"" holy meter لكي يبين لنا الطرف الاقدس في هذه الحالات!؟
طبعا اننا نعلم جيدا" بان امورات الحياة عادة لا تجري حسب المعايير الدقيقة لکن المغزي من هذا الکلام هو ان مصطلحات مبهمة و غامضة کالمقدسات، و ما شابهها من المفردات الغير شفافة لا تعذر علي المرء المساس بحريات الاخرين. فلاي شخص قيمه و مقدساته.
و من ناحية اخري فواقعنا کاسرة و مجتمع( ام افراد) يعني بلدرجة الاولي حاضرنا و لا ماضينا، اذن کيف يمکن ان نکون واقعيين و نحن مازلنا نري الامور و نقيمها بنفس مقاييس اجدادنا و آبائنا . فلزمن تغير و کذلک المعايير و المقاييس تغيرت و تبدلت. (في العلوم الطبيعية يقولون انه عصر النانو). لهذا لا يمکننا ان نقيم بعض الامور العادية و الغير مرتبطة بنا ، بنفس معايير اجدادنا. فربما ابائنا کانوا يفتقدون القدرة و الادراک لفهم او استيعاب مدي عمق العلاقة الموجودة بين تحقيق الذات (نعيش كما نفكر و نتابع ما نهوي) و الاحساس بالسعادة. اذن لماذا يلح البعض علي ان يکونوا اوفياء لتلک الجهل؟ فقد ولي زمن الخرافات و التعتيم.
ففي العصور القديمة، کان المرء يخشي البوح بمشاعره وافکاره المنافية لادعائات الاکثرية لانه کان بحاجة للدعم القبلي و رضاء الاخرين. لکن في هذا العصر الذي خيرات الثقافة القبلية انتهت ( علي ارحج الظن)، لماذا بقينا نحتفظ بخوفنا من الخروج عن المالوف و الجماعة؟ فمن اي خسارة نخاف؟ وهل من خسارة تکون افدح من مضي العمر بالخوف و التخلف و النفاق؟.
فاننا نعيش مرة واحدة في هذا العالم و کذلک نجهل موعد رحيلنا اذن لما کل هذا التاجيل و الخوف في تطبيق اعتقاداتنا و متابعة احلامنا؟ فلنطلق سراح انفسنا وحرياتنا فربما بعد ذلک نکشف شيئا"، ام موهبة ام طاقة ام شعورا" ...الخ، في داخلنا(ربما)! " و من عرف نفسه فقد عرف ربه"( النفس ← الرب و لا العكس).
فلننظر قليلا" الي العالم و نتامل ما حققه الانسان الطليق من انجازات و نجاحات. طبعا لا اقيس مجتمعنا مع المجتمع الغربي (فانه قياس مع الفارق) و انما لنستوعب مدي تاخرنا عن التوقيت العالمي و العقلي. و لعل العثور علي جسيم بوزن هيغز او ما يسميه الاعلام بجسيم الرب "God Particle" الذي تم الاعلان عنه قبل اسابيع يکون احدث و اعظم هذه الانجازات المذهلة .( يعتقد العلماء ان هذا الجسيم هو المسئول عن تماسک المادة و اعطاء الطاقة لباقي الجسيمات و کذلک انه المسئول عن الانفجار العظيم الذي ادي الي نشاة الکون علي هذه الحالة. و لهذا فلاعلان عن رصده بنسبة %99.999 قد اذهل العالم العلمي باسره.)
نعم في عصرنا هذا يراهن الانسان المتطور عقليا" علي قدراته في فهم اسرار العالم. و هذا الرهان يکون منطقي. فهذه الامم تجاوزت مرحلة التعرف علي جسد الانسان و من بعدها و صلت الي اتفاقيات حول علاقات البشر في ما بينها (او جسد المجتمع) و الان بعقولها النيرة تسعي جاهدة الي کشف الغاز الکون و سبل تکوينه.( و ربما محاکاته او اعادة صياغته في المستقبل). و هذا التغير او بلاحري التطور المعرفي من جسم الانسان الي جسم العالم يکون بديهيا نوعا" ما ( نظرا" الي القدرات الهائلة الكامنة في عقل الانسان و حواسه). لکن العيب و الخلل يكون فينا. نحن الذين وقفنا عند مستوي جسد الانسان و مازلنا نتعامل مع کثير من الامور و القضايا علي اساس موضعها من الشئون الجسدية. و الاسواء من هذا، دفاعا" علي زينا المفضل لهذا الجسد، شوهنا كثير من المفاهيم و القيم. و بدل ان نعترف بان دفاعاتنا المتعصبة عن العادات و التقالييد و الثقافة تهدف في الاصل الي تثبيت صورة خاصة للجسد، خدعنا انفسنا و الاخرين و زعمنا ان تشبثنا بهذه التقاليد ليس من اجل الجسد فحسب و انما المعركة تكون حول الشرف و الثقافة و الهوية! ( يجوز ان لا نتعمد هذا الزعم. فربما الاساس في هذه الاراء ينبعث من عقليتنا المتخلفة التي تري كل الامور و القضايا من منظر الشكل و الصور. و الخطر الاعظم ياتينا من هذه العقلية المتخلفة ( العقلية الشکلية او الصورية) لان حتي اذا تكلمت هذه العقلية عن الحرية و التحرير لكن حقيقة تخلفها تجعلها ان تبحث عن الاشكال و اللغات في التحرير و من ثم تقدم لنا هذه العقلية افراد متطورين شكليا" و لغويا" و في نفس الوقت متخلفين عقليين دون اي قوة علي التحليل الصائب او التمييز بين الامور).
فکل الشعوب و بما فيها الشعوب المتقدمة و المتطورة لديها ثقافات و عادات و تقاليد و تاريخ و لا احد ينکر دور هذه التقاليد في تکوين تاريخ الامم و هويتها. و من واجبنا ان نهتم بلغتنا و اعيادنا، و آثارنا الثقافية و الحضارية و كذلك تاريخنا ( و الحفاظ علي عدم تحريفه) لکن لا يعقل بان نتعامل مع قضايا اليوم علي اساس عادات و قيم ابائنا و اجدادنا.
فاننا و کعرب ( حالنا مثل حال کثير من الشعوب و القوميات) علي الارجح کنا نقطن القري و کانت لنا حياة ريفية و قبلية بسيطة جدا( و دون اي ماء نقية او کهرباء اوطرق آمنة و...الخ)، و اهلنا کذلک كانوا اميين( الغالبية ) و علاقاتهم کانت محددة و روتنية و دون اي اتصالات مع باقي الناس و المدن و ...الخ. اذن کيف يمکن ان نطبق نفس العقلية و المعايير في حياة هذا العصر؟.
فتغيير الحياة يلزمنا بتغيير القيم، او بلاحري لكي لا نفشل في زماننا، اننا مضطرين لخلق بعض التغيرات في القيم الاسرية و الاجتماعية. و ربما اسرنا يواجهون صعوبة و ربما غرابة في فهم افكارنا و آرائنا، لکن هذا الاستغراب و الاعتراض وحده غير قادر علي اخضاعنا و تثبيطنا، الا اذا امتزج بعدم ايماننا. لان الانسان يخضع بلاخير لحسه الغالب و كلما زاد ايمانا بافکارنا، لضحينا برضاء لاخرين من اجل عقائدنا و اجتزنا الصعوبات و العوائق. اذن يمکننا القول ان مداراتنا مع هذا الوضع الغيرحضاري و صبرنا الايوبي علي تحکم الاخرين بنا و بخياراتنا لا يعني انننا واقعيين و انما الارجح في معناه هو اننا متخلفين .